الموضوع: تهذيب النفس والمحافظة على الوحدة
خطاب
الحاضرون: العلماء والفضلاء وطلبة الحوزة العلمية في النجف
عدد الزوار: 197
التاريخ: (خلال الفترة من 1965 م- أيلول 1967 م)
المكان: النجف الأشرف، مسجد الشيخ الأنصاري
الحاضرون: العلماء والفضلاء وطلبة الحوزة العلمية في النجف
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
كنت أعتزم اليوم أن يكون درسنا" مباحثة"، إلا أن اثنين من الاخوة المحترمين قصداني بالأمس، وذكرا لي أموراً تدعو للاسف، مما حدا بي الى جعل موضوع اليوم تذكير الاخوة ببعض الامور. فقد بلغ الامر درجة من التدهور أن بعضهم أسرَّ قائلًا: إن لم ينبر أحد لإصلاح الأمر، فمن المحتمل وقوع اختلاف شديد واشتباك وصدام في بعض الحالات. وإني لفي حيرة في سبب هذه الاختلافات؟ أهي من أجل الدنيا؟ إنكم لا دنيا لكم، فنحن وإياكم ليس لدينا دنيا نختلف عليها. إن جميع ما نملكه من أسباب الحياة لو جمع كله فلن يعادل ما يملكه أحد المرفهين لوحده. فهل يستحق أمر تافه ورخيص أن يدفع الاخوة المحترمين الى القيام وتشكيل جبهات متضادة؟ وأن يبلغ الامر الى الخشية من اقتتال ثلاث مجموعات منا في بعض الحالات؟ ألا تحتملون وجود يد في الامر تهدف الى إسقاط هيبة ومكانة هذه الحوزات أكثر مما هو حاصل لها؟ ألا تحتملون حضراتكم أن العدو يهدف الى هذه النتيجة، وأن له يداً في ما يحدث دون أن تشعروا بذلك؟ فيكمن مستتراً ويثير هذه الامور بما عرف عنه من دهاء وسياسة ومكر- بواسطة أياديه القذرة- هادفاً الى إلحاق الخزي بكم أمام المجتمع، والقضاء عليكم بعد ذلك، ثم يكون ذلك سبباً في شكر الجماهير لتخلصها من هكذا معممين؟ ألا تحتملون؟
يندس بينكم بعض الأشخاص باسم التدين، أو بلباس بعض المقدسين أو المتظاهرين بالصلاح، أو يقوموا باستغفال البعض منكم، ليقوموا بنشر بعض الامور التي تؤدي الى ظهور مفاسد فوق المفاسد التي يراها الانسان في الحوزات.
كم هو عددنا أصلًا؟ كم عددكم، سواء الموجودون هنا في النجف، أو في سائر العتبات المقدسة، وفي ايران وباقي البلدان التي تعتبر مناطق شيعية؟ هل يبلغ عددكم العشرين ألفاً؟ هل تضم حوزاتنا عشرين ألفاً؟ لنفترض ان عددكم يبلغ مائتي الف معمم ممن ينتشرون في القرى وغيرها. فلنقل أنكم مائتا ألف نفر، فلو كان هؤلاء المائتا الف مجتمعين ومتحدين وملتزمين بتعاليم الاسلام لتمكنوا من انجاز الكثير. ولكن إذا لم نقل أن هؤلاء المائتي الف يحملون مائتي الف رأي، فهم حتماً يحملون آراءاً مختلفة ومتباعدة. كل واحد منهم، وكل جبهة- على زعمكم- لها رأي مستقل تسفه على أساسه آراء الجبهات الاخرى.
إذا كان المقرر لجماعتنا أن تكون هذه حالها من الداخل، بحيث نقوم بتسقيط بعضنا البعض، ويقوم الشيوخ بهتك الشبان، ويقوم الشبان بهتك الشيوخ، وتقوم العجائز بهتك الشابات، علاوة على وجود أياد تهدف الى تصعيد الخلافات لتثير في الحوزات فوق ما هو موجود فيها تدهوراً وأضطراباً باسم الجبهة الفلانية، والجبهة الكذائية، وما يستتبع ذلك من نتائج سيحصلون عليها أولئك الذين يهدفون الى القضاء على الحوزات التي يعتبرونها ضارة بمصالحهم. إذا كان هذا هو وضع جماعتنا، فإن الشعب لن يأسف على ما سيحدث لكم، ولسوف يقولون: إن وضع هؤلاء كان هكذا، فوصلوا إلى هذا الحد الذي ترون.
أحد الشبان الذي كان قد قدم من اوروبا جاء وبقي هنا حوالي الاسبوع، بقي هنا مدة قصيرة جداً، جاء للقائي مرة أو مرتين، قال لأحدهم- لم يقل لي أنا، بل قال لأحد الروحانيين-: حسناً كان أن الذي جاء للنجف هو أنا، فأنا ابن أحد العلماء وأستطيع أن أقدر الموقف، ولو أن شخصاً غيري جاء وأبصر هذا الوضع فماذا سيكون رد فعله؟ يا للاسف! إني لا أعلم ما الذي عاينه هذا الطالب الجامعي- الدارس في الخارج- في هذه الحوزة المباركة، وهو ليس روحانياً مثلنا- وإن كان أبوه عالماً- ما الذي رآه خلال هذه الأيام القلائل؟ وبأي أشخاص التقى؟ وما الذي نقله اليه هؤلاء، حتى جعله- وهو الطالب الغريب عن أجوائنا- أن يبدي أسفه على وضع النجف، ويتساءل عن علة هذا الوضع؟
إذا كان في الامر ثمة أياد هي التي دفعتكم الى القول" أنا من الجبهة الكذائية" و" زيد من جبهة كذا" و" ذلك من جبهة كذا" وهي التي جعلتكم جبهات مختلفة، حتى في المدرسة الواحدة، إذا صح هذا الأمر- لا سمح الله- فإن انفجاراً سيقع في إحدى المدارس ذات يوم، ويسري منها إلى المدارس الأخرى، ومن هذه الفئة الى الفئات الاخرى، والأيادي الآثمة هي التي تضرم الفتنة تلك، وتزيد من اشتعال هذه النيران، وبالنتيجة وعلاوة على أننا سنبدو كذلك في الدنيا، وعلاوة على انهيار النجف واضمحلالها، فأن الأمر سوف لا يقتصر عليَّ وعليكم، بل سيشمل حوزة دينية ناهز عمرها الالف عام وسيشمل أشخاصاً متدينين- وهم بحمد الله كثر- أولئك أيضاً يسقطون في نظر المجتمع ايضاً، وفوق كل ذلك فماذا سيكون عذرنا امام الله تعالى؟!
ورد في الحديث أن" أهل النار يتأذون من ريح العالم التارك للعمل بعلمه"1 فما السبب في ذلك؟ لابد أن ذلك بسبب الفرق بين العلم وغير العالم، ومن عدة جوانب. فالعالم إذا انحرف- لا سمح الله- فإنه يتسبب في انحراف أمة بكاملها. أنا شخصياً رأيت هذا المعنى في بعض المدن التي كنا نذهب اليها أيام الصيف، فقد كنت أرى أهالي بعض المدن يتمتعون بمستوى رفيع من التمسك بآداب المجتمع هناك، وآداب الشرع، كما في مدينة (محلات). وبقليل من التأمل يكتشف الإنسان أن السبب في ذلك هو وجود عالم جيد في تلك المدينة.
إن وجود مجموعة من المعممين الجيدين المهتمين بأمر الدين، العقلاء العاملين بعلمهم في أي مجتمع أو مدينة، يكون بحد ذاته موعظة، حتى وإن لم يقوموا بوعظ الناس. رأينا أمثال هؤلاء ممن كان نفس وجودهم يؤثر في الناس، كما في (قم) فقد كان هناك بعض العلماء ممن كان مجرد النظر اليهم يترك أثراً وعظياً في النفس. من جانب آخر نرى مثلا في طهران، حيث أني على اطلاع باحوالها الى حد ما، ثمة مناطق متباينة. إذ ترى في إحدى مناطقها أن شخصاً منحرفاً أصبح معمماً أو إمام جماعة، فأدى الى انحراف طائفة من الناس. فما هو مقدار الريح النتنة التي تنبعث منه؟ أنه المقدار ذاته الذي يصل مشامنا في هذه الدنيا. إنها ريحنا نحن، وكل ما يجري في الثانية علينا أساسه عملنا في هذه الدنيا، عملنا الذي لحقنا في الثانية، فلا نجزى هناك بغير أعمالنا.
فحينما يكون أحد المعممين مفسداً بحيث يعرض حوزة بكاملها الى الخطر، فإن ريحه النتنة ستنتشر على رقعة تعادل حوزة بكاملها، بل أمة كاملة، وهي ذات الريح النتنة التي تعجز شامتنا الآن عن تحسسها، في حين أن المشام ستتحسس بها حينما نلقى في جهنم- لا سمح الله- بحيث تصبح هذه الريح- التي صعدت من هذا العالم بسبب أعمالنا- مؤذية لأهل جهنم.
في نفس الرواية ورد أن" أشد الناس حسرة"2 هم أولئك الذين يدعون الناس الى الخير والصلاح فيستجيبون لهم، ويعملون بقولهم، حتى ينتهي بهم الأمر الى الجنة والى النعيم، في حين ينتهي الامر بذلك العالم الذي لم يعمل بعلمه الى جهنم! ولعله يرى هؤلاء في الثانية. يرى مثلًا أن هذا كان بقالًا ووصل بفضل إرشاده وأوامره ونواهيه الى الجنة، في حين أنه هو لم يعمل بعلمه، فدخل النار، ويالها من حسرة حينئذ!
إن مسؤوليات العالم كثيرة جداً، كثرة المديح الوارد في الاحاديث الشريفة والقرآن الكريم لمقام العالم .. راجعوا ما وردت الاشارة اليه من مسؤولياته في رواياتنا الشريفة، راجعوا كتاب" الكافي" وكتاب" الوسائل" وتأملوا في الابواب والفصول التي خصصت لهذا الموضوع. راجعوا بالأخص" الاصول في الكافي" وانظروا المسؤوليات التي انيطت بالعالم، وبأهل العلم، واطلعوا على الآداب التي سنت للمفيد والمستفيد.
إخواني، إن هذه" المصطلحات" التي نقرأها وبال علينا. يعلم الله أنها كذلك، يعلم الله أن هذه" المصطلحات" كلما كثرت دون أن يرافقها تهذيب للنفس، فإنها ستؤدي الى ضياع الدنيا والثانية للمجتمع الاسلامي باسره دون أن يكون لها بذاتها أثر يذكر.
علم التوحيد بحد ذاته إذ اقترن بهوى النفس فإنه سيصبح وبالًا على الانسان، وما أكثر أولئك الذين أتقنوا علم التوحيد، ثم أضلواالخلائق! وحرفوا الآخرين، في حين انهم كانوا علماء بعلم التوحيد! ما أكثر أولئك الذين فاقوكم علماً، لكنهم تسببوا في انحراف المجتمع كلياً- بمحض اتصالهم به- لما كانوا يحملونه من الانحراف في داخلهم.
من الامور التي ينبغي عدم الغفلة عنها، حساسية وضع العالم بالنسبة لغيره، والسرّ في ذلك هو أن الناس يحكمون هكذا، فهم يقولون عن" البقال" إنه انسان سيئ لو ارتكب معصية ما او مخالفة ما، وهكذا بالنسبة للعطار أو الموظف او ما شابههم، لكنهم اذا رأوا مخالفة من معمم فإنهم يقولون: المعممون كلهم هكذا! لا يقولون: بأن هذا المعمم (كذا)، فهم في هذه الحالة لا يميزون ولا يفرقون بين المعممين. لا يقولون مثلًا أن هؤلاء المعممين هم بشر أيضاً، وفيهم الصالح والطالح- نعوذ بالله- أبداً، لا تمييز في النظر الى المعممين. إذا اقترفت أنا عملًا سيئاً قالوا: إن المعممين كذا! والضرر في هذا يعود على الاسلام، وعلى الحوزات العلمية الدينية، وعلى أحكام الاسلام.
إذا قمتم بتسقيط بعضكم البعض هكذا، وإذا اشتبكت الجامعات العلمية فيما بينها، وحاولت احداها تسقيط الأخرى، وقام البعض بقذف البعض الآخر بشائن الالفاظ وفسقّه وكفّره، ثارالهرج، وعمت الفوضى. إذا حطما أنفسنا بأنفسنا، وقضينا على أنفسنا، فلا يبقى لكلامنا الفاعلية في ترسيخ الاسلام في المجتمع، ولن نتمكن من نشر الاسلام.
إنها أمانة بأيدينا أيها الإخوة، إن الله تبارك وتعالى وضع دينه أمانة بأيدينا- نحن الموجودين هنا، ومن يتواجد منا في أماكن أخرى- إن الله وضع هذا الدين أمانة بأيدينا، فلا تخونوا هذه الامانة. إن هذه التحزبات خيانة، وإلا هل أنتم أهل ديانتين؟ هل أن في دينكم أقساماً مختلفة؟ هل يدعو كل واحد من علمائكم الى دين مختلف عن الآخر؟ ما معنى هذه التكتلات؟ هذا يتبع ذلك العالم، وذاك يتبع هذا. إن هذا خطأ وكفر، هذا من الكبائر، بل من أكبر الكبائر.
لا تتصرفوا هكذا، إنها اختلافات هامشية للغاية، وأمور غاية في التافهة وغاية في السطحية، حتى لو حسبت من الناحية المادية، فلن تكون منافعها المادية شيئاً ذا بال، وإلا فماذا سيعطيكم الكبار!؟ ثمن سجائر!
قرأت في صحيفة أو مجلة ذات مرة- لا أذكر الآن أين قرأت ذلك- قرأت أن المخصصات التي يدفعها" البابا" الى" القسيس" الذي يمثله في (واشنطن)، أذكر أني حسبتها حينا، فكانت تلك المخصصات التي يدفعها لذلك القسيس وحده أكثر من جميع ما يصرف على جميع الحوزات العلمية لدى الشيعة. أنتم لا تملكون شيئاً حتى تختلفوا عليه؟ فهل نزاعكم من أجل الدين؟ الدين لا نزاع فيه.
أنتم أهل دين ولله الحمد، غير أن الدين لا نزاع فيه!. إن السبب الأساس في كل هذا النزاع يعود الى الدنيا، ويخدع نفسه من يقول" إني صرت في الجبهة الفلانية لما اقتضاه مني التكليف الشرعي!" وإلا كيف يقتضي التكليف الشرعي من الانسان أن يوجه الاهانة للمسلمين؟ أن يوجه الإهانة للعلماء ولزملائه؟ أهذا تكليف شرعي؟! إنها الدنيا يا إخوة، وأهواء النفس. لو أن الطالب المشغول بتحصيل العلم تقدم خطوة باتجاه تهذيب النفس تقارناً مع العلم، لبقيت الحوزات في منأى عن أمثال هذه الأحداث.
" دعنا من هذا فلان ليس سوى أحد أهل المنبر!" ما الضير في أن فلاناً من أهل المنبر؟ لقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) من أهل المنبر أيضاً! إنهم إنما يحاولون إسقاط هذه المعنويات عن الحوزات التي تفتقر الى القدرة المادية أيضاً، وذلك لأن هذه الحوزات لها موقع متميز في المجتمع، والحكومات تخشى من موقعها الاجتماعي المتميز هذا. فهم لا يخشونني أنا أو أنت، أنا أو أنت لا قدرة لدينا نخفيهم بها، إنهم إذا كانوا يخشون أحد المعممين أو أحد المراجع، فليس ذلك لأنهم يخافون دعاءه أو لعنته. فمتى كان لهؤلاء اعتقاد بالدعاء أو اللعنة، إنهم يخشون الشعوب ويخافونها. يخافون أنهم لو أهانوا فلاناً فإن الشعوب ستنتفض بوجههم.
فإذا اشتبكنا فيما بيننا، وكفرت انا فلاناً، وكفرني هو، فإن كلينا سنسقط في نظر الناس وسينفضوا عنا، كما هو حالهم معنا الآن، اذ لم يبق معنا منهم سوى القليل، وأما القسم الاعظم، فقد تفرق عنا وابتعد. وطبيعي حصول هذا عندما يكثر سماعهم عن المشاكل الكثيرة، وعن وضع المعممين كذا وكذا، وخصوصاً في النجف التي تمتاز بأمور تميزها عن الاماكن الاخرى حديثة النشأة، والحوزة في النجف تجاور مرقد الامام علي (عليه السلام). في حين تحرم من ذلك بقية الحوزات.
أفلا ينبغي أن نطلع قليلًا على شكل الحياه التي كان يحياها هذا الرجل العظيم (عليه السلام)! نحن ندعي أننا شيعة، أي شيعة نحن؟ لقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) زاهداً في حين أني لست كذلك، فهل أنا شيعي؟ كان تقياً، ونحن لا تقوى لدينا؟ أو نحن شيعة أيضاً؟ كانت حياته كذا، نحن لسنا كذلك، أفنحن شيعة رغم ذلك؟ ان الشيعة ينبغي أن يتصفوا بالمشايعة له (عليه السلام) وأن يكونوا متبعين له (عليه السلام) حتى ينطبق عليهم وصف" الشيعة".
إنني أخشى أن تدركنا المنية في وقت نكون فيه قد خرجنا من هذا التشيع تماماً، وخرجنا من الاسلام، فنغادر الدنيا على ذلك- لا سمح الله-. فلو بقيت أعمالنا على هذه الشاكلة، وإذا استمر وضع حياتنا كما هو الآن، فلتحذروا حلول الموت- لا سمح الله- وأنتم كذا ..
ورد في إحدى الروايات "أن النفس إذا بلغ هاهنا، أو النفس إذا بلغت هاهنا مشيراً الى الحلقوم فلا توبة حينها للعالم" ذلك لأن الله تبارك وتعالى يقول ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ﴾ 3، والعالم لديه المهلة والمتسع من الوقت لكي يتوب فهو عارف بالذنب قبل حلول الوفاة، ولكن هل أعطي أحدكم ضماناً للخروج من هذا المجلس بسلام مثلًا؟ فقد تحل بنا صاعقة بعد لحظة. هل ضمنوا لكم البقاء حتى الغد؟ يحتمل أن لا تبقوا أحياءاً الى الغد!. هل أعطينا ضماناً للبقاء على قيد الحياة عشر سنوات أخرى؟ لعلنا نبقى!
إن الشبان إذا لم يفكروا في ذلك، واذا لم يشغلهم هذا الامر فهي مصيبة. نحن الذين تقدمت أعمارنا ندركها. فأنا الذي جئت أعظكم الآن، لم أفعل ذلك لأني إنسان كامل، فبلوغ الكمال محال كما يقول" الشيخ" ولكني ذكرت لكم بأني أكبركم قليلًا، ولذا فإن عليكم الاصغاء لحديثي حينما تحضرون مجلسي، ولهذا السبب أقول لكم بأنكم ما دمتم شباناً فإنكم تستطيعون أن تفعلوا شيئاً، فجذور الفساد ضعيفة في قلب الشاب، ولكن كلما تقدم بالسن ... لابد أنكم قرأتم هذه الرواية، أنا رأيتها فيما سبق، مؤادها" أن قلب الانسان صفحة بيضاء، وما أن يرتكب ذنباً، حتى تظهر فيه نقطة سوداء تزداد أتساعاً بازدياد الذنوب" إن قلب الشاب لطيف وملكوتي، لكنه حينما يدخل هذه المجتمعات، ويتدخل في هذه الامور فإنه يتعلم شيئاً فشيئاً- لا سمح الله- ويتعود القيام ببعض الممارسات، وما يمر عليه ليل ونهار إلا ويكون قد ارتكب ذنباً- نعوذ بالله- فتظهر في قلبه تلك النقطة السوداء، وحينما يشيب ويكون قلبه قد اسود تماماً، فلن يتمكن من اعادته الى حالته الاولى بيسر، في حين أنتم أيها الشبان تستطيعون ذلك، فلديكم القدرة، لديكم قدرة الشباب. قدرة الشباب من جهة، وضعف هذه الامور فيكم من جهة ثانية، يسهل الامر. ولكن كلما تقدمت أعماركم، ومع كل خطوة تخطونها ونخطوها، فإننا نقترب من الثانية، وتزداد هذه الامور المنافية لسعادة الانسان، كما أن التوبة ليست أمراً يتحقق للمرء بمجرد قوله" أتوب الى الله" فالندم، هذا الندم لا يأتي بسهولة لأولئك الذين أمضوا خمسين عاماً وهم يغتابون الآخرين! أولئك الذين أمضوا خمسين عاماً وهم يسبون، ويفحشون بالقول للآخرين، فمثل ذلك الانسان قد سقط في الكفر والغيبة، ولن يستطيع الخلاص، وسيظل مبتلياً بذلك حتى آخر عمره. أما الشباب، فحينما يحدث لهم ذلك .. ولا تسمحوا بحدوث ذلك، فإذا رأيتم أهل مجلس يقعون في الغيبة، كأني قرأت رواية يقول المعصوم عليه السلام فيها لأحدهم" أترك ذلك المجلس" فيجيبه" لا استطيع "فيقول (عليه السلام)" لو كان قد سب أباك ألا تنهض لمنع ذلك؟" ستنهض حتماً. نعم كأن هناك رواية هكذا. فلا تدع أحداً يغتاب أحداً أمامك" أن السامع أحد المغتابين" فلا تسمحوا بحدوث هذه المفاسد، انصحوا أنفسكم. فأنتم طائفة من الشبان كرستم أعماركم في تحصيل علوم الشريعة، وإذا لم يعد عليكم هذا التوجه بالنفع والفائدة، فانكم بذا تبدَدون أعماركم، في حين أنكم إذا كرَستم شبابكم في سبيل الله، فإنه سيحفظ لكم، ولن يذهب سدى، أما إذا صرتم مثل سائر أهل الدنيا- لا سمح الله- فإنكم ستخسرون شبابكم دون أن تحصلوا على شيء، فأهل الدنيا لهم الدنيا، في حين أنكم لا دنيا لكم (خسر الدنيا والثانية) أما أولئك فهم يملكون الدنيا على الاقل.
إذا سمحنا لحب الدنيا وحب النفس أن يطغى فينا هكذا، ويحول بيننا وبين رؤية الحقائق وإدراك الواقع، فسيصبح سداً في طريق هدايتنا، وسوف تزداد هذه الحالة تدريجياً الى الحد الذي يطمح فيه الشيطان بسلبنا إيماننا، فكل هذه الامور وسائل يتوسل بها الشيطان ليسلب الانسان الإيمان. وسيسلبنا الشيطان إيماننا آخر الأمر، وليس لدى أحدنا ضمانة ببقاء إيمانه على صفائه، فقد يكون إيماناً مستودعاً.
عليّ أن أسعى جاهداً، وعليكم أن تسعوا جاهدين، هذبوا انفسكم، كما أنكم مكلفون- علاوة على تهذيب انفسكم- بتهذيب رفاقكم، إذ أن ذنوبكم ليست كذنوب الآخرين، ففي الرواية اذا ارتكب العالم معصية فإن ذلك سيفسد المجتمع بأسره،" إذا فسد العالمِ فسد العالمَ" وإنه لأمر جلي أن العالم سيفسد بفساده بمقدار سعة تأثيره في المجتمع. فقد يوجد علماء في مكان ما، في طهران أو في أماكن أخرى يفسدون محلة بكاملها. حسناً، عندما يعم فساد هذا المعمم محلة بكاملها، فلا شك أن المجتمع سيتأذى من نتن ريحه في جهنم؟ أفلسنا مسؤولين؟!.
هذا القرآن أيها الأخوة، القرآن الكريم أمانة بين أيدينا، أو ليست من مسؤوليتنا المحافظة عليه؟ ألسنا مسؤولين عن حفظ الاحكام الاسلامية؟ هل إن مسؤوليتنا تنحصر في دراسة بضعة موضوعات في" علم الاصول" الى آخر أعمارنا، ثم- وبعد خمسين عاماً- يجد الطالب نفسه وقد ألم بالمطالب الاصولية تماماً، دون أن تكون آدابه اخلاقية أو دينية.
عليكم الاهتمام بهذا الجانب منذ البداية، فأنتم شبان وتستطيعون ذلك، حاولوا منذ البداية أن تخطوا باتجاه التقوى، وباتجاه تهذيب النفس، وباتجاه الحد من هوى النفس بنفس المقدار الذي تخطونه باتجاه تحصيل العلم.
فيم التنازع فيما بينكم؟ ماذا دهاكم؟ ما سبب العداء فيما بينكم؟ كل واحد منكم من مدينة، وجميعكم أهل علم، جميعكم على خير- إن شاء الله- فلماذا تسمحون أن يبلغ الامر حداً يقال معه: أنه إذا لم يتحدث أحد مع الاخوة، وإذا لم يقم أحد بوعظهم فإن انفجاراً سيحصل؟ وان الاخوة يمكن أن يقتتلوا فيما بينهم؟ لماذا؟ حول ماذا أنتم تتناحرون؟ هل تتخيلون أن نزاعكم فيما بينكم هو نزاع بين اثنين من أبطال الرياضة؟ إن تنازعكم فيما بينكم أعظم عند الله من جميع المعاصي، أعظم من الكثير من المعاصي، لأنكم بعملكم هذا تفسدون مجتمعاً بأسره. إنكم تدمرون النجف بأسرها، وفي نظر الناس فإن الاسلام سيسقط بسقوط النجف.
عليكم أن تدركوا أنكم حينما تعزمون الذهاب الى مدينة ما، فإن أهالي تلك المدينة يجب أن يستفيدوا من علمكم، من أخلاقكم، من أعمالكم، يستفيدوا من كل ذلك، ويتعظوا بكل ذلك، بما في ذلك أعمالكم حينما كنتم هنا، حينما تكونون موجودين هنا، لا تتوهموا أنكم تستطيعون تمشية أموركم الى اخر العمر مع الناس بالتظاهر بالصلاح وبالرياء، فذلك مجرد هراء" أعمل أنا ما شئت، ثم أذهب هناك، وأتظاهر بالصلاح!" لا يمكنكم الاعتماد على ذلك حتى النهاية، فلا بد أن ينكشف الفساد يوماً ... طيب لنفترض أنك استطعت ذلك، فكم ستعمر؟ بضع سنين تقضيها بالرياء والخداع والتزوير وقذف الآخرين والفحشاء؟ مائة وعشرين سنة!؟ ليس بيننا من يعمر مائة وعشرين سنة، ليس بيننا نحن فقط، بل إنه أمر قليل ونادر جداً حتى بين سائر الناس، ولكن لنفرض أنك عمرت مائة وعشرين سنة بالخداع والغش، وأية حياة هذه حياة طالب العلوم الدينية البسيطة المضنية؟ فلنقل إنها كحياة هارون الرشيد، لنفترض هكذا، إنك ستعيش مثلًا مائة وعشرين سنة متمتعاً بحياة كحياة هارون الرشيد، لكن ما نسبة المائة وعشرين سنة الى الحياة اللامتناهية؟ ما نسبتها لو كنت ستعذب بعدها عذاباً لانهاية له؟ هذا إذا كنت تعتقد بالاسلام، فلو بقي الانسان محتفظاً بعقيدته مثلًا، فإنه يمحصه ويبتليه.
إن الله تبارك وتعالى ذو عناية بعباده، أعطاهم العقل، وأعطاهم القدرة على تهذيب أنفسهم، ولم يكتف بذلك، بل أرسل اليهم الانبياء، وأنزل عليهم الكتب، وأرسل الاولياء، أرسل المهذبين. وإذا لم يحقق كل ذلك أثراً على العباد، فإن الله تعالى يعرض عبيده للقيد والخناق، ويعرضهم للسجن، فيمنعونهم من بعض الاعمال، ويخلعون عمائمهم، ويهينونهم آلاف الاهانات. إن ذلك كله عناية من الله بكم، غير أننا لا ندرك مدى اللطف في ذلك. ومع كل ذلك إذا لم يصلح أمر الانسان فإن الله تعالى يبتليه بالامراض، وإذا لم يؤثر ذلك أيضاً، فإنه تعالى يضيق عليه كثيراً" عند النزع" وإذا لم تنفع تلك الامور أيضاً، فإن هناك مهالك وعقبات في البرزخ، إن لم تنفع هي الاخرى يتعرض في يوم القيامة الى ضغوط عظيمة، كل ذلك من أجل ألا ينتهي به الامر الى جهنم، ولكن ماذا لو لم ينفع معه كل ذلك؟ حينها سينتهي به الامر إلى" آخر الدواء الكي"- لا سمح الله-.
ورد في الحديث أن هذه الآية ﴿لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا﴾4 تصف حال أولئك الذين هم من أهل الهداية، أي من أمثالي وأمثال سماحتكم، هؤلاء يلبثون في جهنم أحقاباً، كل حقبة من تلك الاحقاب عدة آلاف من السنين.
إخواني، إن أحدكم اليوم لا يمكنه الامساك بحجر محمي، فكيف هناك، إنها النار، فاحذروا النار، أخرجوا هذه النيران من الحوزات، أخرجوا هذه الاختلافات من قلوبكم، هذبوا أنفسكم، فأنتم تهدفون العودة الى المجتمع لتهذيبه، ولن يأتي منكم التهذيب، فهل يتمكن من لا يستطيع السيطرة على نفسه أن يسيطر على الآخرين.
إن هذه التحزبات خطأ وفسق، هذه الممارسات تدمر الحوزات، كفوا عن أمثال هذه الامور الشائنة، إني دائم الخشية من احتمال ظهور بعض الاشخاص، أو من احتمال أنهم قد ظهروا في أوساطنا، فلعلهم موجودون هنا، قد لا يكونون في المدارس، قد ينعدم وجودهم في المدارس أصلًا، فالجميع في المدارس مهذبون وصالحون، غير أنهم يصلون اليكم عبر وسائط، واسطة بواسطة حتى يصل الأمر الى أن يحددوا لنا تكليفاً شرعياً" تكليفي الشرعي أنا أن أفعل كذا" و" تكليفه الشرعي هو أيضاً أن يفعل كذا" وبهذه التكاليف الشرعية يوجدون الفساد في حوزة النجف.
إن هؤلاء يخشون الانسان الصالح، يريدون إسقاط الافراد الصالحين، فتلك الأيادي تستهدف الحوزات، وتفعل ذلك، للقضاء على من يتوجس فيه أن يكون مفيداً لمستقبل الاسلام في المجتمعات، يفعلون ذلك حتى يمنعوا هؤلاء الشباب من تحقيق أي نفع للاسلام والمسلمين، فالمفروض إنكم ستحققون فائدة ما للاسلام، وإلا ما هي فائدة مَنْ يتواجد هنا دون أن يترتب على وجوده أي نفع، لا يدرس ولا يدّرس، ولا يمارس أي عمل؟!
إن على هؤلاء إذا كانوا قد درسوا كما ينبغي، وأتموا استعدادهم، وأضحى لا ضرورة لوجودهم هنا، أن يذهبوا لأداء دور ما، والقيام بتهذيب الناس.
أما أنتم أيها الشبان فعليكم أن تعدوا أنفسكم للمستقبل، ومستقبلكم أسوأ من مستقبلنا، فنحن قد انتهى مستقبلنا، فكم سنة أخرى سأبقى على قيد الحياة؟ لي من العمر الآن سبعون عاماً، لم يبق لنا شيء، نحن نعد أنفاسنا الأخيرة، وما هي إلا بضعة أيام أخرى، وينتهي كل شيء.
والمفروض أن تكونوا أنتم النافعين لمستقبل الاسلام، والمستقبل الذي ينتظركم.
* صحيفة الإمام، ج2، ص: 22-29
1- أصول الكافي، ج 1، ص 44.
2- عن الامام الصادق( عليه السلام) قال:" أشدُّ الناس حسرةً يومَ القيامةِ مَنْ وَصَفَ عَدْلًا ثم عَمِلَ بغيره".
3- سورة النساء، الآية 17.
4- ينظر معاني الأخبار، ص 220.