التوازن بين العبادة والمسؤوليات في حياة الزهراء (عليها السلام)
السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)
كانت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) قد لاقت ما لاقته من مشقّة العمل في المنزل، فاقترح عليها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن تطلب خادمة من أبيها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)،
عدد الزوار: 28كانت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) قد لاقت ما لاقته من مشقّة العمل في المنزل، فاقترح عليها الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) أن تطلب خادمة من أبيها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لهما الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "أفلا اُعلّمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما فكبّرا أربعاً وثلاثين تكبيرة، وسبّحا ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمدا ثلاثاً وثلاثين تحميدةً... فقالت (عليها السلام): رضيت عن الله وعن رسوله، رضيت عن الله وعن رسوله"[1].
فما كان من الزهراء (عليها السلام) إلّا أن حوّلت تلك العطية الإلهيّة إلى سُنّة وسلوك يوميّ، فصنعت سبحة ليتسنّى لها التسبيح بها متى شاءت، فعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، قال: "إنّ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت سبحتها من خيط صوف مفتّل معقود، عليه عدد التكبيرات، وكانت عليها السلام تديرها بيدها تكبر وتسبح حتّى قتل الحمزة بن عبد المطلب، فاستعملت تربته وعملت التسابيح فاستعملها الناس، فلمّا قتل الحسين عدل بالأمر إليه"[2].
ولم تقف بركات هذا التسبيح العظيم عند السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مع كونه هديّة لها بداية، فقد كثرت الأحاديث التي تروي فضله وأهمّيته وأجر من سبّح به، ككون التسبيح به عند الأئمة دبر كلّ صلاة أحبّ إليهم من صلاة ألف ركعة في كلّ يوم[3]. ولعلّنا نستفيد من تعامل السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مع هذا التسبيح، سلوكًا عمليًّا سهل المؤونة لإبقاء ذكر الله حاضرًا في حياتنا دومًا، فالمؤمن يستطيع أن يحمل سبحته أينما كان وأن يردّد فيها تسبيح السيدة الزهراء (عليها السلام) بكيفيته - التي لها أسرارها - متى استطاع ذلك، بل يمكنُه أن يسبح بأصابعه دون سبحة، فيشكّل ذلك تذكيرًا دائمًا له بالله عزّ وجلّ وعبادة دائمة فيستعين بذلك على أموره كافّة، كما كان التسبيح استعانة لها في شؤون منزلها (عليها السلام).
التوازن
إنّ التوازن والاعتدال أمران مطلوبان في كلّ شيء، فمن الخطأ أن ينزع الفرد نحو التفريط أو الإفراط في أيٍّ من شؤونه فينعكس ذلك سلبًا عليه، وفي المقام، لا بدّ من التوازن في موضوع العبادة، وهو ما نراه في حياة السيدة الزهراء (عليها السلام)، فمع أهمّية العبادة التي تبرز في حياة السيدة فاطمة (عليها السلام)، إلّا أنّنا لا نرى أنّها قصّرت في أداء أدوارها المُختلفة في حياتها، فلم تكن تمارس عبادتها على حساب أولادها وأهلها، بل كانت توازن بين الجميع. ففي رواية أنّ الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل عليها يوماً وهي تصلّي، فسمعت صوته، فتوقّفت عن الصلاة وخرجت من المُصلّى فسلَّمت عليه. فمسح يده على رأسها وقال: "يا بنية، كيف أمسيت رحمك الله؟ عشّينا غفر الله لك وقد فعل"[4]، فالرواية تشير إلى أنّها كانت منشغلة بتعبّدها لله عزّ وجلّ، إلّا أنّها لما سمعت رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أتى دارها ويريد الطعام، توقّفت عن أداء مُستحبّاتها وخرجت إليه لتقدّم له ما يحتاج إليه، وفي ذلك إشارة إلى كيفيّة ترتيب الأولويّات في حياة الفرد. ويبيّن الإمام السيد علي الخامنئي (دام ظله) أهمّية التوازن بين أدوار المرأة في حياتها فيقول: "إنّ على المرأة المسلمة أن تسعى في طريق الحكمة والعلم وفي طريق بناء الذّات معنويًّا وأخلاقيًّا وأن تكون في الطّليعة في ميدان الجهاد والكفاح، وأن لا تهتمّ بزخارف الدّنيا ومظاهرها الرّخيصة، وأن تكون عفّتها وعصمتها وطهارتها بحيث تدفع بذاتها عين ونظرة الأجنبيّ المريبة تلقائيًّا، وفي البيت سكينة للزّوج والأولاد وراحة للحياة الزوجيّة، وتُربّي في حضنها الحنون والرّؤوف وبكلماتها اللطيفة والحنونة أولادًا مهذّبين بلا عُقد، وذوي روحيّة حسنة وسليمة، وتُربّي رجال المجتمع ونساءه وشخصيّاته. إنّ الأم أفضل من يبني، فقد يصنع أكبر العلماء آلة إلكترونيّة معقّدة جدًّا مثلًا، أو يصنعون أجهزة للصّعود إلى الفضاء، أو صواريخ عابرة للقارّات، ولكن كلّ هذا لا يُعادل أهميّة بناء إنسانٍ سامٍ، وهو عمل لا يتمكّن منه إلّا الأمّ، وهذه هي أسوة المرأة المسلمة"[5].
* من كتاب: السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام قدوة وأسوة) – سلسلة المعارف التعليمية- دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] المسعودي، الأسرار الفاطمية، مصدر سابق، ص 290-291.
[2] إسماعيل الأنصاري، الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء عليها السلام، مصدر سابق، ج21، ص 122.
[3] المسعودي، الأسرار الفاطمية، مصدر سابق، ص 309 - 310.
[4] إسماعيل الأنصاري، الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء عليها السلام، مصدر سابق، ج21، ص 113.
[5] الإمام الخامنئيّ، إنسان بعمر 250 سنة، مصدر سابق، ص155.


