الحجر الأسود
الحجر الأسود
في ذلك الوادي الذي وصفه الله تعالى بأنه "غير ذي زرع" يرفع إبراهيم وإسماعيل قواعدَ البيت الحرام، وعيونهما بين لحظة وأخرى ترمقان السماء، ويدعوان الله تعالى أن يتقبل عملهما ويجعله خالصاً لوجهه الكريم
عدد الزوار: 278
في ذلك الوادي الذي وصفه الله تعالى بأنه ﴿غير ذي زرع﴾ يرفع إبراهيم وإسماعيل قواعدَ البيت الحرام، وعيونهما بين لحظة وأخرى ترمقان السماء، ويدعوان الله تعالى أن يتقبل عملهما ويجعله خالصاً لوجهه الكريم ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ البقرة: 127.
وما إن وصلا ببناء الكعبة إلى المكان الذي شاء الله تعالى أن يوضع فيه الحجر الأسود الركن الشرقي من جدار الكعبة، بينه وبين الأرض ذرعان وثلثا ذراع مقابل زمزم، حتى أمر إبراهيمُ إسماعيلَ قائلا: "اِئتني بحجر ليكون علماً للناس، يبتدئون منه الطواف. فأتاه بحجر لم يرضه... وبعد هنيئة وإذا بحجر بين يدي إبراهيم. فيعجب إسماعيل لهذا، ويسأل: من أين جاء هذا الحجر؟ فيُجيبه إبراهيم: جاءني به جبريل من عند مَن لم يتكل على بنائي وبنائك، ولم يكلني على حجرك".
ويكتمل البناء، ويُرفع الأذان بالحج على لسان نبيِّ الله إبراهيم، ويلبي الناسُ دعوته من كلّ مكان، وتبدأ مسيرة الحج العظيمة لتستمر عَبر التأريخ وإلى ما شاء الله تعالى:
﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾ الحج: 27-29.
وبقيت الكعبة على هيئتها من عمارة إبراهيم عليه السلام حتى أتى عليها سيل عظيم انحدر من الجبال، فصدع جدرانها بعد توهينها ثمّ بدأت تنهدم، فاجتمع كبراء قريش، وقرّروا إعادة بنائها.. وراحت قريش تنفذ ما قررته حتى ارتفع البناء إلى قامة الرجل، وآن لها أن تضع الحجر الأسود في مكانه من الركن، اختلفت حول مَن منها يضع الحجر في مكانه، وأخذت كلّ قبيلة تطالب بأن تكون هي التي لها ذلك الحقّ دون غيرها، وتحالف بنو عبد الدار وبنو عدي أن يحولوا بين أية قبيلة وهذا الشرف العظيم، وأقسموا على ذلك جهد أيمانهم، حتى قرّب بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً، وأدخلوا أيديهم فيها توكيداً لأيمانهم; ولذلك سُمُّوا "لَعَقَة الدم". وعظم النزاع حتى كادت الحرب أن تنشب بينهم لولا أن تدخل أبو أمية بن المغيرة المخزومي بعد أن رأى ما صار إليه أمر القوم، وهو أسنهم، وكان فيهم شريفاً مطاعاً، فقال لهم:
يا قوم! إنما أردنا البرَّ، ولم نرد الشرَّ فلا تحاسدوا، ولا تنافسوا فإنكم إذا اختلفتم تشتت أموركم، وطمع فيكم غيركم، ولكن حكِّموا بينكم أول مَن يطلع عليكم من هذا الفج -أو اجعلوا الحكم بينكم أول مَن يدخل من باب الصَّفا- قالوا: رضينا وسلمنا.
فلما قبلوا هذا الرأي، أخذوا ينظرون إلى باب الصفا منتظرين صاحب الحظّ العظيم، والشرف الرفيع الذي سيكون على يديه حقن دمائهم، وحفظ أنفسهم... فإذا بالطلعة البهية، والنور الساطع.. اُنظروا.. إنه محمّدٌ بن عبد الله.. إنه الصادق الأمين.. وبصوت واحد.. هذا الأمين قبلناه حكماً بيننا.. هذا الصادق رضينا بحكمه.. ثمّ تقدم نحوه كبراؤهم وزعماؤهم.. يا محمد! أحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون! نظر إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وآله فرأى العداوة تبدو في عيونهم.. والغضب يعلو وجوههم.. والبغضاء تملأُ صدورهم.. أيُّ قبيلة سيكون لها هذا الشرف العظيم، والفخر الكبير، إن حكم لقبيلة دون أُخرى؟ وهل سيرضون بحكم كهذا، وقد ملئت قلوبهم بغضاً، ونفوسهم حقداً، ووضعوا أيديهم على مقابض سيوفهم، وعلت الرماح فوق رؤوسهم؟
في هذا الجو المرعب والمخيف والمحاط بالشرّ، كلّ الشرّ، يقف الصادق الأمين ليعلن حكماً ينال رضاهم جميعاً، ويعيد السيوف إلى أغمادها.. الجميع سكوت ينتظر ما يقوله فتى قريش وأمينها، وهو في هذا العمر 35 سنة أمام شيوخ قريش وساداتها.. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: هَلُمّ –هلمّوا- إليّ ثوباً، الكلُّ ينظر إليه، ماذا يُريد بهذا محمد؟ فيقول آخرون: انتظروا لنرى: أُتي بالثوب، نشره بيديه المباركتين، رفع الحجر ووضعه وسط الثوب، ثمّ نظر إليهم وقال: ليأخذ كبيرُ كلِّ قبيلة بناحية من الثوب. فتقدّم كبراؤهم وأخذ كلّ واحد منهم بطرف من أطراف الثوب، ثم أمرهم جميعاً بحمله إلى ما يحاذي موضع الحجر من بناء الكعبة حيث محمد بانتظارهم عند الركن. تناول الحجر من الثوب ووضعه في موضعه، فانحسم الخلاف، وانفضّ النزاع بفضل حكمة الصادق الأمين1، التي فعتِ الفتنة أن تقف وحفظتِ النفوس أن تزهق، والدماءَ أن تُراق، حقاً إنّك يا رسول الله رحمةٌ للعالمين قبل بعثتك نبيّاً وبعدها، حياتك عطاءٌ كلّها وخيرٌ وبركة كلّها. رفعتَ الحجر بيدك المباركة من الأرض، ثمّ رفعته ثانية لتضعه في مكانه فنال بذلك بركات أيد ثلاث لأنبياء عظام إبراهيم وإسماعيل ومحمد صلوات الله عليهم.
ولم يزل هذا الحجر في الجاهلية والإسلام محترماً معظّماً مكرّماً، ولم يعتدَ على حرمته ومكانته حتى جاء القرامطة يتزعمهم أبو طاهر القرمطي سنة 317 هـ ودخلوا مكّةَ عنوة يوم التروية، فنهبوها وقتلوا الحُجّاج، وسلبوا البيت، وقلعوا الحجر الأسود ثم حملوه معهم إلى بلادهم بالإحساء من أرض البحرين، ويقال: إنّه لما أخذ الحجر، قال: هذا مغناطيس بني آدم، وهو يجرّهم إلى مكّة، وأراد أن يحول الحجّ إلى الإحساء. وبقي عندهم اثنتين وعشرين سنة، وقد باءت كلّ محاولات ردّه بالفشل، حتى توسط الشريف أبو علي عمر بن يحيى العلوي بين الخليفة المطيع لله في سنة 339 وبينهم حتى أجابوا إلى ردّه، وجاءُوا به إلى الكوفة، وعلّقوه على الأسطوانة السابعة من أساطين الجامف ثم حملوه وردّوه إلى موضعه في شهر ذي القعدة من سنة 339 هـ، وصُنع له طوقان من فضة وأحكموا بناءَه.
وهناك بعض الاعتداءات والتجاوزات التي كان الحجر الأسود عرضةً وهدفاً لها، لكنها لم تصل في خطورتها إلى اعتداء القرامطة المذكور.
وظل هذا الحجر موضعاً يتبرك به الناس، يتزاحمون على استلامه، وعلى تقبيله بدءاً برسول الله صلى الله عليه وآله، فقد كان صلى الله عليه وآله يقبّل الحجر الأسود عند دخوله إلى البيت، وقبل أن يبدأ طوافه سبعاً، ويعيد تقبيله بعد أن ينهي الطواف والصلاة.
ولما أراد أن ينطلق مهاجراً إلى المدينة، جاء إلى الكعبة واستلم الحجر الأسود، وقام وسط المسجد ملتفتاً إلى البيت قائلا: إني لأعلم ما وضع الله - عزّ وجلّ - في الأرض بيتاً أحبّ إليه منكَ، وما في الأرض بلدٌ أحبّ إليّ منكِ مكة، وما خرجتُ عنكِ رغبةً، ولكن الذين كفروا هم أخرجوني...
فكان تقبيل الحجر واستلامه أول عمل له صلى الله عليه وآله في المسجد قبل الطواف، وقبل أن يقول أو يعمل شيئاً.
واقتدى المسلمون بسيرته صلى الله عليه وآله، فأخذوا يقدسون الحجر الأسود ويعظمونه، وراحوا يتسابقون لاستلامه وتقبيله تبركاً به; لأن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يستلمه ويقبله ويستقبله ويدعو عنده... وقد ورد في ذلك حشدٌ من الروايات التي تصرح وبضرس قاطع بجواز التبرك بهذا الحجر استلاماً وتقبيلا... إضافةً إلى آراء فقهاء المسلمين وعلمائهم على اختلاف مذاهبهم ومدارسهم الفقهية وكلّها تؤكد استحباب التبرك به... كما تبين وجوب الابتداء بالطواف حول الكعبة وبأشواطه السبعة - من الحجر الأسود والانتهاء إليه. وعدم صحة الطواف بل بطلانه إذا لم يبدأ به وينتهي إليه. ولم أجد فيما تيسر لي من المراجع مخالفاً لذلك الاستحباب وهذا الوجوب.