وظائف تلاوة القرآن وأسرارها
زَادُ المُنِيبين في شهر اللّه
﴿ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَتۡلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ﴾
عدد الزوار: 846﴿ٱلَّذِينَ ءَاتَيۡنَٰهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ يَتۡلُونَهُۥ حَقَّ تِلَاوَتِهِۦٓ أُوْلَٰٓئِكَ يُؤۡمِنُونَ بِهِۦۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ﴾[1].
القلوب كالأجساد تمرض وتموت
إنّ قلب العبد كجسده، معرّض للإصابة بالمرض أو الموت، ويزيد القلب عليه أنّه يصاب بالصّدأ أو القساوة، وما يدلّ على المرض والقساوة قوله تعالى: ﴿لِّيَجۡعَلَ مَا يُلۡقِي ٱلشَّيۡطَٰنُ فِتۡنَة لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَض وَٱلۡقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمۡۗ﴾[2]، وعلى الموت: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيۡتا فَأَحۡيَيۡنَٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورا يَمۡشِي بِهِۦ فِي ٱلنَّاسِ﴾[3]؛ أمّا ما يدلّ على الصدأ فقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد»[4].
وكما أنّ للجسد علاجاً، فكذلك ثمّة علاج للقلب، يقول العلّامة الطباطبائيّ (قدس سره): «إنّ مرضَ القلب تلبّسه بنوع من الارتياب والشكّ، يكدّر أمر الايمان بالله، والطمأنينة إلى آياته، وهو اختلاطٌ من الإيمان بالشرك؛ ولذلك يرد على مثل هذا القلب من الأحوال، ويصدر عن صاحب هذا القلب في مرحلة الأعمال والافعال ما يناسب الكفر بالله وبآياته. وبالمقابلة تكون سلامة القلب وصحّته هي استقراره في استقامة الفطرة ولزومه مستوى الطريقة، ويؤول إلى خلوصه في توحيد الله سبحانه وركونه إليه عن كلّ شيء يتعلّق به هوى الإنسان، قال تعالى: ﴿يَوۡمَ لَا يَنفَعُ مَال وَلَا بَنُونَ ٨٨ إِلَّا مَنۡ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلۡب سَلِيم﴾[5]»[6].
وظائف تلاوة القرآن وأسرارها
من هنا نبدأ بأعظم عمليّة علاجيّة لداء القلب؛ لأنّ تلاوة الآيات الشريفة تقود القارئ إلى الالتزام بآداب القراءة. وبعبارة أخرى، فإنّ وظائف التلاوة تفضي إلى نتائج علاجيّة للقلب، وتقوّم السلوك العمليّ للفرد، والوظائف هي:
1. ينبغي للقارئ أن يبتدئ التلاوة بالاستعاذة،، ومن أسرارها أنّها تغلق أبواب المعصية وهو هدف بذاته، يطلبه الناجون، يقول تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأۡتَ ٱلۡقُرۡءَانَ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ ٱلرَّجِيمِ﴾«أغلقوا أبواب المعصية بالاستعاذة»[8].
2. الافتتاح بالبسملة والتسمية، ;ولا تُفتَح أبواب الطاعة إلّا بها، هذا ويضاف إليه الذكر المتكرِّر لصفتَي الرحمة الرحمانّية والرحمة الرحيميّة، إذ ترسّخان ملكة العفو والمغفرة في نفسه الإنسان وتزيده اطمئناناً، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «وافتحوا أبواب الطاعة بالتسمية»[9].
3. الترتيل والتدبّر، فإنّ الآيات الشريفة ليست بالنثر ولا بالشعر، ولا بدّ من أن تكون القراءة بأسلوب ينسجم مع طبيعة الآيات، وقد اصطلح عليه القرآن بالترتيل: ﴿وَرَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا﴾[10]، وقد فسّره رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: «بيّنه تبياناً، ولا تنثره نثر الرمل، ولا تهذّه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه»[11].
وإنّ من أهمّ وظائف التلاوة التأمّل في الآيات، وتوجّه العقل إلى باطنها، وهو ما يعبَّر عنه بالتدبّر، يقول تعالى: ﴿كِتَٰبٌ أَنزَلۡنَٰهُ إِلَيۡكَ مُبَٰرَك لِّيَدَّبَّرُوٓاْ ءَايَٰتِهِۦ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ﴾[12].
ومن أسرار التدبّر كسر الأقفال عن القلوب لنثر بذور الهداية فيها، فتنبت استقامة وبصيرة ووعياً، يقول تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ ٱلۡقُرۡءَانَ أَمۡ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقۡفَالُهَآ﴾[13]، وعن الإمام عليّ بن الحسين(عليهما السلام): «آيات القرآن خزائن العلم، فكلّما فتحت خزانه فينبغي لك أن تنظر فيها»[14].
وإنّ التدبر في القراءة كالتفقّه في العبادة، عن الإمام الباقر (عليه السلام): «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ... ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبُر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه»[15].
4. الحضور القلبيّ مع كلّ آية، وأن تتلى مع الحزن والانكسار، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «إِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِالْحُزْنِ فَاقْرَؤوهُ بِالْحُزْنِ»[16]، ويصف أمير المؤمنين (عليه السلام) المتّقين بقوله: «تَالِينَ لأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا، يُحَزِّنُونَ بِه أَنْفُسَهُمْ ويَسْتَثِيرُونَ بِه دَوَاءَ دَائِهِمْ»[17].
القلب السليم
بعد الإشارة إلى أنّ البعد المعنويّ في الإنسان الذي نعبّر عنه أحياناً بالقلب أو الروح، قد يصيبه ما يحجبه عنه الله تعالى بسبب المعاصي والآثام، وأخطر ما فيها النفاق، إذ يؤدّي إلى موته، ولكي نحافظ على سلامته، ونعمل على صونه ليبقى سليماً مطمئنّاً، لا بدّ من سلوك السبيل المناسب، وسبيل ذلك ذكر الله سبحانه: ﴿أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ﴾، ﴿أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ﴾[18].
ولم يتوقّف تأثير تلاوة آيات القرآن عند حدّ معيّن، بل يصل إلى الكيان الوجوديّ للفرد، فيصيّره في العالم الملكوتيّ بمقدار تفاعله مع الآيات الشريفة، إذ يقول تعالى: ﴿إِذَا تُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُ ٱلرَّحۡمَٰنِ خَرُّواْۤ سُجَّداۤ وَبُكِيّا﴾[19]. هذه من صور الدنيا، وأمّا صورته البرزخيّة، فيقول الإمام الصادق (عليه السلام): «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَهُوَ شَابٌّ مُؤْمِنٌ، اخْتَلَطَ الْقُرْآنُ بِلَحْمِهِ وَدَمِه، وَجَعَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَكَانَ الْقُرْآنُ حَجِيزاً (مانعاً) عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ، إِنَّ كُلَّ عَامِلٍ قَدْ أَصَابَ أَجْرَ عَمَلِهِ غَيْرَ عَامِلِي، فَبَلِّغْ بِهِ أَكْرَمَ عَطَايَاكَ، قَالَ فَيَكْسُوهُ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ حُلَّتَيْنِ مِنْ حُلَلِ الْجَنَّةِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ [للقرآن]: هَلْ أَرْضَيْنَاكَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ الْقُرْآنُ: يَا رَبِّ قَدْ كُنْتُ أَرْغَبُ لَهُ فِيمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، فَيُعْطَى الْأَمْنَ بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِيَسَارِهِ ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَيُقَالُ لَهُ اقْرَأْ وَاصْعَدْ دَرَجَةً ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: هَلْ بَلَّغْنَا بِهِ وَأَرْضَيْنَاكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. قَالَ وَمَنْ قَرَأَهُ كَثِيراً وَتَعَاهَدَهُ بِمَشَقَّةٍ مِنْ شِدَّةِ حِفْظِهِ، أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَجْرَ هَذَا مَرَّتَيْنِ»[20].
حظّ القلب من التلاوة
1. زيادة الإيمان: باعتبار أنّ التاليَ لأجزاء القرآن سيجد موضوعات قرآنيّة متعدّدة تنقله من حال إلى حال، ويجول مع كلّ فكرة تبعاً للمستطردات القرآنيّة، فتنير قلبه، وهذا ممّا يزيد في إيمانه: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰنا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ﴾[21]. فعلى سبيل المثال، نلاحظ أنّ السعي بين التشويق والتخويف، كما هو عليه حال المتّقين الذين وصفهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ، أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ»[22]، يعرج بأرواحهم من هذا العالم إلى عالم آخر، فيزدادون تعلّقاً بالله تعالى.
2. شرح الصدر وتنوير السريرة: الصدور الضيّقة الحرجة والسرائر المظلمة، تفتقر إلى الانشراح والاستنابة، وأفضل عامل لهما معاً تلاوة القرآن الكريم، عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «أفضل الذكر القرآن، به تشرح الصدور، وتستنير السرائر»[23].
إنّ من أسرار القرآن أنّه يوفّر لكلّ ذي حاجة حاجته، ويجد كلّ طالب ضالّته فيه، فهو ريُّ النفوس الظمأة وربيع القلوب وطريق العلماء، وبذلك وصفه أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ يقول: «جَعَلَهُ اللَّهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ، وَرَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ، وَمَحَاجَ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ، وَدَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ وَنُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ»[24].
* زَادُ المُنِيبين في شهر اللّه، إصدار دار المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، الطـبعــة الأولى 2024م.
[1] سورة البقرة، الآية 121.
[2] سورة الحج، الآية 53.
[3] سورة الأنعام، الآية 122.
[4] قطب الدين الراونديّ، أبو الحسين سعيد بن هبة الله، الدعوات (سلوة الحزين)، مدرسة الإمام المهدي (عليه السلام)، إيران - قمّ، 1407ه، ط1، ص237.
[5] سورة الشعراء، الآيتان 88 - 89.
[6] الطباطبائيّ، العلّامة السيّد محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1417ه، ط5، ج5، ص377.
[7] سورة النحل، الآية 98.
[8] قطب الدين الراونديّ، الدعوات (سلوة الحزين)، مصدر سابق، ص52.
[9] المصدر نفسه.
[10] سورة المزمل، الآية 4.
[11] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج89، ص215.
[12] سورة ص، الآية 29.
[13] سورة محمد، الآية 24.
[14] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، مصدر سابق، ج89، ص216.
[15] الصدوق، الشيخ محمّد بن عليّ بن بابويه، معاني الأخبار، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقمّ المشرّفة، إيران - قمّ، 1379هـ - 1338ش، لا.ط، ص226.
[16] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص614.
[17] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص304، الخطبة 193.
[18] سورة الحديد، الآية 16.
[19] سورة مريم، الآية 58.
[20] الشيخ الكلينيّ، الكافي، مصدر سابق، ج2، ص603.
[21] سورة الأنفال، الآية 2.
[22] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص304، الخطبة 193.
[23] الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، مصدر سابق، ص209.
[24] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، مصدر سابق، ص316، الخطبة 198.