كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء القائمين على مؤتمر إحياء ذكرى آية الله السيّد محمّد هادي الميلاني
بتاريخ 2025/12/21م.
عدد الزوار: 5كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء القائمين على مؤتمر إحياء ذكرى آية الله السيّد محمّد هادي الميلاني، بتاريخ 2025/12/21م.
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين [ولا] سيّما بقيّة الله في الأرضين.
أيّها السادة المحترمون، أهلاً وسهلاً بكم، وإنّي لأعرب عن شكري العميق للسادة المحترمين، السيد مروي وغيره من السادة الذين بادروا إلى إحياء ذكرى المرحوم السيد الميلاني (رضوان الله عليه)[1]. رغم أنّ سماحته قضى عشرين عاماً في مشهد منخرطاً في شتّى الميادين العلمية والاجتماعية والسياسية وغيرها، ولكنه بعد وفاته لم يَعُد لأثره حضورٌ ملموس في مشهد. كنت ألاحظ ذلك أحياناً عند تعاملي مع قضايا مشهد. لقد كان سماحته يوماً ما محوراً في مشهد، بل كان يُعدّ قمّةً في الحوزة العلمية، ولكن بعد وفاته خَفَت ذكره وقَلّ ترداد اسمه. الابن الأصغر له، المرحوم سماحة السيد محمد علي، كان يُرى بنُدرة أيضاً، ونادراً ما كنا نراه في الاجتماعات وما شابه؛ ويبدو أنه قد توفي أيضاً. لذلك، إن هذا الاجتماع الذي عقدتموه جيدٌ ليبحث في سيرته ويحيي آثاره. لقد دوّنت بعض النقاط التي أودّ أن أطرحها بشأن سماحته.
أوّلاً، كانت شخصيته تتّسم بجوانب متعدّدة، إذ يمكن للإنسان أن يذكر عن كل جانب منها عبارات عدّة: أحد الجوانب هو الجانب الشخصي وشخصيته وخصائصه الأخلاقية والسلوكية؛ وأحد الجوانب الأخرى هو الجانب العلمي، إذ يمكن الحديث والنقاش عن وضعه العلمي؛ وهناك الجانب السلوكي -بطبيعة الحال لم نكن على دراية به أثناء حياته، بل أدركتُ لاحقاً أنه كان مُتخصّصاً في مجال السلوك والروحانيات وما شابه، وكان من أهل الفكر والرياضة والتأمل وما إلى ذلك؛ وهذه الأمور لم يكن في الإمكان فهمها أثناء حياته؛ وهذا جانب أيضاً- والجانب الآخر هو الجانب الاجتماعي والسياسي لسماحته. يمكن النقاش بشأنه من هذه الجوانب جميعها، وسأعرض عن كل جانب منها بضع كلمات.
في ما يتعلّق بالنقطة الأولى، أي شخصيته الفردية وسلوكه الفردي، كان للحق والإنصاف إنساناً متميّزاً. أولاً لقد كان يتحرّك ويتكلّم ويتصرّف بوقار ورزانة؛ وفي الوقت نفسه، كان متواضعاً جداً. اتّسم بالتواضع، وكذلك بالوقار والرزانة، وكان المرء يلمس فيه سكينة روحية؛ فحتى في أصعب الظروف التي كانت تعصف بنا، كان يشعر الإنسان بأنّ سماحته يتمتع بهذه السكينة.
الوفاء والحفاظ على صداقة الأصدقاء؛ فقد كان سماحته يولي اهتماماً لأصدقائه. كان قد درس مع والدنا[2] في تبريز. وُلِد سماحته في النجف، وكان والده صهر المرحوم الشيخ محمد حسن المامقاني المشهور، صاحب حاشية كتاب المكاسب، والشخصيّة البارزة ومرجع التقليد الكبير في زمانه، الذي يبدو أنّه تُوفّي في 1321 [ه.ش.] (1942م.) أو 1322 [ه.ش.] (1943م.). لذا، وُلِد في النجف، ولكن والده انتقل إلى تبريز وأقام هناك سنة أو سنتين، ثم عاد إلى النجف. في تلك السنة أو السنتين، كان هذا الابن الذي كان يذهب إلى الكتّاب زميلاً للمرحوم والدي وعالم آخر من علماء تبريز، [أي] المرحوم السيد إبراهيم الدروازي -الذي كان ابنه السيد مهدي الدروازي في طهران؛ وربما يعرفه بعض السادة- هؤلاء الثلاثة كانوا زملاء في الكتّاب. بناءً على تلك السابقة، كان للسيد الميلاني ارتباط خاص مع المرحوم والدي.
كان كثيراً ما يأتي لزيارته في الصباح الباكر وربما شاركه الإفطار. في مرة جاء المرحوم السيّد إبراهيم الدروازي إلى مشهد، واجتمع الثلاثة معاً في منزل المرحوم والدي. كان وفياً، ومحافظاً على الصداقات القديمة.
كان سماحته صاحب حضور لطيف، فإذا جلس المرء إليه، وجد في مجلسه عذوبةً وحلاوة، وكان ذا ذوقٍ لطيف وذائقة شعرية، فقد رأيت في بعض كتاباته، وفي بعض الكتب التي لا يبدو أنها تتعلق به مباشرة، أنه نظم الشعر أيضاً. طبعاً كان شعراً بالعربية. كان من أهل الشعر والذوق وما إلى ذلك، أي تركيبة من شخصية بارزة ومتميزة. طبعاً، يجدر التنويه أنّه حفيد الشيخ محمد حسن المامقاني وصهر المامقاني صاحب كتاب «الرجال»[3]. أي إنه صهر المرحوم آية الله الشيخ عبد الله المامقاني. كان أحياناً يذكر في الدرس خاله المرحوم آية الله الشيخ عبد الله المامقاني، أي يذكره كما ورد في كتاب «الرجال» بهذا التعبير: المرحوم الخال. المقصود، أنّه ترعرع في كنف عائلة علمية.
أما من الجانب العلمي، فقد كان المرحوم آية الله الميلاني (رضوان الله عليه)، بلا شك، وجهاً علمياً بارزاً في عصره، وكان عالماً كبيراً. وقد استقى جُلّ علمه من المرحوم الميرزا النائيني والمرحوم آية الله الشيخ محمد حسين الأصفهاني، وكان يذكرهما في الدرس [على هذا النحو]: الميرزا الأستاذ، والشيخ الاستاذ. لكن، سلوكه الفكري الفقهي كان أقرب إلى المرحوم الميرزا النائيني. طبعاً، ولأني لم أحضر دروسه في الأصول، فلا علم لي بمنهجه الأصولي، لكن في درس الفقه، كان ميله أكثر نحو [المرحوم الشيخ النائيني]، وكان يباحث ويتكلّم ويعمل بأسلوب يشبه أسلوب المرحوم الشيخ النائيني.
كان في تدريسه هادئاً، وقوراً وحسنَ البيان. طبعاً، المقصود بحُسن البيان هنا أنّ سماحته كان حسنَ التقرير. أي إنّ [حُسن] البيان لا يعني أنّه يتحدّث على نحو متواصل، بل كان حسنَ التقرير. أي إنّ كلَّ طالب علمٍ كان يصغي إلى درسه كان يفهمه حقّاً؛ هكذا كان يباحث. كان مدرّساً بارزاً وكبيراً. لقد أحيا حوزة مشهد العلميّة فعلاً. فحوزة مشهد، في مرحلةٍ ما، في زمن المرحوم الآغازاده[4] والمرحوم السيد حسين[5]، شهدت مرحلة ارتقاء وازدهار؛ لكن بعد استشهادهما، دخلت هذه الحوزة في حالة ركود لسنوات، أي لم يكن في الفقه والأصول درسٌ قادرٌ على أن يربط طالب العلم المتشوّق بحوزة مشهد ويُبقيه فيها. لمّا جاء سماحته، أحيا الحوزة؛ أي إنّ حوزة مشهد مدينةٌ حقّاً للمرحوم الشيخ ميلاني. لقد أحيا الحوزة حقّاً وبدأ درسه [هناك]؛ فباشر دروس الفقه ليلاً، وبدأ في مدرسة مسجد الحاج الملّا هاشم [بدرس] الإجارة، وكنتُ آنذاك، بطبيعة الحال، لا أحضر دروس الخارج، فلم أشهد ذلك الدرس. ثم شرع في درس الصلاة، وكان مفصّلاً واستمرّ سنوات عدّة، ربّما سبع أو ثماني أو عشر سنوات. ثم تناول بعد ذلك الزكاة والخمس وما إلى ذلك، وأظنّ أنّ بعض هذه الدروس قد طُبع أيضاً، فقد رأيتُ درس الصلاة، وأظنّ أنّني رأيتُ جزءاً من درس صلاة المسافر وما شابه. لكنّ كتاباته تلك التي اطّلعتُ عليها لا تُظهر قوّته العلمية بالقَدْر الكافي؛ أي إنّه كان أقوى من هذه الكتابات؛ فقد كان من الناحية العلمية أقوى من كتاباته وأكثر علماً، ومن هذه الجهة كان، للحقّ والإنصاف، متميّزاً جدّاً.
علاوةً على شخصيّته العلمية هذه، كان لسماحته رؤية تجاه الحوزة أيضاً -نظرة جادّة تجاه الحوزة- ومنذ بداية قدومه، كان يسعى إلى استقطاب الطلبة المتميّزين. ففي أوائل قدومه إلى مشهد، خصّصَ الطلبة المتميّزين، وهو إجراءٌ تسبّب له ببعض المشكلات آنذاك. كان يسعى إلى اكتشاف الطلبة المتميزين والعناية بهم، ولهذا الغرض أسّس مدرسة؛ ويبدو أنّه أسس مدرستين أو ثلاث مدارس، ولأنه في تلك المدة التي أسّس فيها هذه المدارس لم أكن على علاقة وثيقة بسماحته، فلا أملك اطّلاعاً دقيقاً على أوضاع تلك المدارس؛ ولكنّه كان ملتفتاً بجدّية إلى هذه المسألة، أي شؤون الحوزة وما يتّصل بها. كان هذا في ما يتعلق بالجانب العلمي لسماحته.
أمّا في الجانب السلوكي، فقد كان سماحته على صلة بالمرحوم السيد عبد الغفار المازندراني، الذي كان يُعدّ في مصاف المرحوم السيد القاضي[6] وأقرانه من العلماء في العراق والنجف. في الكتاب الذي نُشر عنه -قد اطلعتُ عليه قبل سنوات، ويبدو أن المرحوم السيد محمد علي هو من تصدّى لجمع الرسائل الموجهة إلى سماحته وطبعها- توجد رسائل عدة من المرحوم السيد عبد الغفار إليه تتضمن تعليمات وإرشادات، مما يبيّن أنه قد وجّه إليه أسئلة وكان بينهما ارتباط معنوي. طبعاً، لقد كنا نلمس آنذاك تواصله مع أهل السلوك والروحانية وأمثال هذه الأمور، وقد شهدنا ذلك منه مراراً؛ فعلى سبيل المثال، حين كان المرحوم الحاج ملا آغاجان[7] يأتي إلى مشهد وتكون له معه لقاءات ويرتقي المنبر؛ وقد رأيتُ بنفسي المرحوم الحاج ملا آغاجان يخطب على المنبر في دار السيد الميلاني.
كذلك كانت له صلة ببعض الشخصيات الأخرى كالسيد نقيبي المعروف بـ«نور»[8] في مشهد. كانت له علاقات من هذا القبيل وكانت مشهودة للعيان؛ ولكننا لم نكن نحدس حينها أن السيد الميلاني نفسه خاض غمار وادي السلوك مستفيداً من أستاذ خاص، أو ملتزماً بأعمال سلوكية وعبادات مخصوصة؛ كان هذا واقعاً، وهو أمر يدركه الإنسان لاحقاً.
كما كان المرحوم العلّامة الطباطبائي[9] على صلة وثيقة به جداً؛ إذ كان العلّامة يأتي إلى مشهد صيف كل عام تقريباً، ويمكث فيها -حسبما أظن- أسبوعين أو ثلاثة، وكان يحرص فيها على حضور صلاة الجماعة خلف السيد الميلاني. كان المرحوم الميلاني يقيم صلاتي المغرب والعشاء صيفاً في «الصحن الجديد»، صحن الحرية حالياً؛ فكان المرحوم العلامة الطباطبائي يلتزم بالمشاركة في هذه الصلاة، وكان شديد الأنس والارتباط به؛ وهذا بحد ذاته دليلٌ على ذات المعنى، أي وجود جانبٍ سلوكي لدى سماحته. ثمة قصصٌ كثيرة تُروى عن كراماته من طرق موثقة؛ وقد سمعتُ شخصياً قضايا عدة من مصادر موثوقة تماماً؛ إحداها عن طريق المرحوم الحاج الشيخ مرتضى الحائري وهي مدونة ومطبوعة أيضاً. نُقلت عن غيره أمور من هذا القبيل، ما يقطع بأنه كان من أهل المعنى والتوجُّه والبصيرة المعنوية النافذة وما إلى ذلك. هذا هو الموضوع المتعلق بالجانب السلوكي.
أما في الجانب السياسي والاجتماعي، فقد كان السيد الميلاني مع انطلاق الكفاح ركناً من أركان النهضة؛ ففي عامي 1341 و1342 [ه.ش.] (1962 و1963م.) حين انطلق نضال علماء الحوزات، كان المرحوم السيد الميلاني يُعدُّ بحقٍّ أحد أركان هذه النهضة. أولاً: كانت بياناته بياناتٍ قويةً جداً؛ كنا في مدرسة «الحجتية»، وكانت هناك لوحة للإعلانات تُعلَّق عليها البيانات، فكنا نقف ونقرؤها. أتذكر أنني رأيتُ مرةً بياناً صدر عن السيد الميلاني، كان نصّه من القوة والمتانة والإحكام إذ تغمر الإنسانَ الحماسةُ لفرط جمال هذا النص وقوته. هكذا كان سماحته؛ فكتاباته الفارسية كلها على هذا المنوال. لا يحضرني الآن ما إذا كنتُ قد رأيتُ له نصّاً بالعربية، ولكن كتاباته الفارسية كانت رصينةً جداً، وقويةً وجميلةً جداً. ثم إنه في الوقت الذي اعتقلوا فيه الإمام [الخميني]، ولاحت في الأفق احتمالات صدور أحكام جائرة بحقه، توافد العلماء الكبار من المدن كافة إلى طهران؛ وكان السيد الميلاني -بلا شك- على رأس هذه المجموعة. رغم وجود السيد شريعتمدار[10] أيضاً، وكان هو الآخر مرجعاً للتقليد، ولكن الأنظار كانت متجهةً صوب السيد الميلاني، وكان اعتباره ومكانته بين العلماء أمراً ملموساً وسامياً جداً. كان (رضوانُ الله عليه) يمثل حتماً قمة ذاك الجمع العلمائي الذي احتشدت هناك، وأكثرهم تأثيراً.
مع مطلع عام 1342 [ه.ش.] (1963م.)، وهو العام الذي حدثت فيه أحداث الخامس عشر من خرداد، كان سماحته في صلب القضايا؛ وقد كلّفني الإمام [الخميني] (رضوان الله عليه) بمهمة التوجه إلى مشهد وعرض الأمر على العلماء فرداً فرداً. كان هناك موضوعان؛ أحدهما خاص بالسيد الميلاني والمرحوم السيّد حسن القمي، والآخر عام، ولا شأن لي الآن بماهية ذلك الموضوع العام. أما الموضوع المتعلق بالسيد الميلاني، فقد ذهبتُ إلى سماحته وأبلغته إياه؛ قلتُ له: يوصيكم السيد الخميني بأن توعزوا للخطباء بأن يتحدثوا عن قضية «المدرسة الفيضية» على المنابر ابتداءً من اليوم السابع [من محرم]، وأن توجّهوا الهيئات الحسينيّة بالتحدث عنها ابتداءً من اليوم التاسع؛ كانت هذه الرسالة التي نقلتُها إليه. قال سماحته: «أمن اليوم التاسع؟ لقد أوعزتُ بأن يكون ذلك قبل هذا اليوم»؛ وذكر أسماءً فقال: «لقد قلتُ للسيد الخميني، وقلتُ للسيد شريعتمدار، وللسيد نجفي»؛ لقد ذكر أسماء من تداول معهم الأمر. هذا يدل بوضوح على أنه كان في قلب الأحداث، وأن الفكرة ذاتها التي تبلورت وشاعت وطُبقت في قم على يد الإمام (رضوان الله عليه)، كانت حاضرةً لديه أيضاً؛ أي إن حضوره في ميادين الكفاح كان حضوراً من هذا النوع، وكان يحمل مشروعاً لهذا الأمر. طبعاً، كان برنامجه يختلف قليلاً عن برنامج الإمام، ولكنه قد وضع خطةً وكان لديه تدبير لهذه القضية.
أما في المجالات السياسية والاجتماعية، فقد كان سماحته يتّسم بـ«شرح الصدر»؛ بمعنى أنه كان يتواصل مع مختلف الأصناف والأطياف الفاعلة في ميادين الكفاح والسياسة وما إليها؛ فعلى سبيل المثال، كان على صلةٍ بالمرحوم المهندس بازركان والدكتور سحابي وأمثالهما. لعلني في مرتين أو ثلاث حين كنتُ أعتزم السفر من مشهد إلى طهران وذهبتُ إليه لتوديعه، سألني: «هل ستزور المهندس بازركان في السجن حين تصل إلى طهران؟» -وكان آنذاك في السجن في عامي 1343 و1344 [ه.ش.] (1964 و1965م.)- فقلت له: نعم، فقال: «أبلغه مني السلام»؛ أي إنه حمّلني -أنا العبد- سلامه إلى المهندس بازركان في مرتين أو ثلاث. كان من الواضح أن له صلةً بهذه الجماعة أيضاً. طبعاً، كان يحذر بشدة أن ينسبه أحدٌ إلى هذه المجموعات السياسية كالجبهة الوطنية وغيرها؛ وقد قال لي شخصياً: «من ينسبني إلى الجبهة الوطنية، فلن أرضى عنه، ولن أصفح عنه»؛ هكذا كان شأنه، ولكن علاقاته كانت واسعة ومتشعبة.
في بعض الأعوام، خُيّل إلينا أن سماحته قد تراجع قليلاً في وتيرة الكفاح، حتى إننا كنا نُبدي اعتراضنا عليه؛ ولكنه بعد أن نُشرت الرسائل الآن، تبيّن أنه كان في ذلك الحين يخوض غمار مكاتبات مكثفة مع السيد شريعتمدار ومع علماء آخرين، وكان منشغلاً بمتابعة تلك الأمور، ولكننا لم نكن نحيط علماً بنشاطه وانشغاله بتلك القضايا. في الرسائل التي كان يسطّرها الناس تأييداً للمراجع الذين احتشدوا في طهران للمطالبة بإطلاق سراح الإمام الخميني، لعل اسمه كان الأكثر ترداداً، وكان يحظى هناك بالنصيب الأوفر من الاهتمام والالتفات.
لقد كتب سماحته رسالةً إلى الإمام تُعدُّ في رأيي وثيقةً تاريخية؛ ففي عام 1342 [ه.ش.] (1964م.) حين نُفي الإمام إلى تركيا، عقد سماحته في منزله مجلساً دعا إليه علماء مشهد؛ وكنا نحن، ثلة من الشباب المنخرطين في سلك الكفاح آنذاك، من بين المدعوين؛ كنا حاضرين هناك أيضاً. حضر من علماء مشهد المرحوم الحاج الشيخ مجتبى[11]، والآخرون جميعهم أيضاً. قام نجله وتلا الرسالة التي كان سماحته قد وجهها إلى الإمام (رضوان الله عليه)، وهي رسالةٌ استثنائية؛ رسالةٌ في غاية القوة والرّصانة في نصرة الإمام والإعراب عن الأسى لنفيه، وأذكر هذه العبارات من تلك الرسالة: «السَّاكِتُ أَخُو الرَّاضِي، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا كَانَ عَلَيْنَا»[12]؛ إذ ضمّنها هذه العبارات. استشهد بكلماتٍ لأمير المؤمنين (عليه السلام) قيلت عند نفي جناب أبي ذر[13]، إذ أورد تعبيرات أمير المؤمنين (عليه السّلام) في ذلك المقام. أنا أعدّها وثيقةً تاريخيةً معتبرة، إذ كان سماحته جالساً هناك، فقام نجله وقرأ الرسالة على مسامع الحاضرين.
خلاصة القول، كان سماحته -والحقُّ يقال- رجلاً جامعاً؛ فمن الناحية العلمية والأخلاقية والمعنوية والسياسية والاجتماعية، كان رجلاً عظيماً ومُتعدد الجوانب وذا فضائل جمّة، وصاحب فضلٍ لا يُنسى على حوزة مشهد العلمية. نأمل أن يسهم هذا التكريم الذي أقمتموه -إن شاء الله- في التعريف بشخصية سماحته للناس أكثر مما عُرِفت به حتى الآن.
والسّلامُ عليكُم وَرَحمةُ الله وبركاته.
[1] استهلّ هذا اللقاءَ حجّةُ الإسلام والمسلمين الشيخ أحمد مروي (متولّي العتبة الرضوية المقدسة) بطرحِ عددٍ من النقاط.
[2] آية الله السيد جواد الحسيني الخامنئي.
[3] كتاب: «تنقيح المقال في علم الرجال».
[4] آية الله الميرزا محمد آغازاده الخراساني.
[5] آية الله السيد حسين الطباطبائي القمي.
[6] آية الله السيّد علي القاضي.
[7] آية الله الملّا آغاجان الزنجاني.
[8] حجّة الإسلام السيّد عبد الحسين نقيبي السيستاني.
[9] آية الله السيّد محمّد حسين الطباطبائي، صاحب تفسير «الميزان».
[10] آية الله السيّد محمّد كاظم شريعتمداري.
[11] آية الله الحاج الشيخ مجتبى القزويني.
[12] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج74، ص421.
[13] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج8، ص253.


