النظريات الاجتماعية الغربية المتعلقة بالانحراف ونق
المجتمع الإسلامي
هذه النظريات هي من أهم الأفكار الاجتماعية التي أنتجتها أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية في عصر التصنيع والنهضة العلمية. وهي اربع نظريات، اولها: نظرية ( الانتقال الانحرافي)، وثانيها: نظرية (القهر الاجتماعي)، وثالثها: نظرية (الضبط الاجتماعي)، ورابعها: نظرية ( الإلصاق الاجتماعي ).
عدد الزوار: 97
هذه النظريات هي من أهم الأفكار الاجتماعية التي أنتجتها أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية في عصر التصنيع والنهضة العلمية. وهي اربع نظريات، اولها: نظرية ( الانتقال الانحرافي)، وثانيها: نظرية (القهر الاجتماعي)، وثالثها: نظرية (الضبط الاجتماعي)، ورابعها: نظرية ( الإلصاق الاجتماعي ).
فنظرية (الانتقال الانحرافي) تؤمن بأن الانحراف سلوك مكتسب، حيث يتعلم الفرد الانحراف كما يتعلم الفرد الآخر السلوك الذي يرتضيه النظام الاجتماعي1. بمعنى ان الانحراف إذا ظهر في بيئة اجتماعية معينة فلابد له من الاستمرار والازدهار حتى يتعمق في التركيبة الثقافية والاجتماعية لتلك البيئة. وينتقل ذلك الطابع الانحرافي من فرد إلى آخر ثم من جيل إلى آخر دون أن يتغير الدافع الذي يؤدي الى ارتكاب الجريمة لدى الفرد. ولما كان الإنسان يولد نقياً من بذرة الانحراف، فان العوامل التي تساعده على تكوين شخصيته الإجرامية لابد وان تكون متسلسلة الحدوث خلال مسيرته التطورية من الطفولة وحتى البلوغ. بمعنى ان هذه العوامل مرتبطة قطعاً بالبيئة التي يعيشها الفرد خلال ادوار نموه المختلفة، وأهمها على الإطلاق انفتاحه على المنحرفين عن طريق الصداقة والمودة.
وتتجاهل هذه النظرية جوهر المشكلة الانحرافية، وهي أن الدافع الرئيسي للانحراف هو عدم إشباع الحاجات الإنسانية الأساسية للمنحرفين من قبل النظام الاجتماعي. فالانحراف عموماً لا يحتاج إلى معلم، فالسارق الجائع يعرف بالغريزة كيف يفعل فعلته، والقاتل يعرف بالغريزة كيف يقتل، والغاصب في مجتمع منحل يعرف كيف يتعامل مع ضحيته. وفي كل هذه الجرائم يكون الدافع والحاجة عاملين مهمين من عوامل ارتكاب الفعل نفسه. أضف إلى ذلك: إن هذه النظرية تقصر عن التمييز ما بين الانحراف الاقتصادي والانحراف الأخلاقي والسياسي، وتعجز عن تفسير ظهور الانحراف بين أفراد الطبقة الرأسمالية الذين لا يرتبطون بأية فئة منحرفة اجتماعياً.
ويعتقد (اميلي ديركهايم) مؤسس نظرية (القهر الاجتماعي) بأن الانحراف ظاهرة اجتماعية ناتجة عن القهر والتسلط الاجتماعي الذي يمارسه بعض الأفراد ضد البعض الآخر2. فالفقر باعتباره انعكاساً صارخاً لانعدام العدالة الاجتماعية بين الطبقات، يولد رفضاً للقيم والأخلاق الاجتماعية التي آمن بها الرعيل الأكبر من أفراد النظام الاجتماعي. وما الانحراف إلا صورة من صور ذلك الرفض الاجتماعي. والفرد الذي لا يصل إلى تحقيق أهدافه عن طريق الوسائل المقررة اجتماعياً، يسلك مسلكاً منحرفاً يؤدي به إلى هدفه كالسرقة، والرشوة، والبيع الذي يحرمه القانون. وهنا يلعب القهر الاجتماعي دوراً في توليد ضغط لدى بعض الأفراد كي ينحرفوا اجتماعياً.
إلا أن هذه النظرية فيها خلل واضح، وهو تجاهلها للانحراف الناتج عن الاضطرابات العقلية والأمراض النفسية، وهو انحراف غير مرتبط بالقهر الاجتماعي. وتعجز هذه النظرية أيضاً عن تفسير ظاهرة الانحراف بين افراد الطبقة الرأسمالية الغنية، ومصاديقها القتل والاعتداء والاغتصاب، مع انهم يملكون كل وسائل الثروة والمنزلة الاجتماعية، ومع ملاحظة انتفاء ظاهرة القهر الاجتماعي عنهم.
أما نظرية (الإلصاق الاجتماعي) فهي تشير الى حقيقة مهمة تجعلها محور فكرتها الرئيسية، وهي ان الانحراف الاجتماعي إنما هو نتاج نجاح مجموعة من الأفراد بالإشارة إلى أفراد آخرين بأنهم منحرفون3. وتستند فكرة النظرية على فرضية الصراع الاجتماعي بين الأفراد ومحاولة اتهام بعضهم البعض بالحيود والزيغان عن المجرى العام للسلوك الاجتماعي. وتقسم الانحراف الى قسمين، الاول: الانحراف المستور، والثاني: الانحراف الظاهر. فعندما يتهم أفراد بالانحراف علناً، فان الوضع النفسي والاجتماعي للمتهمين سوف يتبدل بالمقارنة فيما لو بقي الانحراف مستوراً. فاذا ألصقت تهمة السرقة بشخص مثلاً، وتهمة الرشوة بشخص آخر، وتهمة التجديف بثالث، شعر هؤلاء الأفراد بالاهانة الاجتماعية، لأن الآثار المترتبة على انحرافهم تعني:
أولاً: إنزال العقوبات التي اقرها النظام الاجتماعي بهم.
وثانياً: افتضاح أمرهم أمام الناس.
وثالثاً: انعكاس ذلك الافتضاح على معاملة بقية الأفراد لهم. ولذلك فان الصفات القاسية التي يستخدمها النظام ضدهم كصفات السرقة والرشوة والتجديف إنما وضعها في الواقع: النظام الاجتماعي والسياسي وألصقها بهؤلاء الأفراد.
ولكن هذه النظرية بتشديدها على فكرة الإلصاق، تبرر بصورة غير مباشرة ظاهرة الانحراف المستور، لان الانحراف اذا لم يلصق بفئة من الأفراد فانه سيصبح سلوكاً طبيعياً. ولكن السارق في البيع والشراء يعد سارقاً بغض النظر عن إلصاق التهمة به أو عدم إلصاقها به. والمرتشي يعد مرتشياً أن ألصقت التهمة به أم لا. والقاتل الذي لم تكشف جريمته يعتبر قاتلاً في كل الأحوال، أالصقت التهمة به ام لم تلصق. وهذه النظرية تعطي الفرد مبرراً لاستمرار الانحراف، فالمنحرف يجد عذراً بإلقاء سبب انحرافه على النظام الاجتماعي، ولا يقيم لدافعه الذاتي نحو ارتكاب الجريمة وزناً. وهذا يتنافى مع الأصول العامة للتجريم التي تأخذ الدافع الذاتي والنية المسبقة بنظر الاعتبار.
ولعل نظرية (الضبط الاجتماعي) تعتبر من أقرب النظريات الغربية إلى الواقع القرآني. فتعتقد هذه النظرية بأن الانحراف ظاهرة ناتجة عن فشل السيطرة الاجتماعية على الأفراد4، لان الانحراف يتناسب عكسياً مع العلاقة الاجتماعية بين الأفراد. فالمجتمع المتماسك رحمياً يتضاءل فيه الانحراف، على عكس المجتمع المنحل. ولو درسنا نسب انتحار الأفراد في المجتمع الإنساني للاحظنا إنها أكثر انتشاراً في المجتمعات التي لا تهتم بعلاقات القربى والعشيرة وصلة الرحم. وعلى هذا الأساس آمنت هذه النظرية بان أفراد المجتمع المتماسك من ناحية العلاقات الرحمية والإنسانية أكثر طاعة للقانون وأكثر إتباعاً للقيم التي يؤمن بها من أفراد المجتمع المتحلل في علاقات أفراده الاجتماعية. وبالجملة، فان الأفراد الذين تربطهم الأواصر الاجتماعية المتينة، وينغمسون في أعمالهم ونشاطاتهم، ويستثمرون في المجتمع أموالهم وأولادهم، ويطبقون ـ بكل إيمان ـ أحكام دينهم، فهؤلاء تتضاءل عندهم فرص الانحراف الاجتماعي، وتزداد من خلال سلوكهم فرص الاستقرار والثبات على الخط الاجتماعي السليم.
وهذه النظرية تعكس ـ بشكل جزئي ـ بعض المفاهيم القرآنية التي تتعامل مع العلاقات الاجتماعية وتأثيراتها الايجابية في ضبط سلوك الأفراد، كصلة الرحم: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ﴾5، ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾6، وإكرام الجار: ﴿... وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ﴾7، والنهي عن الظلم: ﴿وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا﴾8. وحرمة أذى المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا﴾9، والنهي عن احتقار الناس: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾10، وإصلاح ذات البين: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾11، والتعاون على الخير: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾12.
ومع كل هذه الاقتباسات ـ التي اقتبسها (اميلي ديركهايم) لتصميم نظريته الخاصة بالضبط الاجتماعي من المفاهيم القرآنية ـ تبقى تلك النظرية عاجزة عن عرض الصورة الاجتماعية الشاملة للانحراف وطرق معالجته. فديركهايم لم يتناول معالجة الانحراف بين الأفراد الذين تتوفر فيهم جميع عناصر منع الانحراف الاجتماعي، كالطبقات الرأسمالية في الدول الصناعية، وبابوية القرون الوسطى في أوروبا، والتجار الأثرياء في الأنظمة الحرة مع أنهم يتمتعون بأفضل الصلات العائلية والعشائرية، ويمارسون أفضل الهوايات الفكرية والبدنية ويستثمرون أموالهم في العقارات والمزارع والمصانع، ويعتقدون بدياناتهم المختلفة.
والخلاصة: إن هذه النظريات الاجتماعية الغربية الأربع تفشل في تفسير ظاهرة الانحراف والتجريم بالصورة الدقيقة الشاملة المستوعبة لكل مفردات الواقع الاجتماعي. فهذه النظريات ـ منفصلةً ـ لا تستطيع تفسير جرائم المقامرة، وانحراف الأحداث، وتعاطي المخدرات، والتحايل في دفع حقوق الفقراء... وكل نظرية من هذه النظريات تنظر للجريمة بشكل تجزيئي محدود ولا تنهض بمستوى النظرة الكلية للمشكلة الانحرافية بحيث تستوعب كل مفردات وتشكيلات الأجرام الفردي والجماعي في المجتمع الإنساني.
*النظرية الاجتماعية في القران الكريم،د:زهير الاعرجي،أمير_قم،ص77-83.
1- (ادوين سوذرلائد). مبادئ علم الأجرام. فيلادلفيا: ليبنكوت، 1939 م.
2- (اميلي ديركهايم). تقسيم العمل في المجتمع. جيلنكو، الينوي: المطبعة الحرة، 1964 م. الطبعة الأولى صدرت في عام 1893 م.
3- (هاورد بيكر). الخارجون: دراسات في علم اجتماع الانحراف. نيويورك: المطبعة الحرة، 1963 م. وأيضا: (ادوين ليمرت). الانحراف الإنساني، المشاكل الاجتماعية، والسيطرة الاجتماعية. انجلوود كليفز، نيوجرسي: برنتس ـ هول، 1967 م.
4- (اميلي ديركهايم). تقسيم العمل في المجتمع. جيلنكو، الينوي: المطبعة الحرة، 1964 م. وايضاً: (ترافيس هيرشي). أسباب الجنوح. بيركلي، كاليفورنيا: مطبعة جامعة كاليفورنيا، 1969 م.
5- الرعد:21.
6- البقرة:215.
7- النساء 36.
8- الفرقان:19.
9- الأحزاب:58.
10- الحجرات:11.
11- الحجرات:10.
12- المائدة:2.