العدل والظلم
العلاقة مع المجتمع
العدل ضد الظلم، وهو مناعة نفسية، تردع صاحبها عن الظلم، وتحفّزه على العدل، وأداء الحقوق والواجبات. وهو سيد الفضائل، ورمز المفاخر، وقوام المجتمع المتحضر، وسبيل السعادة والسلام. وقد مجّده الاسلام، وعنى بتركيزه والتشويق اليه في القرآن والسنة.
عدد الزوار: 104
•العدل
العدل ضد الظلم، وهو مناعة نفسية، تردع صاحبها عن الظلم، وتحفّزه على العدل، وأداء الحقوق والواجبات.
وهو سيد الفضائل، ورمز المفاخر، وقوام المجتمع المتحضر، وسبيل السعادة والسلام.
وقد مجّده الاسلام، وعنى بتركيزه والتشويق اليه في القرآن والسنة:
قال تعالى: ﴿إنّ اللّه يأمر بالعدل والاحسان﴾(النحل:90).
وقال سبحانه: ﴿وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى﴾(الانعام:152).
وقال عز وجل: ﴿إنّ اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل﴾(النساء:58).
وقال الصادق عليه السلام: "العدل أحلى من الشهد، وألين من الزبد، وأطيب ريحاً من المسك"1.
وقال الراوي لعلي بن الحسين عليه السلام أخبرني بجميع شرائع الدين؟ قال: "قول الحق، والحكم بالعدل، والوفاء بالعهد"2.
وقال الرضا عليه السلام: "استعمال العدل والاحسان مؤذن بدوام النعمة"3.
أنواع العدل
للعدل صور مشرقة تشع بالجمال والجلال، وإليك أهمها:
1- عدل الانسان مع اللّه عز وجل: وهو أزهى صور العدل، وأسمى مفاهيمه، وعنوان مصاديقه، وكيف يستطيع الانسان أن يؤدي واجب العدل للمنعم الأعظم، الذي لا تحصى نعماؤه، ولا تعدّ آلاؤه؟!
وإذا كان عدل المكافأة يُقدّر بمعيار النعم، وشرف المنعم، فمن المستحيل تحقيق العدل نحو واجب الوجود، والغني المطلق عن سائر الخلق، الا بما يستطيعه قصور الانسان، وتوفيق المولى عز وجل له.
وجماع العدل مع اللّه تعالى يتلخص في الايمان به، وتوحيده، والاخلاص له، وتصديق سفرائه وحججه على العباد، والاستجابة لمقتضيات ذلك من التوله بحبّه والتشرف بعبادته، والدأب على طاعته، ومجافاة عصيانه.
2- عدل الانسان مع المجتمع: وذلك برعاية حقوق أفراده، وكفّ الأذى والاساءة عنهم، وسياستهم بكرم الأخلاق، وحسن المداراة وحبّ الخير لهم، والعطف على بؤسائهم ومعوزيهم، ونحو ذلك من محققات العدل الاجتماعي.
وقد لخّص اللّه تعالى واقع العدل العام في آية من كتابه المجيد: ﴿إن اللّه يأمر بالعدل والاحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون﴾(النمل:90).
وقد رسم أمير المومنين عليه السلام منهاج العدل الاجتماعي بايجاز وبلاغة، فقال لابنه:
"يا بنُيّ إجعل نفسك ميزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تُظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن اليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم وإن قلّ ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك".
أوصى عليه السلام ابنه الكريم أن يكون عادلاً فيما بينه وبين الناس كالميزان، ثم أوضح له صور العدل وطرائقه إيجاباً وسلباً.
3- عدل البشر الأحياء مع أسلافهم الأموات: الذين رحلوا عن الحياة، وخلّفوا لهم المال والثراء، وحرموا من متعه ولذائذه، ولم يكسبوا في رحلتهم الأبدية، الا أذرعاً من أثواب البلى، وأشباراً ضيقة من بطون الأرض.
فمن العدل أن يستشعر الأحياء نحو أسلافهم بمشاعر الوفاء والعطف وحسن المكافاة، وذلك بتنفيذ وصاياهم، وتسديد ديونهم، وإسداء الخيرات والمبرات اليهم، وطلب الغفران والرضا والرحمة من اللّه عز وجل لهم.
قال الصادق عليه السلام: "إنّ الميّت ليفرح بالترحم عليه، والاستغفار له، كما يفرح الحي بالهدية تُهدى اليه".
وقال عليه السلام: "من عمل من المسلمين عن ميت عملاً صالحاً، أضعف اللّه له أجره، ونفع اللّه به الميت"4.
4- عدل الحكام: وحيث كان الحكام ساسة الرعية، وولاة أمر الأمة، فهم أجدر الناس بالعدل، وأولاهم بالتحلي به، وكان عدلهم أسمى مفاهيم العدل، وأروعها مجالاً وبهاءً، وأبلغها أثراً في حياة الناس.
بعدلهم يستتب الأمن، ويسود السلام، ويشيع الرخاء، وتسعد الرعية. وبجورهم تنتكس تلك الفضائل، وتغدو الأمة آنذاك في قلق وحيرة وضنك وشقاء.
محاسن العدل
فطرت النفوس السليمة على حب العدل وتعشقه، وبغض الظلم واستنكاره. وقد أجمع البشر عبر الحياة، وإختلاف الشرائع والمبادئ، على تمجيد العدل وتقديسه، والتغني بفضائله ومآثره، والتفاني في سبيله.
فهو سرّ حياة الامم، ورمز فضائلها، وقوام مجدها وسعادتها، وضمان أمنها ورخائها، وأجل أهدافها وأمانيها في الحياة.
وما دالت الدول الكبرى، وتلاشت الحضارات العتيدة، الا بضياع العدل والاستهانة بمبدئه الأصيل، وقد كان أهل البيت عليهم السلام المثل الأعلى للعدل، وكانت أقوالهم وافعالهم دروساً خالدة تنير للانسانية مناهج العدل والحق والرشاد.
وإليك نماذج من عدلهم
قال سوادة بن قيس للنبي صلى اللّه عليه وآله في أيام مرضه: يا رسول اللّه إنك لما اقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء، وبيدك القضيب الممشوق، فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة، فأصاب بطني، فأمره النبي أن يقتصّ منه، فقال: اكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه فكشف عن بطنه، فقال سوادة: أتأذن لي أن اضع فمي على بطنك، فأذن له فقال: أعوذ بموضع القصاص من رسول اللّه من النار يوم النار. فقال صلى اللّه عليه وآله: يا سوادة بن قيس اتعفو أم تقتص؟ فقال: بل أعفو يا رسول اللّه. فقال: اللهم أعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمد5.
وقال أبو سعيد الخدري: جاء أعرابي الى النبي صلى اللّه عليه وآله يتقاضاه ديناً كان عليه، فاشتدّ عليه حتى قال له: أحرّج عليك إلا قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك، تدري من تكلم؟!! قال: إني أطلب حقّي. فقال النبي صلى اللّه عليه وآله: هلا مع صاحب الحق كنتم، ثم أرسل الى خولة بنت قيس فقال لها: إن كان عندك تمر فأقرضينا، حتى يأتي تمرنا فنقضيك. فقالت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه. قال: فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه. فقال: أوفيت أوفى اللّه لك؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "اولئك خيار الناس، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع".
وقيل: إن الاعرابي كان كافراً، فأسلم بمشاهدة هذا الخلق الرفيع، وقال: يا رسول اللّه ما رأيت أصبر منك6.
وهكذا كان أمير المؤمنين علي عليه السلام:
قال الصادق عليه السلام لما ولي علي صعد المنبر فحمد اللّه، وأثنى عليه، ثم قال: إني لا أرزؤكم من فيئكم درهماً، ما قام لي عذق بيثرب، فلتصدقكم أنفسكم، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم؟!! قال: فقام اليه عقيل كرّم اللّه وجهه فقال له: اللّه، لتجعلني وأسود بالمدينة سواء، فقال: اجلس، أما كان هنا أحد يتكلم غيرك، وما فضلك عليه إلا بسابقة أو بتقوى7.
وجاء في صواعق ابن حجر ص 79 قال: وأخرج ابن عساكر أن عقيلاً سأل علياً عليه السلام فقال: إني محتاج، وإني فقير فاعطني. قال: إصبر حتى يخرج عطاؤك مع المسلمين، فأعطيك معهم، فألح عليه، فقال لرجل: خذ بيده وانطلق به الى حوانيت أهل السوق فقل له دقّ هذه الأقفال، وخذ ما في هذه الحوانيت. قال: تريد أن تتخذني سارقاً؟ قال: وأنت تريد أن تتخذني سارقاً، ان آخذ أموال المسلمين فأعطيكها دونهم؟ قال: لآتين معاوية. قال: أنت وذاك. فأتى معاوية فسأله فأعطاه مائة ألف، ثم قال: اصعد على المنبر، فاذكر ما أولاك به عليّ وما أوليتك، فصعد فحمد اللّه، وأثنى عليه، ثم قال: ايها الناس اني أخبركم أني أردت علياً عليه السلام على دينه فاختار دينه، وإني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه8.
ومشى اليه عليه السلام ثلة من أصحابه عند تفرق الناس عنه، وفرار كثير منهم الى معاوية، طلباً لما في يديه من الدنيا، فقالوا: يا أمير المؤمنين إعط هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، ومن تخاف عليه من الناس فراره الى معاوية، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: "أتأمروني أن أطلب النصر بالجور، لا واللّه ما أفعل، ما طلعت شمس، ولاح في السماء نجم، واللّه، لو كان مالهم لي لواسيت بينهم، وكيف وإنما هي أموالهم"9.
وقال ابن عباس: اتيته (يعني امير المؤمنين علياً) فوجدته يخصف نعلا، ثم ضمها الى صاحبتها، وقال لي: قوّمها. فقلت: ليس لهما قيمة. قال: على ذلك. قلت: كسر درهم. قال: واللّه، لهما أحب اليّ من أمركم هذا إلا أن أقيم حداً (حقاً) أو ادفع باطلاً10.
وهو القائل: "واللّه لئن أبيت على حسك السعدان مسهداً، واجرُّ في الأغلال مصفداً، أحب اليّ من أن القى اللّه ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام، وكيف أظلم أحداً لنفس يسرع الى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها"11.
•الظلم
الظلم لغة: وضع الشيء في غير موضعه، فالشرك ظلم عظيم، لجعله موضع التوحيد عند المشركين.
وعرفاً هو: بخس الحق، والاعتداء على الغير، قولاً أو عملاً، كالسباب، والاغتياب، ومصادرة المال، واجترام الضرب أو القتل، ونحو ذلك من صور الظلامات المادية أو المعنوية.
والظلم من السجايا الراسخة في اغلب النفوس، وقد عانت منه البشرية في تاريخها المديد ألوان المآسي والأهوال، مما جهّم الحياة، ووسمها بطابع كئيب رهيب.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد*** ذا عفة فلعلة لا يظلم
من أجل ذلك كان الظلم جماع الآثام ومنبع الشرور، وداعية الفساد والدمار.
وقد تكاثرت الآيات والأخبار بذمه والتحذير منه:
قال تعالى: ﴿إنه لا يفلح الظالمون﴾(الأنعام:21).
﴿إن اللّه لا يهدي القوم الظالمين﴾(لأنعام:144).
﴿واللّه لا يحب الظالمين﴾(آل عمران:57).
﴿إن الظالمين لهم عذاب أليم﴾(ابراهيم:22).
﴿ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا﴾(يونس:13).
وقال تعالى: ﴿ولا تحسبن اللّه غافلاً عمّا يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار﴾(ابراهيم:42).
وقال سبحانه: ﴿ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به ، وأسرّوا الندامة لمّا رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون﴾(يونس:54).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "واللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على ان أعصي اللّه في نملة أسلبها جُلب شعيرةٍ ما فعلت، وإن دنياكم لأهون عليّ من ورقة في فم جرادة، ما لعليّ ونعيم يفنى ولذة لا تبقى"12. وعن أبي بصير قال: "دخل رجلان على أبي عبد اللّه عليه السلام في مداراة بينهما ومعاملة، فلما أن سمع كلامهما قال: أما إنه ما ظفر أحد بخير من ظفر بالظلم، أما إن المظلوم يأخذ من دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم. ثم قال: من يفعل الشرّ بالناس فلا ينكر الشر إذا فُعل به، أما إنه انما يحصد ابن آدم ما يزرع، وليس يحصد أحد من المرّ حلواً، ولا من الحلو مراً، فاصطلح الرجلان قبل أن يقوما"13.
وقال عليه السلام: "من أكل مال أخيه ظلماً ولم يرده اليه، أكل جذوة من النار يوم القيامة"14.
وقال الصادق عليه السلام: "من ظلم سلّط اللّه عليه من يظلمه، أو على عقبه، أو على عقب عقبه".
قال (الراوي) يظلم هو فيسلط على عقبه؟ فقال: إن اللّه تعالى يقول: ﴿وليخش الذين لو تركوا مِن خَلفِهم ذريةً ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا اللّه،، وليقولوا قولاً سديداً﴾(النساء:9)15.
وتعليلاً للخبر الشريف: أن مؤاخذة الأبناء بجرائم الآباء انما هو في الابناء الذين ارتضوا مظالم آبائهم أو اغتنموا تراثهم المغصوب، ففي مؤاخذتهم زجر عاطفي رهيب، يردع الظالم عن العدوان خشية على أبنائه الأعزاء، وبشارة للمظلوم على معالجة ظالمه بالانتقام، مشفوعة بثواب ظلامته في الآخرة.
وعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: "من أصبح لايهم بظلم غفر اللّه له ما اجترم"16.
أي ما اجترم من الذنوب التي بينه وبين اللّه عز وجل في ذلك اليوم. الى كثير من الروايات الشريفة التي ستراها في مطاوي هذا البحث.
أنواع الظلم
يتنوع الظلم صوراً نشير اليها إشارة لامحة:
1- ظلم الانسان نفسه:
وذلك باهمال توجيهها الى طاعة اللّه عز وجل، وتقويمها بالخلق الكريم، والسلوك الرضي، مما يزجها في متاهات الغواية والضلال، فتبوء آنذاك بالخيبة والهوان.
﴿ونفس وما سواها، فألهما فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها﴾(لشمس:7-10).
2- ظلم الانسان عائلته:
وذلك باهمال تربيتهم تربية إسلامية صادقة، وإغفال توجيههم وجهة الخير والصلاح، وسياستهم بالقسوة والعنف، والتقتير عليهم بضرورات الحياة ولوازم العيش الكريم، مما يوجب تسيبهم وبلبلة حياتهم، مادياً وأدبياً.
3- ظلم الانسان ذوي قرباه:
وذلك بجفائهم وخذلانهم في الشدائد والأزمات، وحرمانهم من مشاعر العطف والبر، مما يبعث على تناكرهم وتقاطعهم.
4- ظلم الانسان للمجتمع:
وذلك بالاستعلاء على أفراده وبخس حقوقهم، والاستخفاف بكراماتهم، وعدم الاهتمام بشؤونهم ومصالحهم. ونحو ذلك من دواعي تسيب المجتمع وضعف طاقاته.
وأبشع المظالم الاجتماعية، ظلم الضعفاء، الذين لا يستطعيون صد العدوان عنهم، ولا يملكون الا الشكاة والضراعة الى العدل الرحيم في أساهم، وظلاماتهم.
فعن الباقر عليه السلام قال: لما حضر علي بن الحسين عليه السلام الوفاة، ضمني الى صدره، ثم قال: "يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أن أباه أوصاه، قال: يابني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً الاّ اللّه تعالى"17.
5- ظلم الحكام والمتسلطين:
وذلك باستبدادهم، وخنقهم حرية الشعوب، وامتهان كرامتها، وابتزاز أموالها، وتسخيرها لمصالحهم الخاصة.
من أجل ذلك كان ظلم الحكام أسوأ أنواع الظلم وأشدّها نُكراً، وأبلغها ضرراً في كيان الأمة ومقدراتها.
قال الصادق عليه السلام: "إن اللّه تعالى أوحى الى نبي من الأنبياء، في مملكة جبار من الجبابرة: أن إئتِ هذا الجبار فقل له: إني لم استعملك على سفك الدماء، واتخاذ الأموال، وإنما استعملتك لتكفّ عني أصوات المظلومين، فاني لن أدع ظلامتهم وان كانوا كفاراً"18.
وعن الصادق عن آبائه عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنه قال: "تكلم النارُ يوم القيامة ثلاثة: أميراً، وقارئاً، وذا ثروة من المال.
فتقول للأمير: يا من وهب اللّه له سلطاناً فلم يعدل، فتزدرده كما يزدرد الطير حب السمسم.
وتقول للقارئ: يا من تزَين للناس وبارز اللّه بالمعاصي فتزدرده.
وتقول للغني: يا من وهب اللّه له دنيا كثيرةً واسعةً فيضاً، وسأله الحقير اليسير قرضاً فأبى الا بخلاً فتزدرده"19.
وليس هذا الوعيد الرهيب مقصوراً على الجائرين فحسب، وإنما يشمل من ضلع في ركابهم، وارتضى أعمالهم، وأسهم في جورهم، فإنه وإياهم سواسية في الاثم والعقاب، كما صرحت بذلك الآثار:
قال الصادق عليه السلام: "العامل بالظلم، والمعين له، والراضي به، شركاء ثلاثتهم"20.
لذلك كانت نُصرة المظلوم، وحمايته من عسف الجائرين، من أفضل الطاعات، وأعظم القربات الى اللّه عز وجل، وكان لها وقعها الجميل، وآثارها الطيبة في حياة الانسان المادية والروحية.
قال الامام الكاظم عليه السلام لابن يقطين: "إضمن لي واحدةً أضمن لك ثلاثاً، إضمن لي أن لا تلقى أحداً من موالينا في دار الخلافة الا بقضاء حاجته، أضمن لك أن لا يصيبك حدّ السيف أبداً، ولا يظلك سقف سجن أبداً، ولا يدخل الفقر بيتك أبداً"21.
وقال أبو الحسن عليه السلام: "إن لله جل وعزّ مع السلطان أولياء، يدفع بهم عن أوليائه".
وفي خبر آخر: "أولئك عتقاء اللّه من النار"22.
وقال الصادق عليه السلام: "كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الاخوان"23.
وعن محمد بن جمهور وغيره من أصحابنا قال: كان النجاشي - وهو رجل من الدهاقين - عاملاً على الأهواز وفارس، فقال بعض أهل عمله لأبي عبد اللّه عليه السلام: إن في ديوان النجاشي عليّ خراجاً، وهو ممن يدين بطاعتك، فان رأيت أن تكتب لي اليه كتاباً. قال: فكتب اليه أبو عبد اللّه: "بسم اللّه الرحمن الرحيم سُر أخاك يسرك اللّه".
فلما ورد عليه الكتاب وهو في مجلسه، فلما خلا ناوله الكتاب وقال: هذا كتاب أبي عبد اللّه عليه السلام، فقبله ووضعه على عينيه ثم قال: ما حاجتك؟ فقال: عليّ خراج في ديوانك. قال له: كم هو؟ قال: هو عشرة آلاف درهم.
قال: فدعا كاتبه فأمره بأدائها عنه، ثم أخرج مثله فأمره أن يثبتها له لقابل، ثم قال له: هل سررتك؟ قال نعم. قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى فقال له: هل سررتك؟ قال: نعم جعلت فداك. فأمر له بمركب، ثم أمر به بجارية وغلام، وتخت ثياب، في كل ذلك يقول: هل سررتك؟ فكلما قال: نعم، زاده حتى فرغ، فقال له: إحمل فرش هذا البيت الذي كنت جالساً فيه حين دفعتَ إليَّ كتاب مولاي فيه، وارفع إليّ جميع حوائجك. قال: ففعل، وخرج الرجل فصار الى أبي عبد اللّه عليه السلام، فحدثه بالحديث على جهته، فجعل يستبشر بما فعله.
قال له الرجل: يابن رسول اللّه قد سرّك ما فعل بي؟ قال: اي واللّه، لقد سرّ اللّه ورسوله24.
وخامة الظلم
بديهي أنّ استبشاع الظلم واستنكاره، فطري في البشر، تأباه النفوس الحرّة، وتستميت في كفاحه وقمعه، وليس شيء أضرّ بالمجتمع، وأدعى الى تسيبه ودماره من شيوع الظلم وانتشار بوائقه فيه.
فالاغضاء عن الظلم يشجع الطغاة على التمادي في الغيّ والاجرام، ويحفّز الموتورين على الثأر والانتقام، فيشيع بذلك الفوضى، وينتشر الفساد، وتغدو الحياة مسرحاً للجرائم والآثام، وفي ذلك انحلال الامم، وفقد أمنها ورخائها، وانهيار مجدها وسلطانها.
علاج الظلم
من العسير جداً علاج الظلم، واجتثاث جذوره المتغلغلة في أعماق النفس، بيد أنه من الممكن تخفيف جماحه، وتلطيف حدته، وذلك بالتوجيهات الآتية:
1- التذكر لما أسلفناه من مزايا العدل، وجميل آثاره في حياة الأمم والأفراد، من اشاعة السلام، ونشر الوئام والرخاء.
2- الاعتبار بما عرضناه من مساوئ الظلم وجرائره المادية والمعنوية.
3- تقوية الوازع الديني، وذلك بتربية الضمير والوجدان، وتنويرهما بقيم الايمان ومفاهيمه الهادفة الموجهة.
4- استقراء سيَر الطغاة وما عانوه من غوائل الجور وعواقبه الوخيمة.
* أخلاق أهل البيت عليهم السلام، السيد محمد مهدي الصدر، دار الكتاب الإسلامي، ص:73.
1- الوافي ج 3 ص 89 عن الكافي، وهو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.
2- البحار م 16 كتاب العشرة ص 125 عن خصال الصدوق رضوان الله عليه.
3- البحار م 16 كتاب العشرة ص 125 عن عيون اخبار الرضا.
4- هذا الخبر وسابقه عن كتاب من لا يحضره الفقيه للصدوق.
5- سفينة البحار ج 1 ص 671.
6- فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 1 ص 122 عن صحيح ابن ماجة.
7- البحار م 9 ص 539 عن الكافي.
8- فضائل الخمسة عن الصحاح الستة ج 3 ص 15.
9- البحار م 9 ص 533 بتصرف.
10- سفينة البحار ج 1 ص 570 بتصرف.
11- سفينة البحار ج 2 ص 606 عن النهج.
12- نهج البلاغة.
13- الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي.
14- المصدر نفسه.
15- المصدر نفسه.
16- المصدر نفسه.
17- الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي.
18- المصدر نفسه .
19- البحار م 16 ص 209 عن الخصال للصدوق رضوان الله عليه.
20- الوافي ج 3 ص 163 عن الكافي.
21- كشكول البهائي طبع ايران ص 124.
22-الوافي ج 10 ص 28 عن الفقيه.
23- المصدر نفسه.
24- الوافي ج 10 ص 28 عن الكافي.