يتم التحميل...

من الآيات البيّنات مقام إبراهيم عليه السلام

ولادة النبي إبراهيم(ع)

لقد وجدنا حجر مقام إبراهيم الخليل عليه السلام مُثبَتاً فوق قاعدة صغيرة من الرّخام المرمر، بقدر قياس نفس المقام الشريف طولا وعرضاً، وأما ارتفاعها فثلاثة عشر سنتيمتراً.

عدد الزوار: 340

وصف المقام

لقد وجدنا حجر مقام إبراهيم الخليل عليه السلام مُثبَتاً فوق قاعدة صغيرة من الرّخام المرمر، بقدر قياس نفس المقام الشريف طولا وعرضاً، وأما ارتفاعها فثلاثة عشر سنتيمتراً.

وأما مقام إبراهيم عليه السلام فهو حجر لونه ما بين الحمرة إلى الصفرة بل أقرب إلى البياض، يشبه المكعّب، ارتفاعه عشرون سنتيمتراً، وطول كل ضلع من أضلاعه الثلاثة من جهة سطحه ستة وثلاثون سنتيمتراً بزيادة سنتيمترين في الضلع الرابع فمحيطه 146سنتيمتراً. وهو ملبَّس بفضة خالصة لا يظهر منه إلاّ معالم وهيئة القدمين، واضحة بيّنة لم تتغيّر ولم تتبدّل طول كلّ واحدة من القدمين 27سم، وعرضهما 14سم من أعلى. وعمق إحداهما 10سم والثانية 9سم. وطولهما في عمقهما 22سم وعرضهما 11سم. وبينهما فاصل نحو 1سم. وأما موضع العقَبين فلا يتّضح إلاّ لمن تأمل ودقّق النظر. وأما أثر أصابع القدمين فقد انمحى من مسح الناس له بأيديهم في طول الزمن1 أما اليوم فهو في مقصورة زجاجية عليها قبة صغيرة كرؤوس المنائر.

وقد جاء البياض فيه فيما رواه العيّاشي السمرقنديّ في تفسيره عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال ثلاثة أحجار نزلت من الجنة حَجر بني إسرائيل، ومقام إبراهيم عليه السلام والحجر الأسود، وكان أشدّ بياضاً من القراطيس فاسودّ من خطايا بني آدم.

مع ما رواه الصدوق في علل الشرائع بسنده عن ابن أبي يعفور قالإن الصادق عليه السلام ذكر الحَجر فقال لقد كان أشدّ بياضاً من اللَّبن ثمّ قال أما إنّ المقام كان بتلك المنزلة.

ووردت الحمرة فيه فيما رواه القطب الراوندي في قصص الأنبياء إن آدم عليه السلام لما أُمر ببناء البيت ناداه جبل أبي قُبيس يا آدم; إنّ لك عندي وديعة، فدفع إليه الحجر والمقام، وهما يومئذ ياقوتتان حمراوان.

وخبر الصدوق معتبر موثوق مسند مؤيّد بخبر العيّاشي، ولا تعارضهما مرفوعة القطب الراوندي، ولا مرفوعة الصدوق فيه عن وهب بن منبّه اليماني عن ابن عباس أنه ذكر الركن -الحجر الأسود- والمقام فقالإنهما ياقوتتان من ياقوت الجنّة، اُنزلا فوضعاً على الصفا فأضاء نورهما لأهل الأرض ما بين المشرق والمغرب.

ولا مرفوعة الطبرسي في مجمع البيان عن عبد الله بن عمرو ابن العاص عنه صلى الله عليه وآله قالالركن -الحجر الأسود- والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنّة، طمس الله نورهما، ولولا أن الله طمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب. وهي بعكس السابقة في الإشراق.

كيف وُصف بأنه آية بيّنة؟

إذا كان حجر المقام من حجر الجنة فهو آية بالمعنى العام، من دون أن يكون آية خاصة، ولا سيما أن يكون آية بيّنة، وإنّما ذلك لما رواه الكلينيّ في فروع الكافي عن علي بن إبراهيم القمي بإسناده عن ابن سنان قال سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ.

ما هذه الآيات؟

قال عليه السلام مقام إبراهيم حيث قام على الحَجَر فأثّرت فيه قدماه، والحَجر الأسود، ومنزل إسماعيل.

وخلا تفسير الآية في تفسير القمي من هذا الخبر.

وفي تفسيره لقوله سبحانه في سورة الحج ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ قال لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت أمره الله أن يؤذّن في الناس بالحجّ، فقال يا ربّ، وما يبلغ صوتي؟! فقال الله أذِّن، عليك الأذان وعليّ البلاغ! فارتفع على هذه الصخرة وكانت يومئذ ملصقة بالبيت، فارتفعت حتى كانت أطول من الجبال، فأدخل إصبعيه في أُذنيه، وأقبل ينادي ويقول ويحوّل وجهه شرقاً وغرباً

- أيها الناسكتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فأجيبوا ربّكم!

فأجابوه مَن تحت البحور السبعة ومَن بين المشرق والمغرب إلى منقطع التراب من أطراف الأرض كلّها، ومَن في أصلاب الرجال وأرحام النساء لبّيك اللهمّ لبّيك.

فمن حجّ من يومئذ إلى يوم القيامة فهم ممّن استجاب الله... يعني نداء إبراهيم على المقام بالحجّ .

ورواه الصدوق في علل الشرائع بإسناده عن سليمان بن خالد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال لما أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام أن أذّن في الناس بالحجّ أخذ الحجر، فوضعه بحذاء البيت لاصقاً به بحيال الموضع الذي هو فيه اليوم، ثمّ قام عليه فنادى بأعلى صوته بما أمره الله تعالى به. فلما تكلّم بالكلام لم يحتمله الحجر فغرقت رجلاه فيه، فقلع إبراهيم عليه السلام رجليه من الحجر قلعاً.

فلمّا أقبل إسماعيل وانتهى إلى الثنيّة وجد ريح أبيه! فقال لها هل أتاك أحد؟ قالت نعم، شيخ، وهذا أثر قدميه! فأكبّ على مقام أبيه يقبّله... وفيه إن إبراهيم كان يأتي من الحيرة إلى مكّة كلّ يوم! وفي خبر آخر فيه عن عبد الرحمان بن الحجاج مثله وفي آخره قلت كيف كان ذلك؟! قال عليه السلام طويت له الأرض.

ولم نعثر عليهما فيما بأيدينا من كتب الصدوق ابن بابويه.

ورواه الطبرسيّ في مجمع البيان مرفوعاً عن ابن عباس، ثمّ قال وقد روى هذه القصة بعينها علي بن إبراهيم القمي عن أبيه عن ابن أبي عُمير عن أبان عن الصادق عليه السلام وكذلك لم نعثر عليه في تفسير القميّ ولا سائر أخباره، والقطب الراوندي -ت 573هـ- متعاقب للطبرسي -ت 548هـ- وإنما رواه القطب عن الصدوق بإسناده عن ابن أبي عمير عن أبان عن عُقبة عن الصادق عليه السلام، فلعلّه كان عن القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير، وعليه فالطريق واحد، فالخبر واحد. ومُفاد الخبر متأخر زماناً عن الأخبار السابقة، فإنها أفادت أن الأثر في الحجر كان عند نداء إبراهيم للحجّ ثمّ حجّ مع ابنه إسماعيل وقرّبه للذبح وهو غلام لم يتزوّج بعد، وأمّه هاجر موجودة، وفي هذا الخبر أن إبراهيم عليه السلام أتاه وقد هلكت أمّه هاجر. فأثر قدمي إبراهيم عليه السلام في الحجر كان سابقاً قبل سفره هذا، وتأثير قدميه اليوم تحصيل للحاصل الباطل.

وفي الخبر من الاستبعاد المضاعف -غير ما مرّ- أن إبراهيم عليه السلام كان يأتي كلّ يوم إلى مكة من الحيرة! ولا يشفع له الخبر الآخر عن عبد الرحمان بن الحجّاج، فهو لا يرفع الاستبعاد عن أسفاره كلّ يوم بل إنما عن سفرة واحدة; فلا يقول كانت تطوى له الأرض، بل طويت له الأرض، تعقيباً لقوله إن إبراهيم عليه السلام استأذن سارة أن يزور إسماعيل بمكّة. ولو كانت أسفاره متكرّرة فلِمَ لَمْ تعرفه امرأة ابنه إلاّ أنه شيخ، كما في الخبر؟! ثم إن لم تعرفه فكيف عرضت عليه أن تغسل رأسه وسوّغ لها ذلك ولم يستنكره منها؟!

والحيرة كلّ الحيرة في الحيرة في الخبر؟ إذ لم نعهد الحيرة إلاّ في العراق، ولم نعهد إبراهيم يومئذ إلاّ في الشام فأين الحيرة؟!

فكل هذا الاستبعاد يبعدنا عن التصديق بهذا الخبر بإزاء الأخبار السابقة الموثوقة.

وهل تغيّر موضعه ومحلّه؟

روى الكلينيّ في فروع الكافي والصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه بإسنادهما عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قالموضع المقام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام عند جدار البيت، فلم يزل هناك حتى حوّله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم. فلمّا فتح النبيّ صلى الله عليه وآله مكّة ردّه إلى الموضع الذي وضعه فيه إبراهيم عليه السلام، فلم يزل هناك إلى أن ولي عمر بن الخطاب، فسأل الناس مَن منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟! فقال رجل أنا، قد كنت أخذت مقداره بنسع -قيد من جلد- فهو عندي!

فقال ائتني به، فأتاه به، فقاسه ثم ردّه إلى ذلك المكان.

ومن قبل مرّ في خبره في علل الشرائع بإسناده عن سليمان بن خالد عن الصادق عليه السلام قال أخذ إبراهيم عليه السلام الحجر فوضعه بحذاء البيت لاصقاً به بحيال الموضع الذي هو فيه اليوم. وفي آخره فلما كثر الناس صاروا إلى الشرّ والبلاء ازدحموا عليه، فرأوا أن يضعوه في هذا الموضع الذي هو فيه اليوم ليخلو المطاف لمن يطوف بالبيت.

فلمّا بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وآله وفتح مكة ردّه إلى الموضع الذي وضعه فيه إبراهيم عليه السلام، فما زال فيه حتى قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وفي زمن أبي بكر وأول ولاية عمر، ثمّ قال عمر قد ازدحم الناس على هذا المقام، فأيّكم يعرف موضعه في الجاهلية؟!

فقال له رجل أنا أخذت قدره بقيد! فقال له عمر والقدر عندك؟ قال نعم، قال فاتني به، فأمر بالمقام فحُمل ورُدّ إلى الموضع الذي هو فيه الساعة.

وفي خبر آخر عنه عليه السلام قال ما بين باب البيت إلى الركن العراقي هو الموضع الذي كان فيه مقام إبراهيم عليه السلام.

وروى ابن إدريس الحلي في كتاب السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي عن كتاب مسائل داود الحضرمي قال سألت أبا الحسن موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام عن أفضل موضع للصلاة بمكة؟ فقال عند مقام إبراهيم الأول، فإنه مقام إبراهيم وإسماعيل ومحمد صلى الله عليه وآله.

وروى السجستاني في سند عائشة بسند عن هشام بن عروة عن خالته عائشة قال قالت كان رسول الله بعد فتح مكة يصلي إلى صقع البيت ليس بينه وبين البيت شيء،وأبو بكر، وعمر صدراً من إمارته، ثمّ إنّ عمر ردّ الناس إلى المقام.

تاريخ النقل ومناسبته

وقال الإمام مالك في المدوّنة الكبرى كان المقام ملصقاً بالبيت في عهد النبي صلى الله عليه وآله وعهد أبي بكر، وبلغني أن عمر بن الخطاب لما ولي وحج ودخل مكة آخّر المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم.

وروى الفاكهي -ت 272هـ- في أخبار مكة بسند عن سعيد بن جُبير قال إنما قام إبراهيم عليه السلام على المقام حين ارتفع البنيان وأراد أن يشرف على البناء ثم كان في وجه الكعبة، فلمّا كثر الناس خشي عمر بن الخطاب أن يطؤوه بأقدامهم فأخرجه إلى موضعه هذا الذي هو به اليوم حذاء موضعه الذي كان به.

وروى ابن كثير في تفسيره عن إمام مكة عن سفيان بن عُيينة قال كان المقام على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله في سقع البيت -لصيقاً به- وبعد نزول قوله تعالى ﴿وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وبعد النبيّ صلى الله عليه وآله حوّله عمر إلى مكانه هذا.

وروى ابن حجر في فتح الباري في حديث عثمان قال كان إبراهيم عليه السلام يقوم على المقام يبني عليه... وأخذه فجعله لاصقاً بالبيت.

وروى عبد الرزاق في مصنّفه عن مجاهد عن ابن عباس قال أوّل من أخّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب .

وروى فيه عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال أول من نقله عمر ابن الخطاب.

ولم تخبرنا هذه الأخبار عن التاريخ الدقيق لنقل المقام، سوى ما فيها من أنه كان بعد صدر من إمارته أو أوّل ولاية عمر، ولم تذكر المناسبة.

وروى الأزرقي -ت 244هـ- عن التابعي ابن أبي مُليكة قال ذهب السيل به في خلافة عمر، فجعل في وجه الكعبة حتى قدم عمر فردّه؟.

وروى الأزرقي عن حبيب بن أبي الأشرش قال إن سيل أمّ نهشل احتمل المقام من مكانه... فلمّا قدم عمر بن الخطاب سأل من يعلم موضعه؟! فقال المطّلب ابن أبي وداعة أنا يا أمير المؤمنين، قد كنت ذرعته وقدّرته بمقاط –بحبل- من الحجر إليه ومن الركن إليه ومن وجه الكعبة إليه. فقال عمر ائت به فجاء به فوضعه في موضعه هذا.

والخبر الأكثر تفصيلا ما رواه الأزرقي بسنده إلى المطّلب بن الحارث السهمي من مسلمة الفتح قال كانت تدخل السيول المسجد الحرام من باب بني شيبة الكبير حتى كان يقال له باب السيول، فربّما دفعت المقام عن موضعه... حتى جاء سيل في خلافة عمر بن الخطاب ذهب بأمّ نهشل فسمّي بسيل أمّ نهشل بنت عبيدة ابن سعيد بن العاص فماتت، واحتمل المقام من موضعه... فذهب به حتى وُجد بأسفل مكة، فأُتي به فربُط في وجه الكعبة بأستارها. وكُتب في ذلك إلى عمر، فأقبل عمر فزعاً في شهر رمضان سنة 17 أو 18هـ -على ما في شفاء الغرام أي في الخامسة من خلافته-.

فدعا عمر بالناس فقال أنشد الله عبداً عنده علم في هذا المقام؟

قال المطّلب فقلت أنا يا أمير المؤمنين عندي ذلك... أخذت قدره من موضعه إلى الركن، ومن موضعه إلى باب الحِجر، ومن موضعه إلى زمزم، بمِقاط –حبل-وهو عندي في البيت!

فقال لي عمر فاجِلس عندي، وأرسَل إليها، فأُتي بها، فمدّها إلى موضعه هذا وسأل الناس فقالوا نعم هذا موضعه، فأمر به فاُحكم بناء رُبضه –أساسه- تحته وحوله، فهو في مكانه هذا إلى اليوم.

هذا أكثر خبر تفصيلا، ويؤرخ النقل بسيل أمّ نهشل، ويؤرّخه الفاسي في شفاء الغرام بالسنة 17 أو 18هـ أي في الخامسة من خلافة عمر، أي في أواخر الثلث الأول وأواخر الثلث الثاني من خلافته وليس أوّلها ولا صدرها.

وأنا أرى أفضل حلّ لهذا الإشكال مقال إمام المكيين على عهده سفيان بن عيينة على ما نقله عنه ابن كثير في تفسيره عن ابن أبي حاتم عن سفيان قال وبعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا ذهب به السيل، فردّه عمر إليه، فهذا يوفّق بين  الأمرين بين أن يكون قد نقله في أول ولايته أو صدر إمارته وبين أن يكون ردّه بعد سيل أمّ نهشل في الخامسة من خلافته سنة 17 أو 18 كما في شفاء الغرام. ويؤيّده ما مرّ ذكره عن الإمام مالك في المدوّنة الكبرى حيث قال كان المقام ملصقاً بالبيت في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وعهد أبي بكر، وبلغني أن عمر بن الخطاب لما ولي وحج ودخل مكة أخّر المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم.

العلّة في تحويله من محلّه

مرّ خبر الصدوق في علل الشرائع عن الصادق عليه السلام بشأن المقام، وكان عنوانه علة تأثير قدمي إبراهيم عليه السلام في المقام، وعلة تحويل المقام من مكانه إلى حيث هو الساعة. وجاء فيه في علة تحويله من محله قوله عليه السلام ثمّ قال عمر قد ازدحم الناس على هذا المقام وهذا هو الخبر الوحيد مما بأيدينا في تعليل تحويل المقام من محلّه.

ومرّ في خبر الفاكهي في أخبار مكة عن سعيد بن جُبير قال فلمّا كثر الناس خشي عمر بن الخطّاب أن يطؤوه بأقدامهم فأخرجه إلى موضعه هذا الذي هو به اليوم.

ذكر هذا الخبر سائد بكداش في كتابه في فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم عليه السلام، وقال ومن هذا الأثر عن ابن جبير أخذ ابن كثير ومن تابعه (ابن حجر) علة تأخير عمر للمقام.

وقال قال ابن كثير -ت 774هـ- في بيان وجه تأخير عمر للمقام وقد كان المقام ملتصقاً بجدار البيت حتى أخّره عمر بن الخطّاب في إمارته إلى ناحية الشرق; بحيث يتمكّن الطُوّاف منه ولا يشوّشون على المصلّين عنده بعد الطواف، فإن الله قد أمرنا بالصلاة عنده.

قال وقد تابع الحافظ ابن حجر -ت 852هـ- في هذا الموضع من -فتح الباري- تابع ابن كثير متابعة تامة، فذكر كلامه وأدلّته، ولم يصرّح باسمه، وصاغ علة تأخير عمر للمقام بما يلي:

قال وكان عمر رأى أن إبقاءه يلزمه التضييق على الطائفين أو المصلين، فوضعه في مكان يرتفع به الحرج، وتهيّأ له ذلك... ولم تنكر الصحابة فعل عمر.

وعلّق عليه يقول وهذا يفيد أن موضع المقام الحالي هو اجتهاد من سيّدنا عمر بسبب زحمة الطائفين. ثمّ قال وتعليل تأخير عمر للمقام بسبب زحمة الطائفين بعيد، فقد حجّ مع النبيّ صلى الله عليه وآله أكثر من مئة ألف صحابي، وهو عدد ضخم يجعل المقام قائماً بين الطائفين حتى ولو طاف منهم العشر أو أقل بكثير، ومع هذا لم يؤخّر النبيّ المقام.

ولعله لهذا لم يذكر سعيد بن جبير ما قاله ابن حجر إن عمر رأى أن إبقاءه يستلزم التضييق على المصلين والطائفين فرفع الحرج برفعه، بل قال لما كثر الناس خشي عمر بن الخطّاب أن يطؤوه بأقدامهم فأخرجه من موضعه إلى حيث هو اليوم.

وما حكم استلام المقام؟

روى الأزرقي عن ابن عباس قال لما نزل آدم عليه السلام نزل بين الركن والمقام، وفي تلك الليلة اُنزل إلى جانبه الركن والمقام، فلمّا أصبح ورآهما عرفهما فضمّهما إليه.

وفيه عنه قال إن الركن الأسود والمقام جوهرتان من جواهر الجنّة، ولولا ما مسّهما من أهل الشرك ما مسّهما ذو عاهة إلاّ شفاه الله.

وفيه بسند صحيح قال لو لا ما مسّهما من خطايا بني آدم لأضاءا ما بين المشرق والمغرب، وما مسّهما من ذي عاهة ولا سقيم إلاّ شُفي.

ورووا عن أنس بن مالك الأنصاري أن مسح الناس لأثر قدمي إبراهيم عليه السلام في المقام كان جارياً على عهده بلا نكير ولا مانع ولا رادع فقد نقل ابن حجر في فتح الباري عن الموَطَّأ لابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن أنس قال رأيت أصابع قدمي إبراهيم وأخمصيهما في المقام، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم.

نقل ذلك سائد بكداش في كتابه وقال يظهر من أثر سيدنا أنس المتقدّم عن الموطّأ أن أثر الأصابع وأخمص القدمين كان ظاهراً لتأمّله، لكن كاد أن ينمحي بسبب مسح الناس له.

وكأنّ النكير على هذا المسح كان بعد ذلك على عهد التابعين فقد روى الطبري في تفسيره جامع البيان في تفسير قوله سبحانه ﴿وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى عن قتادة قال إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلّفت هذه الأمة شيئاً ممّا تكلّفته الأمم قبلها(؟!) ولقد ذكرنا بعض من رأى أثر عقبه وأصابعه فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى.

نقل هذا القول عن قتادة سائد بكداش في كتابه، وقد نقل قبله وبعده عن مقام إبراهيم للشيخ محمد طاهر الكردي المكي قال ممّا هو جدير بالذكر والالتفات إليه أن العرب في جاهليتها، مع عبادتهم الأحجار وبالأخص حجارة مكة والحرم، لم يُسمع عنهم أن أحداً منهم عبدَ الحجر الأسود أو المقام، مع عظيم احترامهم لهما ومحافظتهم عليهما. ولقد تأمّلنا في سرّ ذلك وسببه فظهر لنا أن ذلك كان من عصمة الله تعالى لهما، فإنهما لو عُبدا من دون الله في الجاهلية ثم جاء الإسلام بتعظيمهما باستلام الركن الأسود والصلاة خلف المقام، لقال المنافقون وأعداء الإسلام إن الإسلام أقرّ احترام بعض الأصنام! وإنه لم يخلص من شائبة الشرك، ولتمسّك بعبادتهما من كان يعبدهما من قبل، فلهذا حفظ الله تعالى هذين الحجرين الكريمين من أيام إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله.

فما هو وجه الشبه الذي أشار إليه قتادة بقوله لقد تكلّفت هذه الأمة شيئاً ممّا تكلّفتْه الأمم قبلها؟! ما الذي تكلّفتْه أية أمة قبل الإسلام ممّا يُشبه استلام المقام؟! هذا وهو يقول فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى أثر عقب إبراهيم وأصابعه، ولم يذكر أيّ نكير عليه من غيره، فلا أقل من دلالته على عدم المنع بدون قصد الورود، ولا نقول بالندب. وقد استمر الناس على هذا حتى هذه الأواخر، كما ذكر الشيخ طاهر الكردي المكي قال لم نشاهد أثراً لأصابع القدمين مطلقاً فقد انمحى من مسح الناس له بأيديهم في طول الزمان.

وهل يتيسّر تغيير محلّه للعلّة؟

وأخيراً نشر السماوي إبراهيم مقالا في مجلة بعنوان هل المناسب نقل مقام إبراهيم عليه السلام من مكانه؟! قال فيه دعت الضرورة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أن يبعد المقام عن مكانه بجوار الكعبة إلى مكانه الحالي، وهي كثرة الناس من الطائفين وخشيته من أن يطؤوه بأقدامهم. ثم قال وهذه الضرورة متحققة في عصرنا، بل هي اليوم أظهر منها في العهود السابقة، فهي داعية إلى إعادته إلى مكانه السابق للسبب ذاته، أو أنها داعية إلى إبعاده عن الكعبة بحذاء مكانه الحالي في صحن المطاف قرب المسعى.

وحيث إن في تقديمه إلى مكانه السابق قرب الكعبة خشية الزحام عنده فإبعاده أولى; إذ المترجّح أن المقصود بالمقام هو الحجر لا المكان المعيّن، والحجر يمكن نقله إلى مكان يحقق المصلحة للعامة، والتيسير على المسلمين...

فمن المناسب أن يُعرض على كبار العلماء موضوع تحريك المقام من مكانه الحالي الذي يعرقل حركة سير الطائفين في مواسم العمرة والحج، إلى مكانه السابق في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وزمان خليفته أبي بكر، أو نقله إلى آخر صحن المطاف بحذاء مكانه الحالي.

هذا ما قاله واقترحه وعرضه ودعا إليه السماوي إبراهيم بشأن مكان مقام إبراهيم عليه السلام، من خلال مقال في المجلة.

وقد روى الكليني في روضة الكافي خطبة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال فيها قد عملت الولاة قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله متعمّدين لخلافه، ناقضين لعهده، مغيّرين لسنّته. ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى موضعها وإلى ما كانت عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله لتفرّق عنّي جُندي حتى أبقى وحدي!

ثمّ قال كمثال أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله... إذاً لتفرّقوا عنّي.

ويظهر من هذا الخبر أنه عليه السلام كان يرى ما عمله الوالي قبله في ولايته من نقل المقام من مكانه بجوار البيت إلى حيث هو اليوم، عملا خالف فيه رسولَ الله متعمداً خلافه ناقضاً لعهده مغيّراً لسنّته! وإنما منعه عليه السلام أن يحوّل المقام مثلا إلى موضعه الذي وضعه فيه رسولُ الله صلى الله عليه وآله كما كانت على عهده، إنما منعه عن ذلك خشيته أن يتفرّق عنه جنده حتى يبقى وحده بلا ناصر ولا معين على أمر الدين، كما حكى الله تعالى عن لسان هارون اعتذاراً لأخيه موسى عليهما السلام بعد عودته من ميقات ربّه ﴿....إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي طه: 94.

وعليه، فلا مانع من تحويل المقام إلى موضعه الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وآله كما كانت على عهده، ويُعمل من الأمر باتخاذه مصلّى على ما قال صلى الله عليه وآله إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وكما قال تعالى ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا البقرة 286، و﴿إِلَّا مَا آتَاهَا الطلاق: 7.


* راجع مجلة ميقات الحج، العدد التاسع،محمّد هادى اليوسفي الغروي، ص 191-207.

2010-10-28