اِرحَمْ تُرحَمْ
ربيع الأول
عنْ أميرِ المؤمنينَ عليٍّ (عليه السلام): «ارْحَمْ مَنْ دُونَكَ، يَرْحَمْكَ مَنْ فَوْقَكَ، وَقِسْ سَهْوَهُ بِسَهْوِكَ، وَمَعْصِيَتَهُ لَكَ بِمَعْصِيَتِكَ لِرَبِّكَ، وَفَقْرَهُ إلى رَحْمَتِكَ بِفَقْرِكَ إلى رَحْمَةِ رَبِّكَ»
عدد الزوار: 203عنْ أميرِ المؤمنينَ عليٍّ (عليه السلام): «ارْحَمْ مَنْ دُونَكَ، يَرْحَمْكَ مَنْ فَوْقَكَ، وَقِسْ سَهْوَهُ بِسَهْوِكَ، وَمَعْصِيَتَهُ لَكَ بِمَعْصِيَتِكَ لِرَبِّكَ، وَفَقْرَهُ إلى رَحْمَتِكَ بِفَقْرِكَ إلى رَحْمَةِ رَبِّكَ»[1].
منْ مفاتيحِ الأخلاقِ الحميدةِ صِفةُ الرحمةِ في السلوكِ والتعاملِ معَ الناس. ولمَّا كانَ أصحابُ الميمنةِ هُمْ أصحابَ الفوزِ على ما وردَ في آياتِ القرآنِ الكريم، فإنَّ صِفتَهُم أنَّهم يتواصَونَ بالرحمة، ﴿ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾[2].
وأعظمُ ما ينتظِرُه العبدُ بعدَ موتِه أنْ يتغمَّدَه اللهُ عزَّ وجلَّ برحمتِه، ومنْ أبوابِ ذلكَ أنْ يكونَ مِنْ أهلِ الرحمةِ في هذهِ الدنيا، فعنْ رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه): «الراحمونَ يرحمُهُم الرحمنُ (تباركَ وتعالى) ارحموا مَنْ في الأرضِ، يرحمْكُمُ مَنْ في السماء»[3].
ولتربيةِ النفسِ على هذا الخُلُقِ الحَسَن، تُرشِدُنا الروايةُ إلى تذكُّرِ حاجةِ الإنسانِ إلى رحمةِ مَن فوقَه، وطريقُ الوصولِ إليها أنْ يرحمَ مَن دونَه، بل وأنْ يعلمَ أنَّ السهوَ والعِصيانَ إذا صدرا عمَّنْ دونَه، فقد صدرا عنه في حقِّ ربِّه عزَّ وجلَّ، وإذا كانَ مَن دونَه محتاجاً فقيراً إلى أنْ يرحمَه، فإنَّه فقيرٌ محتاجٌ إلى رحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
ووردَ الحثُّ في الرواياتِ على الرحمةِ لأصنافٍ خاصَّةٍ مِنَ الناس، كالرحمةِ مِنَ الكبيرِ للصغير، ومِنَ الغنيِّ للفقير. ومِنَ المواردِ المهمَّةِ هي الرحمةُ بأصحابِ الذنوبِ والمعاصي، فالإنسانُ الذي وفَّقَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ لطاعتِه، وجنَّبَه الوقوعَ في معصيتِه، عليهِ أنْ ينظرَ بعينِ الرحمةِ لأهلِ المعاصي، فعنْ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) في نهجِ البلاغة: «وإنّما يَنبَغي لِأهلِ العِصمَةِ والمَصنوعِ إلَيهِم في السلامَةِ، أن يَرحَمُوا أهلَ الذُّنوبِ والمَعصيَةِ، ويكونَ الشُّكرُ هُو الغالِبَ علَيهِم»[4]، فيصنِّفُ الإمامُ (عليه السلام) الناسَ إلى صِنفَين: فصِنفٌ همْ أهلُ العصمة، وهمُ الذينَ وُفِّقوا للطاعةِ واجتنابِ المعصية، وصِنفٌ همُ الذين أحسنَ اللهُ إليهمْ بما وفَّقَهُم إليه مِنَ الطاعةِ والسلامةِ مِنَ المعصيةِ، وإنْ لم يكونوا مِنَ المعصومين. وينبغي للصنفَينِ أن يلتفتوا بعينِ الرحمةِ لأهلِ الذنوبِ والمعاصي، فيكونُ غالبُ حالِهم التوجُّهُ بالشكرِ للهِ عزَّ وجلَّ على توفيقِ الطاعةِ، ورحمتِهم لأهلِ المعاصي بوعظِهم ونصيحتِهم وإرشادِهم؛ وهذا نفْسُه يجعلُهُم في حاجزٍ عنِ اغتيابِ أهلِ المعصية.
فبعضُ العُصاةِ همْ ظالمونَ لأنفسِهم الضعيفةِ والواهنة، التي أخذ بزمامِها الشيطانُ، وأرداها في مواردِ المخالَفةِ الشرعيّة، وتجاوزِ الحدودِ المطلوبةِ شرعاً؛ فإنَّ هؤلاءِ ينبغي أنْ نتعاطى معهم على أنَّهُم ضعفاءُ يحتاجونَ إلى مساندةٍ وإعانةٍ، فضلاً عنْ عدمِ صِحَّةِ النيلِ منهم، والتعرُّضِ لهم بما يؤذيهم ويزيدُ في ضَعفِهم. وهذهِ الطريقةُ هي التي تعكسُ الرحمةَ الواسعةَ التي شاءَ اللهُ تعالى أن تكونَ مرئيّةً ومجسَّدةً في سلوكِ أهلِ الإيمانِ والطاعة، حتّى لا تكونَ العلاقةُ بين المطيعينَ والعاصينَ قائمةً على الخصومة، وأحياناً العداوة، بل علاقةُ الرحيمِ المُشْفِقِ على محتاجٍ ينبغي أن تُمَدَّ يدُ المساعدةِ إليهِ لانتشالِه مِنَ الهاويةِ التي سقطَ فيها. وبناءً عليه، علينا أنْ نتخيَّلَ مجتمَعاً إيمانيّاً يقومُ بكاملِه أو بمعظمِه بهذهِ المهمَّة، فتُلقى المحبَّةُ والرأفةُ بأشكالٍ مختلفةٍ لتغمُرَ هذا العاصي؛ ليجدَ نفْسَه محاطاً ومدفوعاً نحو الإقلاعِ عَنِ المعصية. ثمَّ إنَّ هذا المنحى السلوكيَّ يزيِّنُ الطاعةَ وقلوبَ المؤمنينَ بزينةِ التخلُّقِ بالسماحةِ، والإحساسِ بوجعِ الآخرينَ ونقصِهم، والعملِ على رفعِهم نحو المستوى اللائقِ بإنسانيَّتِهم.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص77.
[2] سورة البلد، الآيتان 17 و18.
[3] ابن أبي جمهور الإحسائيّ، عوالي اللئالي، ج1، ص361.
[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص197، الخطبة 140.