الإيمان والمعرفة ودلالة حادثة المباهلة
التربية الإيمانية
للوهلة الأولى يتبادر إلى الذهن أنّ الإيمان بالله يعني أن نعلم بأنّ الله موجود، ولكن من خلال الرجوع إلى القرآن الكريم يتّضح خطأ هذه النظريّة. فالقرآن لا يرى التماثل بين المعرفة والإيمان،
عدد الزوار: 620للوهلة الأولى يتبادر إلى الذهن أنّ الإيمان بالله يعني أن نعلم بأنّ الله موجود، ولكن من خلال الرجوع إلى القرآن الكريم يتّضح خطأ هذه النظريّة. فالقرآن لا يرى التماثل بين المعرفة والإيمان، بل يستفاد من القرآن أنّ المعرفة أوسع مدًى من الإيمان، فلا يُستنتَج من القرآن الكريم والروايات الشريفة أن كلّ مَن علم بوجود الله آمن به، أو إذا ما تبيّنت له نبوّة نبيّ من الأنبياء فذلك يعني إيمانه بذلك النبيّ، بل على العكس، القرآن الكريم يُشير إلى موارد متعدّدة حيث علم بعض الناس، بل أيقن بالنبوّة ووجود الله، لكنّه أصرَّ على كفره وجحوده:
يقول تعالى عن آل فرعون: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾[1]، فهذه الآية صريحة بأنَّ أولئك كانوا يعلمون تمام العلم أنّ الله موجود وأنّ موسى عليه السلام نبيّ ذلك الإله، لكنّهم، ونظرًا لروح التعالي والظلم التي كانوا عليها، كانوا ينكرون هذه القضيّة. وفي آية أخرى يخاطب موسى عليه السلام فرعون قائلًا: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾[2]. وتدلّ أداتي التأكيد "اللّام" و"قد" في الآية الكريمة، أنّ فرعون كان يعلم أنّ هذه المعجزات التي تحقّقت على يدي موسى عليه السلام لم تنزل إلّا من عند الله مالك الملك وربّ السماوات والأرض.
إذًا، هذه الآية تصرِّح بأنّ فرعون كان متيقّنًا بوجود الله ونبوّة موسى عليه السلام، ولكن هل كان مؤمنًا؟ والجواب أنَّه ليس منكرًا فقط ولم يؤمن، بل ظلَّ مصرًّا على كفره، ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾[3]. ثم إنّه، ولغرض خداع الناس، أمر وزيره هامان بأن يبني له برجًا كي يبحث مِن أعلاه عن الله عزّ وجلّ في السماء، ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾[4].
ومن الحوادث التاريخيّة الدالّة على عدم الملازمة بين المعرفة والإيمان، واقعة المباهلة التي حدثت في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، حيث جاءت مجموعة من النصارى الذين كانوا يعيشون في منطقة "نجران" لمحاورة النبيّ ومناظرته صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لهؤلاء في نجران قوّة وجاه ومركز اجتماعيّ وعلميّ ذائع الصيت، وكان يعيش بينهم كبار علماء النصارى، فأغراهم هذا الرصيد العلميّ، وظنّوا أنّهم قادرون على التغلّب على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في البحث والمناظرة، وظنوا أنَّهم قادرون أن يثبتوا له صلى الله عليه وآله وسلم حقّانيّة المسيحيّة ووجوب اتّباعها. وافق النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على المناظرة، وعلى العكس ممّا كانوا يتصوّرون في البداية، فإنَّهم غُلبوا وعجزوا أمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في المحاورة، ولم يكن لديهم ما يقولون، لكنّهم، رغم ذلك، رفضوا اعتناق الإسلام، فبان كذِب دعواهم، ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾[5].
بناءً على هذا، ليس من الضرورة أن يكون هنالك إيمان إذا ما وُجدت المعرفة، ولكن في المقابل لا بدّ من وجود نوع من العلم والمعرفة كي يحصل الإيمان، فالإنسان يعجز عن الإيمان بشيء وهو جاهل به جهلًا تامًّا.
فمجرّد علم الإنسان - مثلًا - بأنّ الله موجود، أو اتّضاح حقّانيّة وصدق دعوة نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم بالنسبة إليه، لا يُعدُّ كافيًا لإسعاده، بل بالإضافة إلى العلم، عليه أن يؤمن بقلبه أيضًا، ويعمد إلى العمل بلوازم هذا العلم، ولهذا السبب يتعذّر الإيمان دون عمل.
* التربية الإيمانية، دار المعارف الإسلامية الثقافية
[1] سورة النمل، الآية 14.
[2] سورة الإسراء، الآية 102.
[3] سورة القصص، الآية 38.
[4] سورة غافر، الآيتان 36 – 37.
[5] سورة آل عمران، الآية 61.