حياة القلوب
زَادُ المُنِيبين في شهر اللّه
أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَحْيِ قَلْبَكَ بِالمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَهَادَةِ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ، وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ، وِذَلِّلْهُ بِذِكْرِ المَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ، وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَهْرِ وَفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَيَالِي وَالْأَيَّامِ، وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ المَاضِينَ، وذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ فِي مَا فَعَلُوا وَعَمَّا انْتَقَلُوا وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا، فَإِنَّكَ تَجِدهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الْأَحِبَّةِ، وَحَلُّوا دِيَارَ الْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ»
عدد الزوار: 441أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَحْيِ قَلْبَكَ بِالمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَهَادَةِ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ، وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ، وِذَلِّلْهُ بِذِكْرِ المَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ، وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَهْرِ وَفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَيَالِي وَالْأَيَّامِ، وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ المَاضِينَ، وذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ فِي مَا فَعَلُوا وَعَمَّا انْتَقَلُوا وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا، فَإِنَّكَ تَجِدهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الْأَحِبَّةِ، وَحَلُّوا دِيَارَ الْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ»[1].
اهتمّ الإسلام بقلبِ الإنسان اهتماماً بالغاً، وقد شرحَت آيات كثيرة في القرآن الكريم أهمّيّة القلب ودوره، كونه المعيار الذي يميّز الإنسان الصالح من غيره، فَيَقول تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ﴾[2]، لكنّ صاحب القلب الحيّ كالأرض الصالحة الزكيّة التي تثمر فيها أشجار السعادة وتحيا بِربيع دائم؛ ﴿وَإِذَا مَآ أُنزِلَتۡ سُورَة فَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمۡ زَادَتۡهُ هَٰذِهِۦٓ إِيمَٰناۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَزَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنا وَهُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ ١٢٤ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَض فَزَادَتۡهُمۡ رِجۡسًا إِلَىٰ رِجۡسِهِمۡ وَمَاتُواْ وَهُمۡ كَٰفِرُونَ﴾[3].
المرحلة الأولى (إيجابيّة): إحياء القلب بالموعظة
«أَحْيِ قَلْبَكَ بِالمَوْعِظَةِ»؛ ما المقصود بالموعظة؟ تتمثّل الموعظة بالخيرات والمكرمات والتوقّي مِن السيّئات والقبائح، فإذا انطلقت هذه المواعظ مِن القلب، مقترنة بالأدلّة والشواهد، وَبِنيّة إسداء الخير للآخرين والشفقة عليهم، فإنّها تسكن القلب وتؤثّر في إحياء الروح والعواطف.
المرحلة الثانية (سلبيّة): الزهد
«أَمِتْهُ بِالزَهَادَةِ»، إذ يجب أن يموت القلبُ بِآليّة الزُهد، ويكسب حياة جديدة بالموعظة. فالإمام عليّ (عليه السلام)، بتعبيره البليغ والجذّاب، يأمر بإحياء القلبِ، ثمّ يأمر بإماتته؛ ينظر الأمر الأوّل إلى الأبعاد الإيجابيّة في العقل والروح، بينما ينظر الثاني إلى الأبعاد السلبيّة، فيكون العقل أسيرَ براثن الشهوات. وهذه مرحلة إزالة العوائق والموانع عن القلب.
المرحلة الثالثة: تقوية القلب
«وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ» الذي يحصل عليه الإنسان بالنظر في آفاق الخلق وأسرار الطبيعة، أو بالعبادة والعبوديّة للَّه تعالى، فيعبد اللَّه كأنّه يراه، ويؤمن بالآخرة كأنّه فيها. وينشأ هذا اليقين مِن التفكير في خَلق السماوات والأرض، أو مِن التربية والبيئة، ثمّ ينمو ويَقوى بالعمل بِمقتضاه[4].
المرحلة الرابعة: التنوير
«وَنَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ»، إذ يجعل الإنسان فيه إشراقة نورٍ يُضيء جوانب ظلمات القلب. فَالحكماء عاشوا تجارب الحياة واستخلصوا أسرارها وقدّموها للناس صافية من كلِّ كَدر، فيحسن بمن وقف عليها أن يأخذها بجدّ ويعمل بها بِيَقين[5]، إذ إنّ الحكمة والمعرفة مِن شأنها أن تنير طريق السالك إلى اللَّه وتمنحه المعرفة بالعوائق التي تواجه المؤمن في طريق المعنويّات.
المرحلة الخامسة والسادسة: كبح النفس عن التمرُّد
بما أنّ نفس الإنسان قد تتمرّد عليه وتسلك سبيل الطغيان والعصيان، فإنّ الإمام عليّ (عليه السلام) يرشده إلى كيفيّة كبح جماحها، فيقول: «وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ»، لأنّ الموت والإقرار بالفناء يعملان على تذليل الجماح، فيتعامل الإنسان مع الواقع والحياة مِن موقع الإذعان والتسليم.
التمعُّن في حوادث الدهر
بعد أن طرح الإمام عليّ (عليه السلام) توصياته السابقة، أوصى ولده بأن يتمعّن ويتدبّر في حوادث الدهر والزمان، ويرى المتغيّرات والتقلّبات التي تطرأ بالليل والنهار؛ «وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وَفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّام». فأشار إلى فجائع الناس في الدنيا، والتي تستتبع متغيّرات وتقلّبات كثيرة، وإلى الحوادث المرّة والأليمة التي يفرضها الواقع الصعب على الإنسان في حركة الحياة، وإلى الآفات والبلايا والأمراض وأشكال الإخفاق التي تنقضّ عليه كحيوان مفترس، وهو لا يملك وسيلة للدفاع عن نفسه والتصدّي لها ومقاومتها. ثمّ يُشير إلى أنّ مرور الزمان وتبدّل الليل والنهار مِن شأنه أن يثير تقلّبات قبيحة ومزعجة وتغيّرات مؤسفة وغير مقبولة في حياة الفرد والمجتمع البشريّ، فيجعلها مُظلمة ومشوّشة. فَلَو تمعّن الإنسان في هذه الأمور وتَدبّر في هذه الحوادث والتقلّبات، لَتَبصَّر في حقائق هذا العالَم، واندفع للحركة في الطريق الصحيح.
كيف نتمعَّن ونتفكَّر في الحوادث والتقلّبات؟
يشرح الإمام (عليه السلام) هذه الحقيقة، فيقول: «وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ، وَذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ فِي مَا فَعَلُوا وعَمَّا انْتَقَلُوا وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا». والمضمون نفسه ورد في القرآن الكريم، فَقَال تعالى: ﴿قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلُۚ﴾[6]، و﴿أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوب يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَان يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ﴾[7]. ثمّ يُوضّح الإمام (عليه السلام) هذه الحقيقة أكثر، فيقول: «فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الْأَحِبَّةِ، وَحَلُّوا دِيَارَ الْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ». فَلَو شكّكنا في كلّ شيء، فلا شَكّ في هذه الحقيقة الحاسمة، وهي أنّنا -كلّنا من دون استثناء- سائرون على خطى القدماء، وسنلاقي المصير نفسه، في ذلك اليوم الذي نودّع فيه الزوجة والأبناء الأصدقاء والمقامات ووسائل الحياة كلّها، فَنتركها لِغيرنا، ونرحل.
* زَادُ المُنِيبين في شهر اللّه، إصدار دار المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، الطـبعــة الأولى 2024م.
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص392، الكتاب 31
[2] سورة البقرة، الآية 204.
[3] سورة التوبة، الآيتان 124 - 125.
[4] مغنيّة، الشيخ محمّد جواد، في ظلال نهج البلاغة، انتشارات كلمة الحقّ، إيران، 1427ه، ط1، ج3، ص488.
[5] الموسويّ، السيّد عبّاس، شرح نهج البلاغة، دار المحجّة البيضاء، لبنان - بيروت، 1418ه - 1998م، ط1، ج4، ص273.
[6] سورة الروم، الآية 42.
[7] سورة الحجّ، الآية 46.