الغفلة وأثرها في سلب الهويّة الإنسانيَّة
إنَّ تحصيل القرب من الله عزّ وجلّ يتمّ عبر مجاهدة النفس وتزكيتها، وهي أمر اختياريّ، يمارسه الإنسان بملء إرادته ووعيه، ومن دون جبر أو إكراه من أحد، ولا يحتاج من الإنسان إلّا قرارًا صريحًا وواضحًا، وثباتًا على الطريق.
عدد الزوار: 25إنَّ تحصيل القرب من الله عزّ وجلّ يتمّ عبر مجاهدة النفس وتزكيتها، وهي أمر اختياريّ، يمارسه الإنسان بملء إرادته ووعيه، ومن دون جبر أو إكراه من أحد، ولا يحتاج من الإنسان إلّا قرارًا صريحًا وواضحًا، وثباتًا على الطريق.
وقد ثبت في الفلسفة، أنّ المعرفة والعلم هما من مبادئ صدور الفعل الاختياريّ من الإنسان، والفاعل المختار لا يقوم بفعل شيء ما لم يمتلك تصوّرًا وتصديقًا إزاء ذلك الشيء. ومن هنا فإنّ التزكية منوطة بالعلم والمعرفة، وإنّ أوّل خطوة في طريق المباشرة بهذا الفعل الاختياريّ هي أن تتوفّر لدى الإنسان المعرفة بنفسه والمعرفة بمبدأ التزكية ونهايتها ومسارها، ولن تحصل هذه التزكية ما لم يتبلور هذا التصوّر والتصديق. فقد ورد عن الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): "من عرف نفسه جاهدها، ومن جهل نفسه أهملها"[1].
وعنه (عليه السلام): "أفضل العقل معرفة الإنسان نفسَه، فمن عرف نفسه عقِل، ومن جهلها ضلّ"[2].
وبالتالي فإنّ أوّل شرط لانطلاق الإنسان في حركته التكامليّة باتّجاه القرب من الله، هي أن يعلم بهذه المسألة، ويخرج عن حالة الغفلة والجهل بها. فعن الإمام جعفر الصّادق (عليه السلام) أنّه قال: "من رعى قلبه عن الغفلة، ونفسه عن الشهوة، وعقله عن الجهل، فقد دخل في ديوان المُنَبَّهِينَ"[3].
فما دام الإنسان لم يُزحْ حجاب الغفلة جانبًا، فلن يحصل لديه تكامل وتقرّب من الذات المقدّسة، بل لن يعثر على موقعه في خارطة الوجود، وسوف يبقى حيرانَ تائهًا في هذا العالم. لذلك اعتُبرت الغفلة في بعض آيات القرآن سببًا في فقدان الهويَّة الإنسانيَّة واستحقاق العذاب الإلهيّ. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[4].
في هذه الآية يصرّح تعالى أنّ مصير الكثير من الجنّ والإنس سيكون عذاب جهنّم، وأنَّهم فقدوا هويّتهم الإنسانيَّة وانحدروا إلى منزلة أدنى من الأنعام، وذلك لأسباب ثلاث:
1- إنَّ لهم قلوبًا، لكنّهم لا يستعينون بها لإدراك الحقائق.
2- إنّ لهم أعينًا، لكنّهم لا يستخدمونها لرؤية مسار البصيرة.
3- إنّ لهم آذانًا، لكنّهم يفتقدون السمع.
إنّ القلب والعين والأذن تُعرَّف في قاموس القرآن الكريم كأدواتٍ للمعرفة بالنسبة إلى الإنسان، وبها يتميَّز عن سائر خلق الله تعالى، ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[5]. وما يؤدّي إلى شقاء الإنسان، أو ما يُعدُّ من أهمّ علل الشقاء وأسبابه على أقلّ تقدير، هو الاستخدام غير الصحيح لأدوات العلم والمعرفة، فالذين لا يستخدمون هذه الأدوات للوصول إلى الحقيقة إنّما هم كالأنعام، لأنّ الحيوانات تمتلك آذانًا وعيونًا وقلوبًا، لكنّها لا تستطيع أن تنال بها المعرفة الإنسانيّة. وإذا لم يستخدم الإنسان آلات المعرفة هذه، التي تمثّل مصدر الاختلاف الحقيقيّ بينه وبين الحيوانات، فإنّه يتدنّى إلى مستوًى أدنى من الحيوان، ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾. فإذا لم يَنَل الحيوان معرفة الحقيقة، فعذره في ذلك أنّه لا يمتلك الأدوات الضروريّة لهذه المعرفة، بيْد أنّ الإنسان الضالّ، رغم امتلاكه لهذه الأدوات، فإنّه يتعمّد إغماض عينيه وسدّ أُذنيه وفهمه في وجه الحقيقة.
الأمر الجوهريّ في المقطع الأخير من الآية هو ﴿أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، فهؤلاء إنّما يقعون بهذا الابتلاء، وينحدرون، بحيث يصبحون أدنى من الحيوان بسبب تماديهم في الغفلة.
لذا ينبغي للعاقل الالتفاتُ إلى هويّته الإنسانيَّة، والحفاظ عليها، ووقايتها من الغفلة عن محضر الله عزّ وجلّ، حتّى لا ينحدر إلى ما دون البهائم، كما في حديث الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) حيثُ سأله عبد الله بن سنان: الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ قال (عليه السلام): "قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): "إنّ الله عزّ وجلّ ركّب في الملائكة عقلًا بلا شهوة، وركّب في البهائم شهوة بلا عقل، وركّب في بني آدم كلتيهما، فمن غَلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شرّ من البهائم"[6].
* من كتاب: التربية الإيمانية – سلسلة المعارف التعليمية - دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] عليّ بن محمّد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، الشيخ حسين الحسيني البيرجندي، دار الحديث، لا.ت، ط1، ص453.
[2] م.ن، ص116.
[3] ميرزا حسين النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل، بيروت - لبنان، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، 1408 - 1987م، ط1، ج12، ص111.
[4] القرآن الكريم، سورة الأعراف، الآية 179.
[5] القرآن الكريم، سورة النحل، الآية 78.
[6] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث بقمّ المشرّفة، 1414هـ.ق، ط 2، ج 15، ص 209.


