يتم التحميل...

الصبر في ساحات المواجهة

الجهاد

الصبر هو الصِّفة الحميدة الضَّرورية للجميع خصوصاً للمرابطين في ساحات المواجهة. إذ إنّ اجتياز اللحظات الحرجة والمصيرية في ميادين المعركة، لا يُمكن أن يتحقّق ما لم يكن المجاهد صابراً بكلّ ما للصّبر من معنى.

عدد الزوار: 57

الصبر هو الصِّفة الحميدة الضَّرورية للجميع خصوصاً للمرابطين في ساحات المواجهة. إذ إنّ اجتياز اللحظات الحرجة والمصيرية في ميادين المعركة، لا يُمكن أن يتحقّق ما لم يكن المجاهد صابراً بكلّ ما للصّبر من معنى.
 
المواجهة والحرب، الانتصار والهزيمة، الجوع والعطش، البرد والحرّ، الدِّفاع والهجوم، التراجع والتقدّم، وغيرها. كلّ هذه مواقف حسّاسة وحرجة تستلزم الصبر، والمجاهدون حقّاً هم الذين يستعينون بالصبر في هذه المواقف الحرجة، وعليهم أن يَدْعوا الآخرين للتحلّي بالصبر أيضاً لاجتياز تلك المصاعب.

إنّ المعارك التي يفرضها الجناة والمعتدون وقوى الكفر على الإسلام، تُعتبر بنّاءةً ومفيدة جدّاً بالنسبة لنا، على الرغم من أنّها حملت ولا زالت تحمل معها خسائر جسيمةً غير قابلة للتعويض. وبسببها يواجه أعزّتنا في ساحات المواجهة العديد من المشاكل الصعبة من الحرّ اللاذع والبرد القارس.

إذا تأمّلنا قليلاً وقارنّا بين وضع مجاهدينا حالياً في المواجهات، ووضع جند الإسلام خلال الصدر الأول للإسلام. نستنتج بوضوح أنّ وضع مجاهدينا حالياً يُعتبر أفضل- ولله الحمد. من ناحية أمور الرفاهية. فمسلمو الصدر الأوّل للإسلام كانوا يذهبون إلى القتال حفاة وتتعرّض أرجلهم العارية للكثير من الجروح والأذى بسبب ذلك، وكانت مؤونتهم في بعض المعارك لا تتعدّى التمرة الواحدة.
 
نعم، في عصر الإسلام الأول، عانى جندُ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الكثير من المصاعب والمشاكل والجوع والعطش والأذى.
 
إنَّ الحرب تحمل معها عادة المتاعب والمصاعب وتُحدِث بعض النَّواقص. والذي يسدّ هذا النقص ويتغلّب على كلّ هذه المصاعب والمتاعب هو صبر وإيمان المجاهدين والمقاتلين، فالصبر والإيمان والرضا بقضاء الله تعالى هو الذي يبعث فيهم القدرة على المقاومة والصمود.
 
إنَّ الصَّبر والصُّمود تجاه الظروف الصعبة هو الذي يدحر في الواقع شياطين الإنس والجن. وهو الذي يوصل المجاهد إلى هدفه الأسمى، إلى لقائه بمحبوبه والحياة عنده وتحت ظلّه.
 
وما أسرع ما تُضِّلُّ الشياطين الإنسان وتدفعه إلى أسفل سافلين، إذا لم يكن يتحلّى بالصبر.
 
حديثٌ بسيط في غير موقعه عن المواجهة، وعن التململ وضعف معنويات الآخرين. وسوءُ الظنّ، وعدم الصبر تجاه بعض الصعوبات المؤقّتة، يمكن أن يسلب الإرادة من الإنسان ويبعث فيه اليأس ويؤدّي به إلى سوء العاقبة، في حينِ إنّ استمرار النشاط والحيوية والتضحية وحفظ الإيمان والعقيدة، مرهونٌ بصبر جند الإسلام المجاهدين وبصبر الشعب المسلم.
 
علماءُ الأخلاق يُجمعون على اعتبار صفة الصبر كأساسٍ لبناء جميع الفضائل في الإنسان، فإذا فقد الصَّبر عجز عن اكتساب أيٍّ من الفضائل والصفات الحسنة الأخرى، ولهذا السبب بالذّات أولى القرآن الكريم الصبر أهمّيةً كبيرةً وأشار إليه وإلى متعلِّقاته في أكثر من مئة مورد، وهنا يجدر التذكير بأنّ الله تعالى أعدّ أجراً عظيماً جدّاً للصابر والصامد تجاه الظروف الصعبة إذا كان ذلك من أجل تثبيت كلمة (لا إله إلا الله).
 
والصبر على المصاعب والمشاكل أثناء المواجهة، هو الذي يُربّي الإنسان ويُركّز فيه صفات الكمال، وهذه المصاعب التي تبدو في الظاهر بلاءً، هي في الحقيقة نعمٌ حقيقية بالنسبة للرجل الربّاني الذي يستعين بالصبر في مواجهتها وهذه النعم يجب استثمارها بقدر المستطاع من أجل بناء الذّات.
 
قال الله تعالى: ﴿فَأَمَّا ٱلإِنسَٰنُ إِذَا مَا ٱبتَلَىٰهُ رَبُّهُۥ فَأَكرَمَهُۥ وَنَعَّمَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّي أَكرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ٱبتَلَىٰهُ فَقَدَرَ عَلَيهِ رِزقَهُۥ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَٰنَنِ﴾[1].
 
القرآن الكريم يتحدّث عن موقف الإنسان من الابتلاء والامتحان الإلهي. فيذكر موقف من يعتبر نزول النعم الإلهية عليه إكراماً له، ورحمة ولطفاً في حين أنّه يعتبر بعض الصعوبات التي يمرّ بها من محدودية الرزق وغير ذلك، إهانة له ودليلاً على عدم حبّ الله تعالى له وعدم رحمته به، والقرآن الكريم يرفض كلا الموقفين ويُحدّد أنّ كلا الأمرين، سواءً إعطاء النعم أو إنزال المصائب، هما من أجل اختبار الإنسان وابتلائه[2].
 
القرآن الكريم يُحدّد بوضوح، أنّ الهدف من خلق الإنسان هو العبادة أي توفير الفرصة لعبادة الله تعالى والتكامل من خلال ذلك، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقتُ ٱلجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ﴾[3].

والابتلاء بالمصاعب هو طريق تحقّق هذا الهدف. فمن خلاله يُعرف صدق العبادة. يقول الله في كتابه المجيد: ﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيء مِّنَ ٱلخَوفِ وَٱلجُوعِ وَنَقص مِّنَ ٱلأَموَٰلِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ * ٱلَّذِينَ إِذَا أَصَٰبَتهُم مُّصِيبَة قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَٰجِعُونَ ١٥٦ أُوْلَٰئِكَ عَلَيهِم صَلَوَٰت مِّن رَّبِّهِم وَرَحمَة وَأُوْلَٰئِكَ هُمُ ٱلمُهتَدُونَ﴾[4].
 
يقول الله تعالى في هذه الآية، إنّنا نمتحنكم بالحرب والمصاعب والجوع والحاجة لتمحيص إيمانكم. ونختبركم بقطع الأرجل والأيدي وغير ذلك. فلا يظننَّ الذين فقدوا أرجلهم أو أيديهم وغيرها في المواجهة، أنّهم لم يحصلوا على شيء ولم يصلوا إلى هدفهم لأنّهم لم يستشهدوا. كلّا فهم أعلى مرتبة من الشهداء. الجريح المصاب في الحرب له أجرٌ وثواب على كلّ لحظة تمرّ من عمره، شريطة أن لا ينفذ صبره بل يستعين بالصبر ويواصل حياته بمعنوية عالية ويواصل جهاده بحسب قدرته شاكراً لله تعالى على كلّ حال.
 
إنّ المنطق القرآني يؤكّدُ أنّ للمجاهد الذي يصبر على المشاكل والصعوبات في الجهاد ميزتين هما: أن صبرَه هذا هو في الحقيقة عبادة يستحقّ عليها الأجر، وأنّ الله تعالى يُبشّره بأنّه من زمرة المهتدين، قال تعالى: ﴿أُوْلَٰئِكَ عَلَيهِم صَلَوَٰت مِّن رَّبِّهِم وَرَحمَة وَأُوْلَٰئِكَ هُمُٱلمُهتَدُونَ﴾[5]. فالمجاهد الصابر فضلاً عن شموله برحمة الله تعالى وصلواته عليه يدخل في زمرة المهتدين وهذا هو الأمر الأهم.
 
وهناك آية أخرى تتحدّث حول أجر الصابر بغير حساب: ﴿قُل يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُم لِلَّذِينَ أَحسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنيَا حَسَنَة وَأَرضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَاب﴾[6].

سبيل النجاة، مركز المعارف للتأليف والتحقيق


[1]  سورة الفجر، الآيتان 15 - 16.
[2]  لاحظ تكرر لفظة "ابتلاه" في بداية الحديث عن كلا الموقفين في الآية. وهناك الكثير من الأحاديث الشريفة التي توضح وتفصّل المفهوم القرآني الذي تطرحه الآية الكريمة نذكر منها للاستشهاد ما يلي: عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ الله أنعم على قوم فلم يشكروا فصارت عليهم وبالاً، وابتلى قوماً بالمصائب فصبروا فصارت عليهم نعمة"، الكليني، الكافي، ج2، ص92.
[3]  سورة الذاريات، الآية 56.
[4]  سورة البقرة، الآيات 155-157.
[5]  سورة البقرة، الآية 157.
[6]  سورة الزمر، الآية 10.

2023-12-05