التآخي - العصبية
العلاقة مع المجتمع
التآخي:التآخي الروحي: كان العصرالجاهلي مسرحاً للمآسي والأرزاء، في مختلف مجالاته ونواحيه الفكرية والمادية. وكان من أبشع مآسيه، ذلك التسيب الخُلقي، والفوضى المدمّرة، مما صيّرهم يمارسون طباع الضواري، وشريعة الغاب والتناكر والتناحر، والفتك والسلب...
عدد الزوار: 104
التآخي الروحي
كان العصر الجاهلي مسرحاً للمآسي والأرزاء، في مختلف مجالاته ونواحيه الفكرية والمادية.
وكان من أبشع مآسيه، ذلك التسيب الخُلقي، والفوضى المدمّرة، مما صيّرهم يمارسون طباع الضواري، وشريعة الغاب والتناكر والتناحر، والفتك والسلب، والتشدق بالثأر والانتقام.
فلما أشرق فجر الاسلام، وأطل بأنواره على البشرية، إستطاع بمبادئه الخالدة، ودستوره الفذّ أن يُطبّ تلك المآسي، ويحسم تلك الأوزار، فأنشأ من ذلك القطيع الجاهلي ﴿... خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ...﴾(آل عمران:110) عقيدة وشريعة، وعلماً وأخلاقاً. فأحلّ الايمان محل الكفر، والنظام محل الفوضى، والعلم محل الجهل، والسلام محل الحرب، والرحمة محل الانتقام.
فتلاشت تلك المفاهيم الجاهلية، وخلفتها المبادئ الاسلامية الجديدة، وراح النبي صلى اللّه عليه وآله يبني وينشئ أمة مثالية تبذ الأمم نظاماً، وأخلاقاً وكمالاً.
وكلما سار المسلمون أشواطاً تحت راية القرآن، وقيادة الرسول الأعظم صلى اللّه عليه وآله، توغلوا في معارج الكمال، وحلقوا في آفاق المكارم، حتى حققوا مبدأ المؤاخاة بأسلوب لم تحققه الشرائع والمبادئ، وأصبحت أواصر العقيدة أقوى من أواصر النسب، ووشائج الايمان تسمو على وشائج القومية والقبلية، وغدا المسلمون أمة واحدة، مرصوصة الصف، شامخة الصرح، خفّاقة اللواء، لاتفرقهم النعرات والفوارق.
﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل، لتعارفوا، إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم﴾(الحجرات:13).
وطفق القرآن الكريم يغرس في نفوس المسلمين مفاهيم التآخي الروحي، مركزاً على ذلك بآياته العديدة وأساليبه الحكيمة الفذّة.
فمرة شرّع التآخي ليكون قانوناً للمسلمين ﴿إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا اللّه لعلكم ترحمون﴾(الحجرات:10).
وأخرى يؤكد عليه محذراً من عوامل الفرقة، ومذكراً نعمة التآلف والتآخي الاسلامي، بعد طول التناكر والتناحر الجاهليين، ﴿واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداءاً، فألّف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً﴾(آل عمران:103).
وهكذا جهد الاسلام في تعزيز التآخي الروحي وحماه من نوازع الفرقة والانقسام، بما شرّعه من دستور الروابط الاجتماعية في نظامه الخالد.
واليك نموذجاً من ذلك:
1- تسامى بشعور المسلمين وعواطفهم، أن تسترقها النعرات العصبية، ونزعاتها المفرّقة، ووّجهها نحو الهدف الأسمى من طاعة اللّه تعالى ورضاه: فالحبّ والبغض، والعطاء والمنع، والنصر والخذلان: كل ذلك يجب أن يكون للّه عز وجل، وبذلك تتوثق عرى المؤاخاة، وتتلاشى النزعات المفرقة، ويغدو المسلمون كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً.
واليك قبساً من آثار أهل البيت عليهم السلام في هذا المقام:
عن الباقر عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله "ودّ المؤمن للمؤمن في اللّه، من أعظم شعب الايمان، ألا ومن أحبّ في اللّه، وأبغض في اللّه، وأعطى في اللّه، ومنع في اللّه، فهو من أصفياء اللّه"1.
وقال الصادق عليه السلام: "إنّ المتحابين في اللّه يوم القيامة، على منابر من نور، قد أضاء نور وجوههم، ونور أجسادهم، ونور منابرهم، كل شيء حتى يعرفوا به، فيقال هؤلاء المتحابون في اللّه"2.
وقال علي بن الحسين عليه السلام: "إذا جمع اللّه عز وجل الأولين والآخرين، قام مناد ينادي بصوت يسمع الناس، فيقول: أين المتحابون في اللّه؟ قال: فيقوم عُنُق من الناس، فيقال لهم: اذهبوا الى الجنة بغير حساب.
قال: فتلقاهم الملائكة فيقولون: الى أين؟ فيقولون: الى الجنة بغير حساب.
قال: فيقولون: فأي ضرب أنتم من الناس؟ فيقولون: نحن المتحابون في اللّه.
فيقولون: وأيّ شيء كانت أعمالكم؟ قالوا: كنّا نحبّ في اللّه، ونبغض في اللّه.
قال: فيقولون: نعم أجر العاملين"3.
وقال الصادق عليه السلام: "كل من لم يحب على الدين، ولم يبغض على الدين فلا دين له"4.
وعن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام قال: "إذا أردت أن تعلم أن فيك خيراً، فانظر الى قلبك، فان كان يحب أهل طاعة اللّه، ويبغض أهل معصيته، ففيك خير، واللّه يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة اللّه ويحب أهل معصيته، فليس فيك خير، واللّه يبغضك، والمرء مع من أحب"5.
2- رغب المسلمين فيما يؤلفهم، ويحقق لهم العزة والرخاء، كالتواصي بالحق، والتعاون على البر، والتناصر على العدل، والتكافل في مجالات الحياة الاقتصادية، فهم في عرف الشريعة أسرة واحدة، يسعدها ويشقيها ما يسعد أفرادها ويشقيهم.
دستورها ﴿محمد رسول اللّه والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم﴾(الفتح:29).
وشعارها قول الرسول الأعظم صلى اللّه عليه وآله: "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"6.
3 - حذّر المسلمين مما يبعث على الفرقة والعداء، والفحش والبذاء والاغتياب، والنميمة والخيانة والغش، ونحوها من مثيرات الفتن والضغائن، ومبدأهم في ذلك قول النبي صلى اللّه عليه وآله:
"المؤمن من أمنه الناس على أموالهم ودمائهم، والمسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، والمهاجر من هجر السيئات"7.
4 - أتاح الفرص لانماء العلاقات الودّية بين المسلمين، كالحث على التزاور، وارتياد المحافل الدينية، وشهود المجتمعات الاسلامية، كصلاة الجماعة ومناسك الحج، ونحو ذلك.
العصبية
هي: مناصرة المرء قومه، أو اسرته، أو وطنه، فيما يخالف الشرع، وينافي الحق والعدل.
وهي من أخطر النزعات وأفتكها في تسيب المسلمين، وتفريق شملهم، وإضعاف طاقاتهم، الروحية والمادية، وقد حاربها الاسلام، وحذّر المسلمين من شرورها.
فعن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: "قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله: من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية، بعثه اللّه تعالى يوم القيامة مع أعراب الجاهلية"8.
وقال الصادق عليه السلام: "من تعصّب عصّبه اللّه بعصابة من نار"9.
وقال النبي صلى اللّه عليه وآله: "إن اللّه تبارك وتعالى قد أذهب بالاسلام نخوة الجاهلية، وتفاخرها بآبائها، ألا إن الناس من آدم، وآدم من تراب، وأكرمهم عند اللّه أتقاهم"10.
وقال الباقر عليه السلام: جلس جماعة من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ينتسبون ويفتخرون، وفيهم سلمان. فقال عمر: ما نسبك أنت يا سلمان وما أصلك؟ فقال: أنا سلمان بن عبد اللّه، كنت ضالاً فهداني اللّه بمحمد. وكنت عائلاً فأغناني اللّه بمحمد، وكنت مملوكاً فأعتقني اللّه بمحمدٍ، فهذا حسبي ونسبي ياعمر.
ثم خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله، فذكر له سلمان ما قال عمر وما أجابه، فقال رسول اللّه: "يا معشر قريش إن حَسب المرء دينه، ومروءته خُلقه، وأصله عقله، قال اللّه تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ...﴾(الحجرات:13).
ثم أقبل على سلمان فقال له: "إنّه ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بتقوى اللّه عز وجل، فمن كنت أتقى منه فأنت أفضل منه"11.
وعن الصادق عن أبيه عن جده عليهم السلام قال: "وقع بين سلمان الفارسي رضي اللّه عنه، وبين رجل كلام وخصومة، فقال له الرجل: من أنت يا سلمان؟ فقال سلمان: أمّا أولي وأولك فنطفة قذرة. وأمّا آخري وآخرك فجيفة منتنة، فاذا كان يوم القيامة، ووضعت الموازين، فمن ثقل ميزانه فهو الكريم، ومن خفّ ميزانه فهو اللئيم"12.
وأصدق شاهد على واقعية الاسلام، واستنكاره النعرات العصبية المفرقة، وجعله الايمان والتقى مقياساً للتفاضل، أنّ أبا لهب "وهو من صميم العرب، وعمّ النبي" صرح القرآن بثلبه وعذابه ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ....﴾(المسد:1-3). وذلك بكفره ومحاربته للّه ورسوله.
وكان سلمان فارسّياً، بعيداً عن الأحساب العربية، وقد منحه الرسول الأعظم صلى اللّه عليه وآله وساماً خالداً في الشرف والعزة، فقال: "سلمان منّا أهل البيت". وما ذلك الا لسمو إيمانه، وعِظم إخلاصه، وتفانيه في اللّه ورسوله.
حقيقة العصبية
لاريب أنّ العصبية الذميمة التي نهى الاسلام عنها هي: التناصر على الباطل، والتعاون على الظلم، والتفاخر بالقيم الجاهلية.
أما التعصب للحق، والدفاع عنه…، والتناصر على تحقيق المصالح الاسلامية العامة، كالدفاع عن الدين، وحماية الوطن الاسلامي الكبير، وصيانة كرامات المسلمين وأنفسهم وأموالهم، فهو التعصّب المحمود الباعث على توحيد الأهداف والجهود، وتحقيق العِزة والمنعة للمسلمين، وقد قال الامام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام: "إنّ العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكِن من العصبية أن يعين قومه على الظلم"13.
غوائل العصبية
من استقرأ التاريخ الاسلامي، وتتبع العلل والأسباب، في هبوط المسلمين، عَلِم أنّ النزعات العصبية، هي المعول الهدّام، والسبب الأول في تناكر المسلمين، وتمزيق شملهم، وتفتيت طاقاتهم، مما أدى بهم الى هذا المصير القاتم.
فقد ذلّ المسلمون وهانوا، حينما تفشّت فيهم النعرات المفرّقة، فانفصمت بينهم عرى التحابب، ووهت فيهم أواصر الاخاء، فأصبحوا مثالاً للتخلف والتبعثر والهوان، بعد أن كانوا رمزاً للتفوق والتماسك والفخار، كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه تعالى حيث قال:﴿واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداءاً فألّف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً. وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها﴾(آل عمران:103).
* أخلاق أهل البيت عليهم السلام، السيد محمد مهدي الصدر، دار الكتاب الإسلامي، ص:67.
1- الوافي ج 3 ص 89 عن الكافي.
2- نفس المصدر.
3- البحار م 15 ج 1 ص 283 عن الكافي.
4- الوافي ج 3 ص 90 عن الكافي.
5- المصدر السابق.
6- الوافي ج 3 ص 99 عن الكافي.
7- الوافي ج 14 ص 48 عن الفقيه.
8- الوافي ج 3 ص 149 عن الكافي.
9- المصدر نفسه.
10- الوافي ج 14 ص 48 عن الفقيه.
11- البحار م 15 ج 2 ص 95 عن أمالي أبي علي الشيخ الطوسي.
12- سفينة البحار ج 2 ص 348 عن امالي الصدوق رحمه الله.
13-الوافي ج 3 ص 149 عن الكافي.