الثورة على يد الأنبياء لإعادة مجتمع التوحيد
الثورة بحاجة إلى أساس ترتكز عليه، وتنطلق منه، وتستمدّ دوافعها وحيويتها منه. وقد شهد التاريخ البشري - منذ أقدم العصور - استغلال أساسين مختلفين للثورة:
عدد الزوار: 21الثورة بحاجة إلى أساس ترتكز عليه، وتنطلق منه، وتستمدّ دوافعها وحيويتها منه. وقد شهد التاريخ البشري - منذ أقدم العصور - استغلال أساسين مختلفين للثورة:
الأساس الأوّل: ما تزخر به قلوب المستضعفين والمضطّهدين من المشاعر الشخصية المتّقدة بسبب ظلم الآخرين واستهتارهم بحقوق الجماعة ومصالحها، وهذا الشعور يمتدّ في المستضعفين تدريجاً كلّما ازدادت حالتهم سوءاً وازداد المستغلّون لهم عتوّاً واستهتاراً بهم. ولكي يتحوّل هذا الشعور إلى ثورة لا بدّ له من بؤرة تستقطبه، وتنبثق عن هذه البؤرة التي تستقطب هذا الشعور؛ القيادة التي تتزعّم المستضعفين في كفاحهم ضدّ المستغلين والثورة عليهم.
وإذا لاحظنا هذا الأساس بعمق، نجد أنّه يتعامل مع المشاعر الشخصية والمادّية نفسها التي خلقتها ظروف الاستغلال، فالاستغلال يكرّس في جميع أفراد المجتمع الشعور الشخصي بالمصلحة وينمّي فيهم الاهتمام الذاتي بالتملّك والسيطرة، غير أنّ هذا الشعور وهذا الاهتمام ينعكس إيجابياً في المستغلّين على صورة الاستيلاء المحموم على كلّ ما تمتدّ إليه أيديهم، وتسخير كلّ الإمكانات من أجل إشباع هذه المطامع، وينعكس الشعور والاهتمام نفسه سلبياً في المستضعفين، على صورة المقاومة الصامتة أوّلاً، والمتحرّكة ثانياً، والثائرة ثالثاً، على المستغلين، وهي مقاومة تحمل الخلفية النفسية نفسها التي يحملها المستغلّون، وتنطلق من المشاعر والأحاسيس عينها التي خلقتها ظروف الاستغلال. وهذا يؤدّي في الحقيقة إلى أنّ الثورة لن تكون ثورة على الاستغلال وعلى جذوره، ولن تعيد الجماعة إلى مسيرتها الرشيدة ودورها الخلافي الصالح، وإنّما هي ثورة على تجسيد معيّن للاستغلال من قبل المتضرّرين من ذلك التجسيد، ومن هنا كانت تغييراً لمواقع الاستغلال أكثر من كونها استئصالاً للاستغلال نفسه.
الأساس الثاني: استئصال المشاعر التي خلقتها ظروف الاستغلال، واعتماد مشاعر أخرى أساساً للثورة، وبكلمة أخرى: تطوير تلك المشاعر على نحو تمثّل الإحساس بالقيم الموضوعية للعدل والحقّ والقسط والإيمان بعبودية الإنسان لله، التي تحرّره من كلّ عبودية، وبالكرامة الإنسانية، وهذه المشاعر تخلق القاعدة التي تتبنّى تصفية الاستغلال؛ لا لأنّه يمسّ مصالحها الشخصية فحسب، بل لأنّه أيضاً يمسّ المصالح الحقيقية للظالمين والمظلومين على السواء، وتنتزع وسائل السيطرة من المستغلّين، لا طمعاً فيها وحرصاً على احتكارها، بل إيماناً بأنّها من حقّ الجماعة كلّها، وتلغي العلاقات الاجتماعية التي نشأت على أساس الاستغلال، لا لتنشئ علاقات مماثلة لفئة أُخرى من المجتمع، بل لتعيد إلى الجماعة البشرية الشروط الضرورية لممارسة الخلافة العامّة على الأرض، وتحقيق أهدافها الرشيدة.
ويتّضح من خلال المقارنة أنّ الأساس الثاني وحده هو الذي يشكّل الخلفية الحقيقية للثورة، والرصيد الروحي القادر على جعلها ثورة بدلاً عن تجميدها في منتصف الطريق، بينما الأساس الأوّل لا يمكن أن ينجز سوى ثورة نسبية تتغيّر فيها مواقع الاستغلال.
غير أنّ مجرّد ذلك لا يكفي وحده لاختيار الأساس الثاني واعتماد المستضعفين له في كفاحهم ذلك؛ لأنّ الأساس الثاني يتوقّف على تربية للمحتوى الداخلي للثائرين أنفسهم، وإعداد روحي ونفسي - من خلال التعبئة والممارسة الثوريتين - يطهّرهم من مشاعر الاستغلال، ويستأصل من نفوسهم الحرص المسعور على طيّبات هذه الحياة وثرواتها المادّية - سواء كان حرصاً مسعوراً في حالة هيجان كما في نفوس المستغلّين، أو في حالة كبت كما في نفوس المستضعفين. وهذه التربية لا يمكن أن تبدأ من داخل الجماعة التي انحرفت مسيرتها وتمزّقت وحدتها، بل لا بدّ من تربية تتلقّاها، ولا بدّ من هدىً ينفذ إلى قلوبها من خارج الظروف النفسية التي تعيشها.
وهنا يأتي دور الوحي والنبوّة: ﴿فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ ﴾[1].
وتتحقّق بذلك كلمة الله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون﴾[2]، بعد أن تحقّقت نبوءة الملائكة؛ فالوحي وحده هو القادر على أن يؤمّن التربية الثورية والخلفيّة النفسية الصالحة التي تنشئ ثائرين لا يريدون في الأرض علوّاً ولا فساداً، وتجعل من المستضعفين أئمّة لكي يتحمّلوا أعباء الخلافة بحقّ، ويكونوا هم الوارثين: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ﴾[3] ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾[4]
والنبي الرسول هو حامل الرسالة من السماء، والإنسان المبني ربّانياً لكي يبني للثورة قواعدها الصالحة ويعيد إلى الجماعة الشروط الحقيقية لاستعادة دورها الخلافي الصالح، وذلك باعتماد الأساس الثاني.
ومن هنا دعا الأنبياء إلى جهادين: أحدهما الجهاد الأكبر، من أجل أن يكون المستضعفون أئمّة وينتصروا على شهواتهم ويبنوا أنفسهم بناءً ثورياً صالحاً، والآخر الجهاد الأصغر، من أجل إزالة المستغلّين والظالمين عن مواقعهم.
وتسير العمليّتان في ثورة الأنبياء جنباً إلى جنب، فالنبي ينتقل بأصحابه دائماً من الجهاد الأكبر إلى الأصغر، ومن الجهاد الأصغر إلى الأكبر، بل إنّهم يمارسون الجهادَين في وقت واحد، وحتى عندما يخوضون ساحات القتال وفي أحرج لحظات الحرب، انظروا إلى الثائر النموذجي في الإسلام، الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، كيف أقدم بكلّ شجاعة وبطولة على مبارزة رجل الحرب الأوّل في العرب عمرو بن ودّ العامري، واعتبر الناس ذلك منه انتحاراً شبه محقّق، ثمّ كيف أمسك عن قتله بضع لحظات بعد أن تغلّب عليه؛ لأن عمرو أغضبه، فلم يشأ أن يقتله وفي نفسه مشاعر غضب شخصي، وحَرِص على أن ينجِز هذا الواجب الجهادي في لحظة لا غضب لديه فيها إلّا لله تعالى ولكرامة الإنسان على الأرض، وبهذا حقّق انتصاراً عظيماً في مقاييس كلا الجهادَين في موقف واحد فريد.
وعلى هذا الأساس نؤمن بأنّ الثورة الحقيقية لا يمكن أن تنفصل بحال عن الوحي والنبوّة، وما لهما من امتدادات في حياة الإنسان، كما أنّ النبوّة والرسالة الربّانية لا تنفصل بحال عن الثورة الاجتماعية على الاستغلال والترف والطغيان، يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴿ ﴾[5]، كَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾[6].
فالنبوّة ظاهرة ربّانية تمثّل رسالة ثورية وعملاً تغييرياً وإعداداً ربّانياً للجماعة، لكي تستأنف دورها الصالح، وتفرض ضرورة هذه الثورة أن يتسلّم شخص النبي الرسول الخلافة العامّة، لكي يحقّق للثورة أهدافها في القضاء على الجاهلية والاستغلال، ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ﴾[7].
ويبني القاعدة الثورية الصالحة، لكي يمنّ الله عليهم ويجعلهم أئمّة ويجعلهم الوارثين، ﴿فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾[8].
وبذلك يندمج خطّ الشهادة وخطّ الخلافة في شخص واحد، وهو النبي، فالنبوّة تجمع كلا الخطّين. ومن هنا اشترط الإسلام في النبي العصمة، وفي كلّ حالة يقدّر للخطّين أن يجتمعا في واحد بحكم ضرورات التغيير الرشيد، نجد أنّ العصمة شرط أساس في المحور الذي يقدّر له أن يمارس الخطّين معاً؛ لأنّه سوف يكون هو الشهيد وهو المشهود عليه في وقت واحد.
وخلافة الجماعة البشرية في مرحلة التغيير الثوري الذي يمارسه النبي باسم السماء ثابتة مبدئياً من الناحية النظرية، إلّا أنّها من الناحية الفعلية ليست موجودة بالمعنى الكامل، والنبي هو الخليفة الحقيقي من الناحية الفعلية، وهو المسؤول عن الارتفاع بالجماعة إلى مستوى دورها في الخلافة.
وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على النبي - مع أنّه القائد المعصوم - أن يشاور الجماعة، ويشعرهم بمسؤوليتهم في الخلافة من خلال هذا التشاور، ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾[9].
ويُعتبر هذا التشاور من القائد المعصوم عملية إعداد للجماعة من أجل الخلافة، وتأكيد عمليّ عليها.
كما أنّ التأكيد على البيعة للأنبياء وللرسول الأعظم وأوصيائه تأكيد من الرسول على شخصية الأمّة وإشعار لها بخلافتها العامّة، وبأنّها بالبيعة تحدّد مصيرها، وأنّ الإنسان حينما يبايع يساهم في البناء ويكون مسؤولاً عن الحفاظ عليه، ولا شكّ في أنّ البيعة للقائد المعصوم واجبة، لا يمكن التخلّف عنها شرعاً، ولكنّ الإسلام أصرّ عليها واتّخذها أُسلوباً من التعاقد بين القائد والأُمّة، لكي يركّز نفسياً ونظرياً مفهوم الخلافة العامّة للأمّة. وقد دأب القرآن الكريم على أن يتحدّث إلى الأُمّة في قضايا الحكم توعية منه للأمّة على دورها في خلافة الله على الأرض.
﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ﴾[10].
﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا ﴾[11].
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ﴾[12].
﴿أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ﴾[13].
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ﴾[14].
وإذا لاحظنا الجانب التطبيقي من دور النبوّة الذي مارسه خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله، نجد مدى إصرار الرسول على إشراك الأمّة في أعباء الحكم ومسؤوليات خلافة الله في الأرض، حتى أنّه في جملة من الأحيان كان يأخذ بوجهة نظر الأكثر أنصاراً، مع اقتناعه شخصياً بعدم صلاحيتها؛ وذلك لسبب واحد، وهو أن يُشعر الجماعة بدورها الإيجابي في التجربة والبناء.
* من كتاب: نهضة الإنسان: الإنسان والثورة والحرية عند أعلام الفكر الإسلامي الأصيل – مركز المعارف للتأليف والتحقيق
[1] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 213.
[2] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية 30.
[3] القرآن الكريم، سورة القصص، الآية 83.
[4] القرآن الكريم، سورة القصص، الآية 5.
[5] القرآن الكريم، سورة سبأ، الآية 34.
[6] القرآن الكريم، سورة الزخرف، الآية 23.
[7] القرآن الكريم، سورة الأعراف، الآية 157.
[8] (م.ن).
[9] القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية 159.
[10] القرآن الكريم، سورة النساء، الآية 58.
[11] القرآن الكريم، سورة النور، الآية 2.
[12] القرآن الكريم، سورة المائدة، الآية 38.
[13] القرآن الكريم، سورة الشورى، الآية 13.
[14] القرآن الكريم، سورة التوبة، الآية 71.


