اهمية القضاء في النظرية القرآنية
المجتمع الإسلامي
تنبثق اهمية القضاء في النظام الاجتماعي من النظر لحقيقتين في غاية الاهمية، وهما: اولا: الاشراف على سلوك الافراد لمنع اي تعارض محتمل بين حق الفرد الشخصي وحقوق الاخرين، عن طريق فصل السلوك المنحرف عن السلوك المتفق عليه اجتماعياً ودينياً. ثانياً: انزال عقوبة المقاطعة الاجتماعية، او القصاص...
عدد الزوار: 96
تنبثق اهمية القضاء في النظام الاجتماعي من النظر لحقيقتين في غاية الاهمية، وهما: اولا: الاشراف على سلوك الافراد لمنع اي تعارض محتمل بين حق الفرد الشخصي وحقوق الاخرين، عن طريق فصل السلوك المنحرف عن السلوك المتفق عليه اجتماعياً ودينياً. ثانياً: انزال عقوبة المقاطعة الاجتماعية، او القصاص، او النفي بحق المنحرفين. وهذان العاملان يحددان دور القضاء في المجتمع الانساني. فالقضاء بمعاقبته للمنحرف عن الخط الاجتماعي العام يدعم بالدرجة الاولى المصلحة الاجتماعية العليا، و بالدرجة الثانية مصلحة الافراد باعتباراتهم الشخصية.
ولاريب ان اهم ما يميز النظام القضائي الاسلامي عن مثيله في الانظمة الاجتماعية الاخرى، هو انشاؤه وتصميمه من قبل الخالق عز وجل لتحقيق العدالة الجنائية والحقوقية بين الافراد، كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولًِ﴾1، ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾2، ويتمثل ذلك بتقديم منصة القضاء للعارف باحكام الله، المجتهد العادل الامين الثقة الذي يستطيع استرجاع الحق المغصوب من الظالم، او انزال القصاص العادل بالجاني، او اجبار المعتدي على تعويض الضحية مالياً. وفي كل ذلك يكون الجهاز القضائي ميزاناً للحق، ووسيلة رادعة وفعالة لحفظ النظام الاجتماعي. فالقضاء لا يحل التنازع الشخصي بين المتخاصمين فحسب، بل يؤثر في قراراته على النظام التجاري والاقتصادي والسياسي للدولة، وعلى الحياة العائلية، وعلى نقل الملكية، والارث، وتحصيل العلوم، وعلى كل انواع العلاقات التي تعارف الاجتماع الانساني على الاقرار بها.
واذا كانت النظرية الرأسمالية الغربية، لا تزال الى حد اليوم، منقسمة على ذاتها في تشخيص من الذي يحدد الانحراف والمنحرفين3 ، حيث يذهب الجناح اليساري الى القول بان الطبقة الرأسمالية الغنية هي التي وضعت القوانين الجنائية لحماية مصالحها ضد الفقراء، ويذهب الجناح اليميني الى القول بان الارتكاز العقلائي في النظام الاجتماعي هو الذي وضع القوانين لحماية المصلحة الاجتماعية العليا. في جو هذا الاضطراب الفكري الرأسمالي يقف الاسلام ونظامه القضائي شامخاً في تحديد الانحراف وتعريف المنحرف على اصول وقواعد شرعية ثابتة ، حيث تصرح القواعد الدينية بان الخالق سبحانه وتعالى هو الذي يحدد الانحراف، وهو الذي يعاقب عليه، وهو الذي يضع لكل واقعة حكماً يؤخذ من خلاله حق المظلوم ، ذلك انه ارسل الرسل والانبياء عليه السلام لهداية الناس الى تعيين ميزان القضاء العادل، كما يقول تعالى في كتابه المجيد: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾4. فالقضاء الاسلامي لا يضمن حقوق الافراد الشخصية فحسب، بل يربط الجهاز القضائي بما فيه من قضاة، وشهود، ودعاوى ومن يرتبط بها، بالله سبحانه وتعالى ، لانه هو مصدر كل الاحكام الشرعية التي يتعامل بها القاضي مع المدعي والمدعى عليه والشهود. فاصبح القضاء الاسلامي وسيلة من وسائل التعبد لله عز وجل، وليس وسيلة من وسائل الاثراء وجمع المال والسيطرة السياسية كما هو المعمول به في النظام الرأسمالي.
واذا كان من مهمة القضاء وضع الخط الفاصل بين الاعتدال والانحراف، والتمييز بين السلوك الطبيعي والجنائي، فان الاسلام باعتباره دين العدالة والمساواة اعتبر القضاء جزءا من رسالته الكلية التي تمتد مع امتداد تطلعات الانسان، ونظرته الشمولية حول الكون والحياة. فلا يحتاج الفرد في النظام الاسلامي الى خبراء يصممون له قوانين قضائية، لتجعله اشد تماسكاً مع بقية الافراد في النظام الاجتماعي ، فإن ذلك قد ترك للرسالة الاسلامية بأبعادها المختلفة لتعمل عملها بتغيير نفسية الفرد، وتشكيله من جديد على اساس حب الخير والتعاون والتآزر مع النظام الاجتماعي ، بمعنى ان الجريمة اذا وقعت في المجتمع الاسلامي، فانها لا تعتبر عاملاً من عوامل تماسك المجتمع، بل لابد من استئصالها بانزال اقصى العقوبات التي شرعها الخالق عز وجل، وهي عقوبات القصاص والحد والدية ونحوها. وهذا الرأي معاكس تماماً لرأي النظرية الرأسمالية، التي ترى على ضوء افكار ( اميلي ديركهايم )، بأن الجريمة ضرورية لتماسك المجتمعات الانسانية، لانها تعرف حدود السلوك المقبول 5.
وهذه الفكرة الرأسمالية الغربية يرفضها الاسلام رفضاً قاطعاً، لأن هذه الرسالة السماوية حددت ابعاد السلوك المقبول اجتماعياً عبر النصوص الشرعية المتمثلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، دون ضرورة الرجوع الى تشجيع الجريمة في النظام الاجتماعي. فاذا كانت عقوبة جناية القتل واضحة للافراد وهي القصاص في حكم الله، فكيف يكون وقوع هذه الجناية سبباً لتماسك النظام الاجتماعي ؟ الا تكفي جدية النظام الاجتماعي في انزال العقوبة بالمخالفين نظريا، سببا في الردع والتماسك الاجتماعي ؟ واذا كانت ابعاد السلوك المقبول معرفة في الرسالة التي يؤمن بها افراد النظام الاجتماعي، فكيف يكون ارتكاب الجريمة تعريفاً لحدود السلوك المقبول ؟ اليس هذا دليلاً على ضعف النظام الاجتماعي الذي لايتماسك افراده الا بمشاهدة الجريمة والتماس العقوبة التي تلحقها ؟
ومع ان الرسالة السماوية العظيمة، قد حددت وعرفت السلوك المقبول شرعياً، وعلى اساسه وضعت مباني الثواب والعقاب، الا انها مع ذلك، صممت نظاماً قضائياً فريداً لم تشهد له البشرية مثيلاً في تاريخها الطويل ، فوضعت شروطاً للقاضي، والمدعي، والمدعى عليه، والشهود. اوجبت، وأكدت وجوبها مراراً على اجتهاد وعدالة القاضي، لان المظلوم يرى فيه صوت الحق ونور العدالة الالهية. واوجبت في المدعي العقل والبلوغ والرشد والاصالة والجزم. وفي المدعى عليه البلوغ والتعيين. وفي المدعى به المعلومية والشرعية. ووضعت اصولاً للاثبات كالاقرار، والكتابة، والقرائن الشرعية والموضوعية، والشهادة، والبينة، واليمين، واليد، والعلم والاستفاضة. واوجبت في الشهادة الوضوح والمطابقة، والعلم، وعدم النفي. واوجبت في الشاهد العقل، والبلوغ، والاسلام، والعدالة، والضبط. وشجعت على الصلح بين المتخاصمين اذا كان لا يحل حراماً ولايحرم حلالاً. ونظاماً كهذا لابد له من تحقيق العدالة القضائية التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من العدالة الاجتماعية بصورتها الشمولية الواسعة. ولاشك ان الاسلام سعى بكل جد لتحقيق تلك العدالة الاجتماعية، منذ ان ارعبت كلماته الصاعقة بطون مكة ونظامها الجاهلي الظالم.
*النظرية الاجتماعية في القران الكريم،د:زهير الاعرجي،أمير_قم،ص253-257.
1- النساء: 59.
2- النساء: 58.
3- ( والترميرفي ) و( هيرمان بريشت ). المحاكم. القضاة، والسياسة: مقدمة في الاجراءات القضائية. نيويورك: راندوم هاوس، 1986 م.
4- الحديد: 25.
5- ( اميلي ديركهايم ). الاشكال البدائية للحياة الدينية: دراسة في علم الاجتماعي الديني. نيويورك المطبعة الحرة، 1947 م. الطبعة الاولى عام 1912 م.