يتم التحميل...

الإمامة الإلهية: امتدادٌ للرسالة واستمرارٌ للثورة

إضاءات إسلامية

إنّ صنع مجتمع التوحيد ليس بالأمر الهيّن؛ لأنّه ثورة على الجاهلية بكلّ جذورها، وتطهيرٌ للمحتوى النفسي والفكري للمجتمع من جذور الاستغلال ومشاعره ودوافعه،

عدد الزوار: 17

 إنّ صنع مجتمع التوحيد ليس بالأمر الهيّن؛ لأنّه ثورة على الجاهلية بكلّ جذورها، وتطهيرٌ للمحتوى النفسي والفكري للمجتمع من جذور الاستغلال ومشاعره ودوافعه، ومن هنا كان شوط الثورة أطول عادة من العمر الاعتيادي للرسول القائد، وكان لا بدّ للرسول أن يترك الثورة في وسط الطريق، ليلتحق بالرفيق الأعلى، وهي في خضمّ أمواج المعركة بين الحقّ والباطل.

  ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا ﴾[1]

 ومن الواضح أنّ الحفاظ على الثورة - وهي لم تحقّق بعد، بصورة نهائية، مجتمع التوحيد - يفرض أن يمتدّ دور النبي في قائد ربّاني يمارس خلافة الله على الأرض وتربية الجماعة وإعدادها ويكون شهيداً في الوقت نفسه، وهذا القائد الربّاني هو الإمام، ويجب أن يكون معصوماً؛ لأنّه يستقطب الخطّين معاً، ويمارس - وفقاً لظروف الثورة - خطّ الخلافة إلى جانب خطّ الشهادة.

 وعصمة الإمام تعني أن يكون قد استوعب الرسالة التي جاء بها الرسول القائد استيعاباً كاملاً، بكلّ وجوده وفكره ومشاعره وسلوكه، ولم يعِشْ للحظة شيئاً من رواسب الجاهلية وقيمها، "لم تدنّسه الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسه من مدلهمّات ثيابها[2]"؛ لكي يكون قادراً على الجمع بين الخطّين في دور واحد يمارس فيه عملية التغيير دون أن يتغيّر، ومواصلة الإشعاع النبوي دون أن يخفت، واتّخاذ القرارات النابعة بكامل حجمها من الرسالة التي يحملها دون أدنى تأئّر بالوضع الجاهلي الذي يقاومه.

 فالإمام كالنبي، شهيد الله وخليفته في الأرض، من أجل أن يواصل الحفاظ على الثورة وتحقيق أهدافها، غير أنّ جزءاً من دور الرسول يكون قد اكتمل، وهو إعطاء الرسالة والتبشير بها، والبدء بالثورة الاجتماعية على أساسها. فالوصيّ ليس صاحب رسالة، ولا يأتي بدين جديد، بل هو المؤتمن على الرسالة والثورة التي جاء بها الرسول. والإمامة ظاهرة ربّانية ثابتة على مرّ التاريخ، وقد اتّخذت شكلين ربّانيين:

 أحدهما: شكل النبوّة التابعة لرسالة النبي القائد. فقد كان في كثير من الأحيان يخلف النبي الرسول أنبياء غير مرسلين، يكلّفون بحماية الرسالة القائمة ومواصلة حملها. وهؤلاء أنبياء يوحى إليهم، وهم أئمّة، بمعنى أنّهم أوصياء على الرسالة، يقول الله تعالى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين﴾[3]، ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾[4].

 ثانيهما: هو الوصاية بدون نبوّة، وهذا هو الشكل الذي اتّخذه رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) بأمر من الله تعالى، فعيّن أوصياءه الاثني عشر، من الأئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، ونصّ على وصيّه المباشر بعده، علي بن أبي طالب عليه السلام، في أعظم ملأ من المسلمين.

ولعلّ الذي يحدّد هذا الشكل أو ذاك، مدى إنجاز الرسول القائد لتبليغ رسالته. فإذا كان قد أكمل تبليغها أخذت السماء بالشكل الثاني، كما هو الحال بالنسبة إلى سيّد المرسلين، كما نصّ القرآن الكريم: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾[5].

 وإذا كانت الرسالة والثورة بحاجة إلى وحي مستمّر واتّصال مباشر بما تتنزّل به الملائكة من قرارات السماء، اتّخذ الشكل الأوّل.

 ويلاحظ في تاريخ العمل الربّاني على الأرض أنّ الوصاية كانت تُعطى غالباً لأشخاص يرتبطون بالرسول القائد ارتباطاً نسبياً، أو لذرّيته وأبنائه، وهذه الظاهرة لم تتّفق فقط في أوصياء النبي محمّد صلى الله عليه وآله، بل اتّفقت في أوصياء عدد كبير من الرسل، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ... ﴾[6]، ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ﴾[7].

 فاختيار الوصي كان يتمّ عادة من بين الأفراد الذين انحدروا من صاحب الرسالة، ولم يروا النور إلّا في كنفه وفي إطار تربيته، وليس هذا من أجل القرابة بوصفها علاقة مادّية تشكّل أساساً للتوارث، بل من أجل القرابة بوصفها تشكّل عادة الإطار السليم لتربية الوصي، وإعداده للقيام بدوره الربّاني. وأمّا إذا لم تُحقِّق القرابة هذا الإطار، فلا أثر لها في حساب السماء، قال الله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾[8].
 
* من كتاب: نهضة الإنسان: الإنسان والثورة والحرية عند أعلام الفكر الإسلامي الأصيل – دار المعارف الإسلامية


[1]  القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية 144.
[2]  زيارة وارث، مفاتيح الجنان.
[3]  القرآن الكريم، سورة الأنبياء، الآية 72 - 73.
[4]  القرآن الكريم، سورة السجدة، الآيتان 23 - 24.
[5]  القرآن الكريم، سورة المائدة، الآية 3.
[6]   القرآن الكريم، سورة الحديد، الآية 26.
[7]  القرآن الكريم، سورة الأنعام، الآية 84.
[8]  سورة البقرة، الآية 124.

2025-12-08