المناخ السياسي الذي أحاط إمامة الكاظم (عليه السلام)
الحياة السياسية
المناخ السياسي الذي أحاط إمامة الكاظم (عليه السلام)
عدد الزوار: 384
استقبل الإمام الكاظم (عليه السلام) إمامته في جو محفوف بالمخاطر، فمن جهة يواجه سلطة تراقبه وتذكي عيونها لتبطش به، فهو يضطر إلى الاستمرار في اتباع اُسلوب الحذر والكتمان من إبداء أي نشاط يدل على إمامته لشدة طلب المنصور لصاحب الوصية من أهل البيت (عليهم السلام) بعد الإمام الصادق (عليه السلام)، ومن جانب آخر هو مطالب برفع الحيرة عن شيعته، الذين قال بعضهم بإمامة غيره، وذلك يستوجب إظهار النص ونشره إلى أوسع قاعدة من أصحابه.
كان الإمام الكاظم (عليه السلام) في تباشير إمامته لا يباشر النص حتى لأصحابه، ففي رواية هشام بن سالم الذي جاء متحرياً عنه، قال: «فقلت له: جعلت فداك، مضى أبوك؟ قال: نعم. قال: جعلت فداك، مضى في موت؟ قال: نعم([1]). قلت: جعلت فداك، فمن لنا بعده؟ فقال: إن شاء الله يهديك هُداك. قلت: جعلت فداك، إن عبد الله يزعم أنه من بعد أبيه؟ فقال: يريد عبد الله أن لا يعبد الله، قال: قلت له: جعلت فداك، فمن لنا بعده؟ فقال: إن شاء الله أن يهديك هداك أيضاً. قلت: جعلت فداك، أنت هو؟ قال: ما أقول ذلك. قلت في نفسي: لم أصب طريق المسألة. قال: قلت: جعلت فداك، عليك إمام؟ قال: لا، فدخلني شيء لا يعلمه إلاّ الله إعظاماً له وهيبة، أكثر ما كان يحل بي من أبيه إذا دخلت عليه»([2]).
يتبين من خلال مقاطع هذا الحوار مدى الحذر الذي يبديه الإمام (عليه السلام) حتى مع أقرب أصحابه، خشية من أن يشيع الخبر ولو من غير قصد.
وفي مقطع آخر يشير إلى تربص السلطة به وبأصحابه، ويأخذ على صاحبه بالسرية إلاّ لمن يطمئن له، ويكرر محذراً كلمة الذبح مرتين، قال: «قلت: جعلت فداك، أسألك عما كان يسأل أبوك؟ قال: سل تخبر ولا تذع، فإن أذعت فهو الذبح. قال: فسألته فإذا هو بحر. قال: قلت: جعلت فداك، شيعتك وشيعة أبيك ضلال فألقي إليهم وأدعوهم إليك، فقد أخذت عليّ الكتمان؟ قال: من آنست منهم رشداً فألق إليهم، وخذ عليهم الكتمان، فإن أذاعوا فهو الذبح. وأشار بيده إلى حلقه»([3]).
وكان لأصحاب الأئمة دور في تمييز الحق بطرق ألفوها مع سائر الأئمة (عليهم السلام) عند ضبابية النص لظروف خاصة، وذلك من خلال تفوق الإمام بالعلم، وظهور الكرامات على يده، والأمارات التي تساعدهم في المعرفة على أنـّه صاحب الملكة النفسانية الرادعة عن المعاصي المسمّاة بالعصمة من بين سائر أولاد الإمام، ومن بين الطرق التي تميز المدعي من غيره الاختبار العلمي، وأخيراً لا يقطعون عليه إلاّ بعد تحري النص.
وهناك عدة روايات تدل على تشخيص خلص أصحاب الإمام الكاظم (عليه السلام) للإمام الحق، وإسقاطهم المدعين للإمامة، من خلال دقة تحريهم في هذا الأمر الخطير، منها رواية هشام بن سالم المتقدمة، التي يذهب بها إلى اُسلوب اختبار المقدرة العلمية فضلاً عن النص، قال: « كنا في المدينة أنا ومحمد ابن النعمان صاحب الطاق والناس مجتمعون على عبد الله بن جعفر على أنه صاحب الأمر بعد أبيه، فدخلنا عليه والناس عنده، فسألناه عن الزكاة في كم تجب، فقال: في مائتي درهم خمسة دراهم، فقلنا له: ففي مائة؟ قال: درهمان ونصف، قلنا: والله ما تقول المرجئة هذا. فقال: والله ما أدري ما تقول المرجئة.
من هنا أسقطوا عبد الله من الإمامة، فتوجهوا إلى أبي الحسن (عليه السلام)، فقال هشام قلت: جعلت فداك، أسألك عما كان يُسأل أبوك؟ قال: سل تخبر ولا تذع، فإن أذعت فهو الذبح. قال: فسألته فإذا هو بحر. إلى أن قال: ثم لقينا الناس أفواجاً، فكان كل من دخل عليه قطع عليه، وفي كل ذلك يوصي أصحابه بالكتمان»([4]).
ومنها حديث محمد بن أبي عمير، وحديث أبي جعفر محمد بن إبراهيم النيسابوري([5])، إذ توجّها إلى عبد الله بن جعفر بمسائل عرفا من خلالها أنه ليس بصاحبهما.
وأخيراً استطاع أبو الحسن الكاظم (عليه السلام) التوفيق بين حالة الكتمان والإعلان، عن طريق التصريح بالوصية لخاصته وخلص أصحابه، وأخذ الحيطة والحذر عليهم ريثما تتوفر الفرصة المناسبة لذلك، وفي أيام المهدي العباسي اشتهر الإمام (عليه السلام) وتوسعت قاعدة مرجعيته، بعد أن تساقط المدعين للإمامة واهتدى إليه أكثر من لم يقل بإمامته، ورجعوا إليه في أمور دينهم.
الإمام الكاظم (عليه السلام) سيرة وتاريخ، الأستاذ علي موسى الكعبي
([1]) فيه إشارة إلى التأثر بادعاء البعض غيبته ، وهم الناووسية.
([2]) الكافي 1 : 351.
([3]) الكافي 1 : 351.
([4]) الكافي 1 : 351.
([5]) الثاقب في المناقب / محمّد الطوسي : 442 ، الخرائج والجرائح 1 : 328.