الأسوة تعمُّ الانثى في نظر القرآن
المرأة في القرآن والسنة
المرأة سواء أكانت سيئة أو صالحة ليست مثالاً للنساء ، فحسب ، هي امرأة نموذجية ، وهناك فرق بين كون المرأة الصالحة الجيدة نموذجاً للنساء ، وبين كونها امرأة نموذجية ؟...
عدد الزوار: 84
إذا أصبح الإنسان صالحاً فهو أسوة لسائر الناس . إذا كان رجلاً فهو أسوة للناس لا للرجال فقط ، وإذا كانت امرأة فهي أيضاً أسوة للناس لا للنساء فقط، والقرآن الكريم يوضح هذه المسألة بصورة صريحة ، ويذكر أربعة نساء بعنوان نساء نموذجيات ( اثنتان منهن نموذج حسن واثنتان نموذج سيىء ) .
المرأة سواء أكانت سيئة أو صالحة ليست مثالاً للنساء ، فحسب ، هي امرأة نموذجية ، وهناك فرق بين كون المرأة الصالحة الجيدة نموذجاً للنساء ، وبين كونها امرأة نموذجية ؟ ان الرجل إذا أصبح جيداً لا يكون نموذجاً للرجال ، بل هو رجل نموذجي. القرآن الكريم يقول : إن الرجل الجيد هو نموذج للناس وليس نموذجاً للرجال والمرأة الجيدة ليست هي نموذجاً للنساء ، بل هي امرأة نموذجية ، والمرأة السيئة ليست نموذجاً للنساء السيئات ، بل نموذج للناس السيئين .
يذكر القرآن الكريم أربعة نماذج من النساء ـ نموذجان للسيئين ونموذجان للمؤمنين في سورة التحريم . وفي جميع هذه الحالات الأربع ليس هناك كلام عن المرأة والرجل ، لا يقول ان أولئك النساء السيئات هن مثال للنساء السيئات ، بل يقول : إنهن نموذج للناس السيئين . وفي الحالتين الأخريين حين يذكر النساء الفاضلات ، لا يقول : إن النساء الفاضلات هن نموذج للنساء الفاضلات بل يقول : إنهن نموذج للناس الفاضلين .
امرأة لوط وامرأة نوح
يبين القرآن الكريم نموذجاً للناس السيئين بنقل قصة امرأتين سيئتين ويقول : ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِين﴾َ1 .
هنا لا يقول الله تعالى « ضرب الله مثلاً للنساء الكافرات » ولا يقول ان الله ذكر نموذجاً للنساء السيئات ـ بل يقول ( ضرب الله مثلاً للذين كفروا ) لا ( للنساء ) ولا ( للنساء الكافرات ) بناء على هذا يتضح ان ( للذين كفروا ) هذه لا تعني الرجال الكافرين بل تعني الناس الفاسقين والمجرمين ، والمرأة السيئة هي نموذج للناس السيئين لا نموذج للنساء السيئات ( ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوحٍ وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً ) المقصود هنا من الخيانة هي الخيانة الرسالية والعقائدية والثقافية ، ولذا قال لنا الله تعالى :﴿لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ﴾َ2 .
الخيانة للنبي ، تعني سوء التعامل مع دينه ، الخيانة لله ، أي سوء السلوك تجاه الايمان هذه هي الخيانة لله والنبي ، وعندما قال هنا : إن امرأة لوط وامرأة نوح خانتا هذين النبيين وأحدهما من الأنبياء إولي العزم والآخر حافظ الشريعة إبراهيم عليه السلام أي لم تؤمنا برسالتهما ، وهاتان نموذج للناس الكافرين .
بناء على هذا يتضح انه إذا كان الكلام عن ( الذين ) و ( آمنوا ) وأمثال ذلك ، فان المقصود حسب لغة الحوار ، هم الناس ، وليس الرجال ، وإذا أصبحت امرأة سيئة فهي نموذج لناس سيئين ، وليس نموذجاً لنساء سيئات وفي هذه الآية ( وقيل ادخلا النار مع الداخلين ) رغم ان ( ادخلا ) كما هي تثنية مذكر فهي تثنية مؤنث أيضاً . فالمقصود بذكر ( الداخلين ) بصورة جمع مذكر سالم ، هو الناس الجهنميين وليس الرجال الجهنميين . هذان نموذجان للنساء السيئات .
امرأة فرعون ، نمودج للناس المؤمنين :
يذكر القرآن الكريم نموذجين جيدين من النساء أيضاً بصفتهن أسوة ، وقد قال الله تعالى بشأن النساء الفاضلات اللواتي عدهن نموذجاً للناس المؤمنين :﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾َ3 .
إن تعبير القرآن في هذه الآية لايعني ان امرأة فرعون هي نموذج للنساء الصالحات بل ان المراة الصالحة هي نموذج للمجتمع الإسلامي ، والمجتمع الرفيع يتأسى بهذه المرأة ، لا ان النساء فقط يجب ان يأخذن منها درساً . بل المجتمع الإسلامي يجب أن يأخذ منها الدرس . إن الله تعالى لم يقل في هذه الآية : « وضرب الله مثلاً للنساء المؤمنات امرأة فرعون » بل قال : ( وضرب الله للذين آمنوا امرأة فرعون ) هذه المرأة كانت تعيش في بيت كان صاحبه يقول : ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾َ4 ويقول :﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾َ5 . إن جملة ( لا إله إلاّ أنا ) تشير إلى الحصر مثل ( لا إله إلا الله ) وهذا الحصر ادعاه فرعون . الله تعالى يقول : ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾َ6 .
الأعلى هو مفهوم يرافقه الحصر ، لهذا لا يمكن وجود اثنين بعنوان الأعلى ، ولكن فرعون كان يدعي الانحصار والأعلى ، كان يدعي الربوبية والتوحيد الربوبي أيضاً ، وكان يقول : انني الإله الوحيد في مثل هذا البيت نشأت امرأة هي نموذج للناس المتدينين ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون ) .
ثم يذكر القرآن فضائل هذه المرأة ويرى أهمها في بُعدِ الدعاء حيث أخذت في هذا الدعاء ست نكات عظيمة . أصبحت هذه المرأة نموذجاً للنساء الصالحات بسبب انها قالت في الدعاء : ( إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ) .
هل ان امرأة فرعون تريد الجنة أم الله ؟ لقد طلبت الجنة عند الله ؟
الآخرون يطلبون الجنة ، ويطلبون من الله في أدعيتهم﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُُ﴾َ7 ، لكن المرأة أرادت الله أولاً ثم طلبت عند الله بيتاً ، لم تقل : ( رب ابن لن بيتاً في الجنة ) ، ولم تقل : ( ربّ ابن لي بيتاً عندك في الجنة ) بل قالت : ( ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ) ذكرت أولاً عند الله ثم تكلمت عن الجنة ، أي إذا كان الكلام عن ( الجار ثم الدار ) 8 ، فإن هذه المرأة طبقت هذا المعنى في مسألة المقامات الإنسانية وطلبت الله أولاً ثم جنة عند الله . طلبت أولاً لقاء الله واللذة المعنوية ، ثم اللذة الظاهرية ( ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ) .
قد يكون هناك من يقول : ( ربّ ابن لي بيتاً في الجنة ) ثم يقول أخيراً ( عندك ) ، أي يقول ( الدار ثم الجار ) ، لكنها كانت هكذا تفكر ( الجار ثم الدار ) الله ثم الجنة ، ولذا قالت ( ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ) . طبعاً هناك فرق كبير بين الجنة التي تكون عند الله والجنة التي تجري من تحتها الأنهار .
تولي وتبري امرأة فرعون
إن هذين الطلبين ، أحدهما لقاء الله والآخر الجنة ، أي أحدهما ( جنة اللقاء ) والآخر ( جنات تجري من تحتها الأنهار ) ، في هذه الأدعية الستة ، أو هذا الدعاء الذي فيه ستة مطالب ، يعودان إلى التولي ، والطلبات الأربع الأخرى تعود إلى التبري :
1 ـ ( ونجِّني من فرعون )
2 ـ ( وعمله )
3 ـ ( ونجني من القوم الظالمين )
4 ـ وأعمالهم وهي محذوفة .
عندما قالت ( ونجني من فرعون وعمله ) لم يكن طلبها ان ينجيها الله من عذاب فرعون ، يمكن ان يقول شخص إلهي نجني من الظالم ، ولكنه حين يصل إلى السلطة يمارس الظلم ، أما هذه المرأة فلم تطلب من الله نجاتها من فرعون فقط ، بل طلبت الخلاص من عمله وهو الشرك ، لم تطلب النجاة من ظلمه فقط ، بل طلبت الخلاص من الظلم ، طلبت النجاة من أن تكون مظلومة أو ظالمة ، طلبت النجاة من الوقوع في شركه ومن التفكير في ادعاء الربوبية ( ربّ نجني من فرعون وعمله ) ثم قالت : ( ونجني من القوم الظالمين ) قد يتخلص الشخص من فرعون ولكنه يقع في فخ آل عمران أو سائر الظالمين ، لذا عرضت الطلب الخامس ( ونجني من القوم الظالمين ) وحذفت ( أعمالهم ) بقرينة ( نجني من فرعون وعمله ) وحذف ما يعلم جائز .
بناء على هذا فهذه المرأة التي تفهم بهذه الدرجة العالية، وفي طلباتها يوجد تبري وتولي وتسأل من الله مسائل اجتماعية وفردية ، هل أن هذه المرأة النموذجية هي نموذج للنساء ؟ أم انها نموذج للمجتمع ؟ قال الله تعالى : ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا ) ، ولم يقل : ( ضرب الله مثلاً للنساء ) أو ( اللآتي آمنّ ) ، لهذا يتضح انه ليس لدينا نموذج للنساء ، لدينا امرأة نموذجية ، ولكنها ليست نموذجاً للنساء . المرأة النموذجية هي نموذج للناس .
مقام مريم عليها السلام الخاص في القرآن :
النموذج الرابع الذي جاء في القرآن الكريم هو مريم عليها السلام . وهذا النموذج ذكر في سورة التحريم كالنماذج الثلاثة الآنفة . بعد أن قال تعالى : ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون ) ، قال في الآية اللاحقة تكريماً لمقام مريم عليها السلام الخاص : ﴿مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ﴾9.
أي ( وضرب الله مثلاً للذين آمنوا مريم ابنة عمران ) . مريم التي ( أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا ) ، مريم التي ( صدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين ) ، ولأن مقام مريم كان أرفع من مقام امرأة فرعون ، لذا لم يذكرهما دفعة واحدة ، بل ذكرهما في آيتين منفصلتين ، على خلاف تينك الكافرتين اللتين ذكرتا في آية واحدة . ( ومريم ابنة عمران ) التي وصلت من أثر الاحصان والصيانة والعفة ومن أثر تلقي تلك الروح الغيبية إلى﴿انصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾10.
يفهم جيداً من هذه النماذج الأربعة في سورة التحريم أنه لا الرجل النموذجي هو نموذج للرجال ، ولا المرأة النموذجية نموذج للنساء ، يمكن ان يكون الفلاح النموذجي ، نموذجاً للفلاحين ، والصناعي النموذجي ، نموذجاً للصناعيين ، والخطاط النموذجي نموذجاً للخطاطين ، ولكن الإنسان النموذجي ، هو نموذج لجميع الناس ، ولا يختص بالمرأة أو الرجل .
ويجب طبعاً عند تقييم مقام وكمالات مريم عليها السلام عدم نسيان دور أمها ، رغم أن مريم عليها السلام تربت على يد زكريا ، لكن هذا الأمر كان في المرحلة النهائية ، وليس في المرحلة الابتدائية ، كانت أمها أهلاً لأن تلد أم نبي ، وكان لديها ذلك الخضوع الذي جعلها تهدي ابنتها إلى معبد الله . وان قبول الله تعالى هذه الجوهرة كان من أجل أنه يعلم أنه إذا أعطاها فيضاً ستكون أمينة في حفظ الفيض . ورغم ان مريم عليها السلام تقبلها ربها وهي في سن الطفولة﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾11 . ولكن الله تعالى كان يعلم ان هذه المرأة لو حصلت على كمال ستكون أمينة على حفظ الكمال .
لقد اعطى الله تعالى فضيلة لعدد كثير من الرجال ، وكان يعلم أنهم ليسوا أهلاً لذلك ، وأنهم سوف يفتضحون في النهاية ، وكان إعطاء الفضيلة لهم من باب ﴿مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ﴾12 واتمام حجة ، لذا أعطاهم فضيلة ولم يعطهم منصباً ومأمورية . لأن الشخص الذي لم يستمرعلى عمله الصالح ، لو حصل على مأمورية ومنصب يوجه ضربة لأسس الدين الإسلامي، اعطى الله تعالى لبلعم بن باعورا فضيلة ولم يعطه منصباً ، أعطى للسامري فضيلة ولم يعطه منصباً ، لم يكن السامري إنساناً صغيراً ، لقد رأى بعينه الباطنية أثر الملائكة وقال : ﴿بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ﴾13 .
ولكن بدلاً من أن يأخذ فيضاً من ذلك الأثر ، ويواصل طريق موسى وهارون عليهما السلام ويتتلمذ عندهما جاء ونشر عبادة العجل . وكان بلعم بن باعورا شخصاً قال بشأنه الله تعالى :
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا ﴾14 .
تلك نماذج قرآنية تقوم على ان الله يعلم لمن يعطي منصباً ، ولكنه يعطي فضيلة حتى يتضح أن البعض يبدل عمداً الفضيلة إلى رذيلة ، ولأن الله تعالى مطلع على بواطن وظواهر الجميع لا يعطي أبداً منصباً رسمياً للذين لهم لاحقة سوء .﴿ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾15 .
الله تعالى يعلم لمن يعطي مأمورية ، الله تعالى ليس كالبشر العاديين يعطي لشخص إبلاغاً ، ثم يحصل كشف خلاف ويقول إني لا أبصر ما في الباطن . إن الله تعالى يقبل الذين يعلم أنهم ثابتون وملتزمون بحسن اختيارهم . وكانت مريم من هذه النماذج . بناء على هذا رغم انها لم تقم بعمل في أول ولادتها ، ولكن كان معلوماً أن الله إذا اعطاها فضيلة ، تلتزم وتثبت على حفظها ، لذا تولت رعايتها في بداية ولادتها ، أمّا مثل امرأة عمران ، فبعد أن أرادت الوفاء بنذرها ، أودعتها في المعبد ، ومن ذلك الحين وما بعده :﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾16 .
أي جعل الله سبحانه وتعالى زكريا كفيلاً لها ، و ( كفّل ) في هذه الجملة أخذت مفعولين ( المكفّل ) هو الله ، والله تعالى كفل مريم تحت رعاية زكريا ( وكفلها زكريا ) لا ( تكفلها زكريا ) ، لم يتكفل زكريا إلا بالوحي الإلهي ، لم تكن القرعة وقعت باسم زكريا بصورة تلقائية ، لذا قال تعالى : إنهم اقترعوا وكان الكثير يحبون تربية هذه الطفلة . ﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾17 واقترعوا وخرجت القرعة باسم زكريا ، بمشيئة الله .
﴿وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴾18 .
ويقول الله تعالى بأنه نظم الخطة بنحو يكون فيه هو المكفل ويكون زكريا متكفلاً ، ومريم تحت الكفالة ، وهذا في مرحلة البقاء حيث تربيتها ورشدها ، وإلا ففي بداية ولادتها وتكونها وظهورها وهجرتها من الرحم إلى الحضن ، كانت في ظل تربية تلك الامرأة .
تقييم مقام مريم عليها السلام بنظر المفسرين :
يذكر القرآن الكريم نماذج كثيرة ، وأحد تلك النماذج هو مؤشر تربية ورشد وحياة وعبادة وعفاف مريم عليها السلام . إن ما يبينه القرآن الكريم بشأن مريم عليها السلام هو انه :﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾19
كما أن الملائكة ، تكلمت مع مريم وسمعت كلام مريم أيضاً ، بل ان مريم رأت الملائكة ، بل إنها أيضاً جعلت على مرأى منهم . وهذه تعابير رفيعة للقرآن بشأن مريم عليها السلام وأن ملائكة كثيرة تكلمت معها وسمعت كلامها ، وهذا القول الذي كان بصورة شفهية تبدل إلى شهود . وفي موضع آخر وفي مقام تبيين مقام مريم الرفيع قال تعالى :
﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾20 .
كما بشرتها بالمسيح عليه السلام : ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ﴾21 .
وفي تبيين حياة مريم عليها السلام اعتبرت مجموعة من ( أهل الاعتزال ) كالزمخشري ـ في الكشاف ـ الذين سلكوا طريق التفريط ، أن مشاهدة الملائكة ، وسماع كلام الملائكة هو اما بعنوان ( كرامة لزكريا ) أو عدّوه ( إرهاص عيسى ) ، وظنوا ان تلك المرأة لا تستطيع الوصول إلى هذا المقام ، ولا تتمتع بالكرامة ، وانما تسمع كلام الملائكة وتتلقى بشارة الاصطفاء من الملائكة وتتلقى منها البشارة لكونها أصبحت أمّاً لنبي ، لذا قالوا : إن كل هذه الفضائل التي حظيت بها مريم هي إما بعنوان معجزة لزكريا أو بعنوان إرهاص عيسى ، كما تقع مجموعة أمور خارقة للعادة قبل القيامة يعبر عنها بعنوان (أشراط الساعة ) ، كذلك قبل ظهور أو ميلاد نبي تقع مجموعة أمور خارقة للعادة وهي علامة ظهور نبي ، وعبروا عن هذه الأمور الخارقة للعادة في الكتب الكلامية بعنوان ( إرهاص ) .
أما أهل الافراط كالقرطبي وهو من المفسرين المعروفين من أهل السنة ، وغيره ممن يشاطره الفكر فيعتقدون أن مريم كان لديها منصب النبوة ، لذا نزلت عليها ملائكة كثيرة ، وأخبرتها عن الوحي ، وأعلنت لها مسألة صفوتها وطهارتها عن طريق الإلهام وبشرتها بانها أصبحت أمّاً لنبي وغير ذلك ، ولأن مريم تلقت وحي الملائكة ونزلت عليها الملائكة ووصل كلامها من رتبة المشافهة إلى المشاهدة فهي نبي ، لأن كل شخص نزلت عليه الملائكة وجاءت بالوحي ورأى الملائكة فهو نبي .
أما الإمامية الذين يسيرون في طريق القسط والعدل،فهم يعتقدون ان جميع هذه المقامات والكرامات تتعلق بمريم عليها السلام أي هي وصف لحال الموصوف لا متعلق الموصوف ـ ويجب عدم وصفها لحساب إعجاز زكريا ، ومن ناحية أخرى فإن مريم عليها السلام لم تصل إلى مقام الرسالة والنبوة التشريعية ، وهاتان المسألتان يبينهما مفسروا الإمامية بالاستناد إلى الظواهر القرآنية .
المسألة الأولى : أن جميع هذه الكرامات تتعلق بمريم عليها السلام ، بدليل ظواهر القرآن ان الملائكة تكلمت ولكن ليس فقط بعنوان هاتف غيب وملاك باطن ، بل أصبحت مشهودة لها ، كما أن هذه الخطابات والنداءات تجلت أحياناً بصورة تمثل أيضاً ، كما جاء في القرآن الكريم :﴿ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ﴾22
فقال الملك : ﴿إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا﴾23.
ظاهر هذه الآيات هو أن مريم عليهم السلام تلقت لوحدها هذه المقامات ومقام مريم أدّى لأن يطلب زكريا من الله ذرية :﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ﴾24.علاوة على أن التوصية بالقنوت ودوام العبادة والخضوع المستمر ، والسجود والركوع هو دليل على مقام مريم ، كما أن الأوصاف التي ذكرها
الله تعالى لهذه المرأة ، دليل على أن شخصية مريم أدت إلى أن ترى الملائكة وتتكلم معها وتسمع كلامها ، أو عندما ذكر الله تعالى مريم بأنها : ﴿صَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾25 .
أو في قوله تعالى :﴿ َأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾26 . أي أن عيسى له أم كانت تصدق كلام الغيب ، لم تكن صادقة فقط ، بل إنها عدت من الصديقين ، وأن كونها صديقة وتأييد الله لصحة هذا الموضوع دليل على أن جميع هذه الفضائل لمريم عليها السلام .....
مريم الصدّيقة
ذكر القرآن الكريم مريم بصفة صديقة وهي مبالغة في التصديق ، بمعنى أنها ليست مصدقة فقط ، ليست فقط صادق وصديق بل هي صديقة .
الصديقون هم جماعة ترافق الأنبياء والصالحين والشهداء وهم معاً في قافلة . هؤلاء هم سادة القافلة السائرة في طريق الله . الأشخاص العاديون سواء النساء أو الرجال يسألون من الله في صلاتهم وأدعيتهم وعباداتهم أن ( أهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم ) وقد حدد الله ، المنعم عليهم في سورة النساء فقال :﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾27 .
الشخص الذي يكون مطيعاً لله ورسوله يلتحق بمسافري القافلة التي أهلها عبارة عن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ثم يقول : ( وحسن أولئك رفيقاً ) . هؤلاء رفاق جيدون لأنه : " سل عن الرفيق قبل الطريق " 28 .
فإذا سقط الإنسان امسكوه ، وإذا سار في طريق الإفراط والتفريط قوموه ، وإذا شعر بالتعب أعانوه ، وإذا شعر بالعجز منحوه قوة ، لذا قال ( وحسن أولئك رفيقاً ) .
وهذا لا يختص بالنساء بان يقلن : إلهي أرنا طريق مريم ، بل ان جميع المصلين يدعون أن يدلهم الله على طريق الصديقين ، ومريم هي جزء من الصديقين أيضاً ، إن الرجال عندما يدعون في جميع الصلوات بأن يهديهم الله صراط الأنبياء والصديقين ، فان مرادهم ليس الصديقين بمعزلٍ عن مريم بل الصديقين الذين منهم مريم ايضاً .
إن سر أن مريم عليها السلام صديقة ليس بسبب أنها صدقت الأخبار العادية ، وأنها تصدق ما يصدقه الآخرون ، بل انها صدقت بشيء لم يصدقه الآخرون ، وأيدت صحة شيء كان الآخرون يعدونه مستبعداً على أساس هذا الاستبعاد اتهموها ، في حين أن مريم لم تطلب آية وعلامة لقبول هذا الأمر غير العادي .
شبهة تفوُّق مريم عليها السلام على زكريا عليه السلام :
ان المتطرفين الذين أفتوا بنبوة مريم أرادوا القول : أن مريم أرقى من زكريا ، لأن زكريا عندما سأل الله سبحانه :
( ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء ) .
أو ما جاء في سورة مريم من أن زكريا قال : ﴿رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴾29
فقد طلب من الله ذرية صالحة ( ذرية أي ابن ، سواء كان هذا الابن بلا فصل أو مع الفصل ، سواء كان واحداً أو أكثر من واحد ، وسواء كان مذكراً أو مؤنثاً ، كل هذه يقال لها ذرية ) ، كما جاء في محل آخر من القرآن أنه قال :﴿فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾30 .عند ذلك نادته الملائكة : ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا ﴾31.ويحيى هذا : ﴿مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ ﴾32. وعندما بشرت الملائكة زكريا كبير السن بأنه أصبح أباً . سأل زكريا من الله :﴿رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ﴾33 .
طلب من الله أن يجعل له آية وعلامة حتى يفهم هل هذه البشارة هي حق أم لا ، أو يفهم متى تتحقق هذه البشارة . ولكن مريم عليها السلام عندما سمعت البشارة من الملائكة أطمأنت وصدقت لأنها كانت صديقة ، ولم تطلب من الله تعالى علامة، بناء على هذا نستنتج أن مقام مريم أعلى من زكريا .علة طلب آية من قبل زكريا :هذا الاعتقاد غير صائب ؛ لأنه يجب عدم إنزال نبي من مقامه العظيم لتكريم مقام شخص غيره ـ مريم عليها السلام .
أما أن زكريا عليه السلام طلب آية ، فإن حق المسألة هو أن هذه الآية لم تكن لشك كان لديه بل كان كما قال إبراهيم عليه السلام : ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾34 . أي ، إلهي أرني كيف تحيي الموتى ، فقال تعالى له : ( أو لم تؤمن ) فقال إبراهيم بلى ، ولكن من أجل ان يصل إلى مقام ارفع ، ويصل إلى درجة فيصبح مظهر ( هو المحيي ) ، وإلا فهو معتقد بالمعاد ويعلم أن الله يحيي الموتى ، ولكنه أراد أن يفهم كيف يحيي الله الموتى ، وطبعاً هذا أيضاً ليس بتلك الصورة التي يريه الله كيف يحيي الموتى ، بل أراد أن يجعله الله مظهراً لـ ( هو المحيي ) فيحيا على يده الموتى ، وهذا هو أعلى مقام سأله إبراهيم الخليل عليه السلام .
هذا الطريق الابراهيمي علمه إبراهيم عليه السلام لأبنائه في ان يطلبوا أيضاً من الله تعالى آية لحظة بلحظة حتى يصلوا إلى مقام الطمأنينة ويجدوا النفس المطمئنة .
مراحل اليقين
إذا اتضحت لشخص مسألة بواسطة البرهان ، فلديه مرحلة من الطمأنينة ، وإذا تبدل برهانه من علم اليقين إلى عين اليقين سيرى ماذا يجري في العالم ويرى كيف يحيي الله الموتى ، وهذه مرحلة أيضاً ، ولكن المرحلة الأعلى من عين اليقين هي مرحلة حق اليقين ، أي ان الإنسان يصل إلى درجة بحيث يشاهد ـ هو المحيي ـ في نفسه ، لأن ـ المحيي ـ هو وصف من الأوصاف الفعلية لله ، والأوصاف الفعلية خارجة عن الذات الأقدس ـ على عكس الأوصاف الذاتية ـ والشيء الذي هو خارج الذات يكون ممكن الوجود ، وعليه فان الإنسان يستطيع ان يصبح عينه ، لذا رغم أن منطقة الذات هي منطقة ممنوعة ، وكذلك هي حدود الأوصاف الذاتية أيضاً ، ولكن إذا تنزلنا من هاتين المنطقتين الممنوعتين ووصلنا إلى مقام الفعل ، ندخل منطقة ( الفراغ ) وفي هذه المنطقة يكون المكان مفتوحاً للإنسان السالك ويمكنه أن يكون مظهر الأوصاف الفعلية لله ، لذا أصبح عيسى المسيح مظهر الخالق وأمثال ذلك .
أحياناً يفهم الإنسان بالبرهان العقلي أن إحياء الموتى ممكن ، وهذا هو علم اليقين ، وأحياناً يمضي في خدمة المسيح ويشاهد كيف أن روح القدس فيضاً إلى المسيح وأمثاله ، لذا يصل من علم اليقين إلى عين اليقين . ولكن أحياناً يصبح الإنسان مظهر هو المحيي ويحيي الموتى كالمسيح ، وفي كثير من الحالات كالعترة الطاهرة عليها السلام حيث يصبح الإنسان في المرحلة الثالثة أي منطقة الفراغ وفي منطقة الأوصاف الفعلية سالكاً ، ويصل إلى مقام حق اليقين ، أي يصبح مظهر هو الخالق وهو المحيي .
هذا الطريق أوضحه إبراهيم الخليل عليه السلام لجميع السالكين عموماً وللأنبياء ، من ذرية إبراهيم ـ عليهم الصلاة والسلام ـ خصوصاً ، لذا طلب زكريا عليه السلام آية وعلامة حتى يصل أخيراً إلى مقام الطمأنينة ويعلم كيف تتحقق هذه المسألة .
الله تعالى يقول للآباء والأمهات أنهم ليسوا مظهر الخالق ؛ لأن ما يقوم به الأب والأم هو الإمناء وليس الخلق .
﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ﴾35
ولكن أحياناً يصل الإنسان إلى درجة يصبح باطنه مظهر هو الخالق .
بناء على هذا إذا كان لزكريا مقام رفيع بحيث يستطيع أن يربي أبناء مثل يحيى ، وإذا هيّأ الله تعالى زكريا وزوجته لتربية وظهور يحيى الشهيد ، يجب عدم القول : أن مقام مريم هو أعلى من مقام زكريا ؛ لأن زكريا طلب آية وان مريم صدقت بلا علامة ....
ان مقام الطمأنينة واليقين هو نتيجة تهذيب النفس وتزكية القلب والنفس ، وهو طريق جامع بين المرأة والرجل ، إن نتيجة تهذيب النفس هي أن يأنس الإنسان بما وراء الطبيعة ويصبح من أهل الشهود وكما ينجح الرجال في هذا المسير في التكلم مع الملائكة تنجح النساء أيضاً في التكلم مع الملائكة وتلقي بشارتها ، وهذه المسألة عرضت علاوة على القرآن ، في صحف الأنبياء السابقين ـ عليهم السلام بشكل كامل أيضاً ، وهي مسالة كلامية ، ولا يوجد في هذه الناحية أي اختلاف بين الشرائع الإلهية ولا أي تمايز بين الكتب الإلهية .
النساء الأسوة في القرآن (3)
بشارة الملائكة لإبراهيم عليه السلام وزوجته :
في مسألة إبراهيم عليه السلام كما يتكلم خليل الله مع الملائكة ، ويتلقى بشارة الملائكة فان زوجته أيضاً تتكلم مع الملائكة وتتلقى بشارة الملائكة وليس ان المرأة لا تستطيع الوصول إلى مقام بحيث يتكلم معها الملك .
لقد بشر الله تعالى في زمن كهولة وشيخوخة خليل الله ، بشره بغلام ، وهذه البشارة أعلنت لزوجة إبراهيم بنفس الشكل الذي أبلغ لإبراهيم بواسطة الملائكة ، أي أن أبَ إسحاق تلقى البشارة وأم إسحاق تلقت أيضاً بشارة الملائكة . جاء في قضية خليل الرحمن أن الملائكة حين بشرت إبراهيم عليه السلام بغلام قالت :﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾36
فقال إبراهيم عليه السلام :﴿أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُون﴾37 .
إن إبراهيم عليه السلام لم يقل هذا الكلام بعنوان ( استبعاد ) ، بل بعنوان ( تعجب ) . هنا قال إبراهيم الخليل مندهشاً : ﴿ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ ﴾38. فقالت الملائكة :﴿ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ﴾39 عند ذلك قال إبراهيم الخليل : ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونََ﴾40 . إن معنى اليأس هو إن يفكر الإنسان انه وصل إلى درجة لا يستطيع الله ـ معاذ الله ـ حل مشكلته . وهذا اليأس هو في حد الكفر ، ولا يحق لأي أحد أن يكون يائساً ؛ لأن الله وعد ان يعفو عن الذنب ويتجاوز عن المذنب ، كما ان الإنسان يجب أن لا يصبح مغروراً ، ويلزم أن يمضي دائماً بين الخوف والرجاء .
كان هذا خلاصة الكلام في مسألة بشارة الملائكة لإبراهيم عليه السلام ، وقد طرح ما يعادل هذا التعامل مع زوجة إبراهيم في سورة هود :﴿وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ ﴾41.
فقالت زوجة إبراهيم عليه السلام :
﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾42 .
عظمة المرأة في قاموس الوحي
يتضح من هذا التقييم أن عظمة المرأة كانت موجودة في قاموس الوحي قبل نزول القرآن ايضاً ، ولا تختص بالقرآن ، بل إنها طرحت في الإنجيل والتوراة وصحف إبراهيم أيضاً ، فالتكلم مع الملائكة وتلقي بشارتهم ، وطرح الكلام عليهم ، وسماع كلامهم ، كل هذه هي حالات كانت المرأة مساهمة كالرجل في جميع ميادينها . وإذا كان أبو نبي تكلم مع الملائكة ، فإن أم النبي تحادثت معهم أيضاً . لذا نرى أنه تعالى عندما يذكر النساء في القرآن ، يعد أم مريم أو نفس مريم جزءاً من آل عمران ويجعلها في زمرة الأصفياء . قال تعالى في القرآن : ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾43. والمقصود من عمران هذا هو عمران أبو مريم ، وليس عمران أبو موسى ، لأن عمران أبا موسى لم يرد اسمه في القرآن ، أساساً . ثم قال الله تعالى : ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا ﴾44 . إن الله تعالى عرف هاتين الإمرأتين بعنوان صفوة الناس في العالم . وفي نهج البلاغة نقرأ ان أمير المؤمنين عليه السلام قال بشأن فاطمة الزهراء عليها السلام .
" قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري " 45 .
فالإمام يذكرها بعنوان صفية أي هي صفوة الله ، مريم هي صفوة الله أيضاً ؛ وأم مريم هي صفوة الله حسب الظاهر أيضاً ، لأن آل ، يعني أهل ، وأم مريم كانت أهل عمران ، أي ان عمران الذي هو أبو مريم يعدّ رأس سلسلة هذه الأسرة ، ويقال للمنسوبين لهذه الأسرة آل عمران ؛ فكلتا الامرأتين مصطفاة لله .
*جمال المرأة وجلالها،الشيخ جوادي آملي،دار الهادي،بيروت ـ لبنان ،ط1 1415هـ ـ1994م،ص133ـ156.
1- سورة التحريم : 10 .
2- سورة الأنفال : 27 .
3- سورة التحريم : 11 .
4- سورة النازعات : 24 .
5- سورة القصص : 38 .
6- سورة الأعلى : 1 .
7- سورة الفرقان : 10 .
8- بحار الأنوار ، ج 10 ، ص 25 .
9- سورة التحريم : 12 .
10- سورة التحريم : 12 .
11- سورة آل عمران : 37 .
12- سورة الأعراف : 164 .
13- سورة طه : 96 .
14- سورة الأعراف : 175 .
15- سورة الأنعام : 124 .
16- سورة آل عمران : 37 .
17- سورة آل عمران : 44 .
18- سورة آل عمران : 44 .
19- سورة آل عمران: 37 .
20- سورة آل عمران : 42 ـ 43 .
21- سورة آل عمران : 45 .
22- سورة مريم : 17 ـ 18 .
23- سورة مريم : 19
24- سورة آل عمران : 38 .
25- سورة التحريم : 12 .
26- سورة المائدة : 75 .
27- سورة النساء : 69 .
28- نهج البلاغة ، الرسالة 31 .
29- سورة مريم : 4
30- سورة مريم : 5 ـ 6 .
31- سورة آل عمران : 39 .
32- سورة آل عمران : 39 .
33- سورة مريم : 10 .
34- سورة البقرة : 260
35- سورة الواقعة : 58 ـ 59 .
36- سورة الصافات : 101 .
37- سورة الحجر : 54 .
38- سورة الحجر : 54 .
39- سورة الحجر : 55 .
40- سورة الحجر : 56 .
41- سورة هود : 71 .
42- سورة هود : 72 ـ 73 .
43- سورة آل عمران : 33 ـ 34 .
44- سورة آل عمران : 35 .
45- نهج البلاغة ، تحقيق صبحي الصالح الخطبة 202 .