النظرية القرآنية في معالجة الانحراف الاجتماعي
أبحاث في المجتمع
ربما يعزى نجاح النظرية القرآنية في تحليلها ومعالجتها لظاهرة الانحراف الاجتماعي إلى أربعة أسباب رئيسية، لم تلتفت اليها النظريات الاجتماعية المعاصرة كنظريات ( الانتقال الإنحرافي )، و( القهر الاجتماعي)، و(الضبط الاجتماعي)، و(الإلصاق الاجتماعي). وهذه الأسباب الأربعة هي...
عدد الزوار: 359
ربما يعزى نجاح النظرية القرآنية في تحليلها ومعالجتها لظاهرة الانحراف الاجتماعي إلى أربعة أسباب رئيسية، لم تلتفت اليها النظريات الاجتماعية المعاصرة كنظريات ( الانتقال الإنحرافي )، و( القهر الاجتماعي)، و(الضبط الاجتماعي)، و(الإلصاق الاجتماعي). وهذه الأسباب الأربعة هي:
الأول: العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي جاء بها الإسلام وحاول تطبيقها على الأفراد.
الثاني: العقوبة الصارمة ضد المنحرفين كالقصاص والدية والتعزير.
الثالث: المساواة التامة بين جميع الأفراد أمام القضاء والشريعة في قضايا العقوبة والتأديب والتعويض.
الرابع: المشاركة الجماعية في دفع ثمن الجريمة والانحراف، كإلزام عائلة المنحرف دفع دية القتيل عن طريق الخطأ، ودفع دية القتيل الذي لا يعرف قاتله من بين المال.
فعلى الصعيد الأول، نادى الإسلام بالعدالة الاجتماعية واعتبرها الأساس في بناء المجتمع السليم من الانحرافات الشخصية القائمة على الأساس الاقتصادي أو السياسي، كالغصب والسرقة والاعتداء على حقوق الآخرين.
وعلى الصعيد الثاني، فان ديناً متكاملاً كالإسلام لابد وان يطرح للإنسانية المعذبة نظاماً يعالج فيه مختلف زوايا الانحراف، ويحلل من خلاله ـ بكل دقة ـ دوافع الجريمة في المجتمع الإنساني، ويشرع ـ على ضوء ذلك ـ أحكاما صارمة لقلع منشأ الانحراف من جذوره النابتة في عمق النفس البشرية، لأن الخالق عز وجل أدرى بتلك النفس الإنسانية التي صممها وأنشأها: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾1. فمن أجل مكافحة الجريمة وتعويض الضحية، صنف النظام الإسلامي العقوبات إلى قسمين، هما: العقوبات الأدبية والعقوبات المادية.
فالعقوبات الأدبية تشمل جانبين أيضاً، وهما
الأول: الحدود، وهي العقوبات المقدرة في الكتاب والسنة، بمعنى أن الشارع لم يسمح للقاضي الشرعي التصرف في أمر تقديرها، كالقصاص في جرائم القتل والقطع والجرح، كما أشار قوله تعالى إلى ذلك: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ﴾2، وعقوبات الزنا، واللواط، والسحاق، والقيادة، والقذف، والسرقة، والسكر، والارتداد، وقطع الطريق.
والثاني: التعزيرات، وهي العقوبات التي فوض أمر تقديرها وتحديدها لنظر الحاكم الشرعي، فيعاقب عليها بما يراه مناسباً، كعقوبة التزوير والغيبة ونحوها.
والعقوبات المادية: هي الديات، أو المال الواجب دفعه بسبب الجناية على النفس أو ما دونها: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ﴾3. وتشمل جانبين أيضاً، وهما:
أولاً: الديات المقدرة على لسان الشارع، كدية النفس والأعضاء.
وثانياً: الديات التي فوض أمر تقديرها إلى الحكومة، أو الخبراء الموثوق بهم.
وبالإجمال: فان الإسلام صنف الانحراف إلى أربعة أصناف، وهي:
1 ـ جرائم الاعتداء على النفس البشرية وما دونها، وفيها القصاص أو الدية مع الشروط.
2 ـ جرائم ضد الملكية وفيها القطع، والمقاصة، ووجوب رد المغصوب.
3 ـ الجرائم الخلقية، وفيها الرجم والقتل والجلد.
4 ـ جرائم ضد النظام الاجتماعي، كالمحاربة والاحتكار ونحوها وفيها التعزير أو الغرامة، وأوجب في الديات غير المقدرة شرعاً الارش أو الحكومة.
وهذه الأحكام الشرعية هدفها الردع أكثر من الانتقام، حتى أن القصاص الذي يبدو ظاهراً قضية انتقامية يؤدي في الواقع دوراً أساسيا في ردع الانحراف وتأديب المنحرفين، فإنزال الأذى المماثل بالجاني أمضى تأثيراً من عقوبة السجن، التي آمن بها النظام القضائي الغربي4. والسارق الذي تؤدبه الشريعة الإسلامية بقطع اليد يعتبر أكثر إنتاجا من السارق الذي يقبع في سجون الأنظمة الرأسمالية مثلاً سنوات معطلاً طاقته الإنتاجية ومستهلكاً موارد النظام الاجتماعي. وما أن يخرج إلى أجواء الحرية مرة أخرى حتى يرتكب انحرافاً مماثلاً لذلك الذي ادخله السجن أول مرة.
وعلى الصعيد الثالث، فان الإسلام نادى بالمساواة بين الأفراد في العقوبة والتعويض، فالسارق مع توفر الشروط يقطع حتى لو كان يشغل أعلى وظيفة سياسية في الدولة لإطلاق الآية الكريمة ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا﴾5، وعدم تخصيصه بفئة معينة من السراق مثلاً. والزاني مع توفر الشروط يقام عليه الحد كائناً من كان. ولا يستثنى أحد لسبب طبقي أو وراثي من إقامة الحدود الشرعية. وهنا يكمن الفرق بين النظامين التشريعي الإسلامي والقضائي الغربي الرأسمالي. ففي حين يفلت مجرمو الطبقة الرأسمالية من قبضة العقاب، باعتبار أن العقاب المعنوي لأفراد الطبقة العليا اشد إيلاما من العقاب الجسدي، يصون التشريع الإسلامي النظام القضائي من عبث الأصابع البشرية التي يدفعها الهوى والطموح الشخصي. وبعد أربعة عشر قرناً من الزمان، لم يستطع مقننٌ واحد ـ أياً كان مذهبه ـ من تغيير حكم القرآن في قطع يد السارق أو قتل القاتل المتعمد أو جلد الزانية والزاني، في حين أن القوانين الوضعية تبدلت تبدلاً جذرياً خلال القرون الماضية من عمر البشرية.
ولاشك أن الأفراد جميعأً بمختلف ألوانهم وهيئاتهم متساوون أمام الشارع، فالأسود والأبيض والأصفر سواسية كأسنان المشط في مثولهم أمام الحاكم الشرعي وإنزال العقاب بهم أو تبرئتهم: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ... ﴾6، ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾7، بل إن الشارع يعاقب من يميز على أساس اللون، أو يتعدى حدود القصاص، ويلزمهم بدفع مقدار التعدي.
ولابد أن نذكر هنا، إن النظرية الإسلامية قد ميزت الانحراف بأنواعه وطرقه المتعددة، واعتبرت فيه الأسباب الموجبة. فأخذت الاضطراب العقلي، وعدم البلوغ مثلاً، بعين الاعتبار في إنشاء الحكم على القاتل. وميزت بين قتل العمد، وقتل الخطأ، والقتل الشبيه بالخطأ، وأفردت لكل واحد منها حكماً خاصاً. وأعطت الشريعة للأحداث والصبيان فرصة لعلاج انحرافهم بدل إنزال العقاب بهم.
وعلى الصعيد الرابع، فان الإسلام شجع المشاركة الجماعية في دفع الانحراف بطرق عديدة، منها:
اولاً: ان ولي الأمر مسؤول شرعاً عن دفع الدية إذا ارتكب من يتولاه انحرافاً يستوجب دفع تلك الغرامة. ثانياً: أن العلاقة الأسرية التي أكد عليها الإسلام تساهم من خلال التعاون والتآزر على إصلاح الفرد المنحرف في الأسرة. ثالثاً: العاقلة، وهم العصبة من قرابة الأب كالأخوة والأعمام وأولادهم، التي تتحمل دية القتل الخطأ، ودية الجناية على الأطراف ونحوها، ضمن شروط معينة. والمدار في كل ذلك ان الأفراد في المجتمع ملزمون أخلاقيا، بإرشاد وإصلاح ذويهم ودرء خطر الانحراف عنهم.
*النظرية الاجتماعية في القران الكريم،د:زهير الاعرجي، أمير_قم،ص53-57.
1- الشمس:7 ـ 8.
2- البقرة:179.
3- النساء:92.
4- (ارفينك كوفمان). اللجوء: بحوث حول الموقف الاجتماعي للمصابين بالأمراض العقلية ونزلاء السجون. شيكاغو: آلدين، 1961 م.
5- المائدة: 38.
6- النحل:90.
7- الممتحنة:8.