ماذا أبدع الاسلام في أمر المرأة؟
المرأة في القرآن والسنة
لا زالت الأمم بأجمعها في التاريخ تنظر الى المرأة نظرة سلبية، وتحبسها في سجن الذلة والهوان حتى صار الضعف والصغار طبيعة ثانية لها، عليها نبت لحمها وعظمها وعليها كانت تحيا وتموت، وعادت الفاظ المرأة والضعف والهوان كاللغات المترادفة بعدما وضعت متبائنة لا عند الرجال فقط بل وعند النساء...
عدد الزوار: 122
لا زالت الأمم بأجمعها في التاريخ تنظر الى المرأة نظرة سلبية، وتحبسها في سجن الذلة والهوان حتى صار الضعف والصغار طبيعة ثانية لها، عليها نبت لحمها وعظمها وعليها كانت تحيا وتموت، وعادت الفاظ المرأة والضعف والهوان كاللغات المترادفة بعدما وضعت متبائنة لا عند الرجال فقط بل وعند النساء ـ ومن العجب ذلك ـ ولا ترى اٌمة من الامم وحشيها ومدنيها إلا وعندهم أمثال سائرة في ضعفها وهوان أمرها، وفي لغاتهم على اختلاف اصولها وسياقاتها والحانها أنواع من الاستعارة والكناية والتشبيه مربوطة بهذه اللفظة (المرأة) يقرع بها الجبان، ويؤنب بها الضعيف، ويلام بها المخذول المستهان والمستذل المنظلم، ويوجد من نحو قول القائل:
وما أدري وليت اخال أدري أقول آل حصن أم نساء
مئات وألوف من النظم والنثر في كل لغة.
وهذا في نفسه كافٍ في أن يحصل للباحث ما كان يعتقده المجتمع الإنساني في أمر المرأة، وإن لم يكن هناك ما جمعته كتب السير والتواريخ من مذاهب الامم والملل في أمرها، فإن الخصائل الروحية والجهات الوجودية في كل أمة تتجلى في لغتها وآدابها.
ولم يورث من السابقين ما يعتنى بشأنها ويهتم لأمرها إلا بعض ما ورد في التوراة، وما وصى به عيسى بن مريم عليهما السلام من لزوم التسهيل عليها والإرفاق بها.
وأما الإسلام أعني الدين الحنيف النازل به القرآن فإنه أبدع في حقها أمراً ما كانت تعرفه الدنيا منذ قطن قاطنوها، وخالفهم جميعاً في بناء بنية فطرية عليها كانت الدنيا هدمتها من أول يوم وأعفت آثارها، والغى ما كانت تعتقده الدنيا في هويتها اعتقاداً، وما كانت تسير فيها سيرتها عملاً.
أما هويتها: فإنه بين أن المرأة كالرجل إنسان، وأن كل انسان ذكر أو انثى فإنه انسان يشترك في مادته وعنصره إنسانان ذكر وانثى ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾1.
فجعل تعالى كل إنسان مأخوذا مؤلفاً من انسانين ذكر واُنثى هما معاً وبنسبة واحدة مادة كونه ووجوده، وهو سواء كان ذكراً أو أنثى مجموع المادة المأخوذة منهما، ولم يقل تعالى: مثل ما قاله القائل:
وإنما أمهات الناس أوعية
ولا قال مثل ما قاله الآخر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد
بل جعل تعالى كُلاً مخلوقاً مؤلفاً من كل، فعاد الكل أمثالاً، ولا بيان أتم ولا أبلغ من هذا البيان، ثم جعل الفضل في التقوى.
وقال تعالى: ﴿أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾2.
فصرح أن السعي غير خائب والعمل غير مضيّع عند الله، وعلل ذلك بقوله: بعضكم من بعض فعبر صريحاً بما هو نتيجة قوله في الآية السابقة: ( إنا خلقناكم من ذكر وانثى )، وهو ان الرجل والمرأة جميعاً من نوع واحد من غير فرق في الأصل والسنخ.
ثم بين بذلك أن عمل كل واحدٍ من هذين الصنفين غير مضيع عند الله لا يبطل في نفسه، ولا يعدوه إلى غيره، كل نفس بما كسبت رهينة، لا كما كان يقوله الناس: إن عليهن سيئاتهن، وللرجال حسناتهن من منافع وجودهن.
وإذا كان لكل منهما ما عمل ولا كرامة إلا بالتقوى، ومن التقوى الأخلاق الفاضلة كالايمان بدرجاته، والعلم النافع، والعقل الرزين، والخلق الحسن، والصبر، والحلم فالمرأة المؤمنة بدرجات الإيمان، أو المليئة علماً، أو الرزينة عقلاً، أو الحسنة خلقاً أكرم ذاتاً وأسمى درجة ممن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الاسلام، كان من كان، فلا كرامة إلا للتقوى والفضيلة.
وفي معنى الآية السابقة قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون﴾3.
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾4.
وقوله تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾5.
وقد ذم الله سبحانه الاستهانة بأمر البنات بمثل قوله، وهو من أبلغ الذم: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾6.
ولم يكن تواريهم إلا لعدهم ولادتها عاراً على المولود له، وعمدة ذلك أنهم كانوا يتصورون أنها ستكبر فتصير لعبة لغيرها يتمتع بها، وذلك نوع غلبة من الزوج عليها في أمر مستهجن، فيعود عاره إلى بيتها وأبيها، ولذلك كانوا يئدون البنات وقد سمعت السبب الأول فيه فيما مر، وقد بالغ الله سبحانه في التشديد عليه حيث قال: ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾7. وقد بقي من هذه الخرافات بقايا عند المسلمين ورثوها من اسلافهم، ولم يغسل رينها من قلوبهم المربون، فتراهم يعدون الزنا عاراً لازماً على المرأة وبيتها وإن تابت دون الزاني وإن أصر، مع أن الإسلام قد جمع العار والقبح كله في المعصية، والزاني والزانية سواء فيها.
الوزن الاجتماعي للمرأة في الاسلام
فالإسلام ساوى بينها وبين الرجل من حيث تدبير شؤون الحياة بالإرادة والعمل فإنهما متساويان من حيث تعلق الإرادة بما تحتاج إليه البنية الإنسانية في الأكل والشرب وغيرهما من لوازم البقاء، وقد قال تعالى: ﴿بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ﴾8 فلها أن تستقل بالإرادة ولها أن تستقل بالعمل وتمتلك نتاجهما كما للرجل ذلك من غير فرق ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾9 فهما سواء فيما يراه الإسلام ويحقه القرآن والله يحق الحق بكلماته غير أنه قرر فيها خصلتين ميزها بهما الصنع الإلهي.
إحداهما: أنها بمنزلة الحرث في تكون النوع ونمائه فعليها يعتمد النوع من بقائه فتختص من الأحكام بمثل ما يختص به الحرث، وتمتاز بذلك عن الرجل.
والثانية: أن وجودها مبني على لطافة البنية ورقة الشعور، ولذلك أيضاً تأثير في الوظائف الاجتماعية المخوّلة اليها. فهذا وزنها الاجتماعي، وبذلك يظهر وزن الرجل في المجتمع، وإليه تنحل جميع الأحكام المشتركة بينهما، وما يختص به أحدهما في الاسلام، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾10.
يريد أن الأعمال التي يهديها كل من الفريقين إلى المجتمع هي الملاك لما اختص به من الفضل، وإن من هذا الفضل ما تعين لحوقه بالبعض دون البعض كفضل الرجل على المرأة في سهم الإرث، وفضل المرأة على الرجل في وضع النفقة عنها، فلا ينبغي أن يتمناه متمن، ومنه ما لم يتعين إلا بعمل العامل كائناً من كان كفضل الله يؤتيه من يشاء، واسألوا الله من فضله، والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعده: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء﴾11.
مساواة في الأحكام
وأما الأحكام المشتركة والمختصة: فهي تشارك الرجل في جميع الأحكام العبادية والحقوق الإجتماعية فلها أن تستقل فيما يستقل به الرجل من غير فرق في إرث ولا كسب ولا معاملة ولا تعليم وتعلم ولا اقتناء حق ولا دفاع عن حق وغير ذلك إلا في موارد يقتضي طباعها ذلك.
وعمدة هذه الموارد: أنها لا تتولى الحكومة والقضاء، ولا تتولى القتال بمعنى المقارعة لا مطلق الحضور والاعانة على الأمر كمداواة الجرحى مثلاً، ولها نصف سهم الرجل في الارث، وعليها: الحجاب وستر مواضع الزينة، وعليها أن تطيع زوجها فيما يرجع إلى التمتع بها، وتدرك ما فاتها بأن نفقتها في الحياة على الرجل: الأب أو الزوج، وان عليه أن يحمي عنها منتهى ما يستطيعه، وأن لها حق تربية الولد وحضانته.
وقد سهل الله لها أنها محمية النفس والعرض حتى عن سوء الذكر، وان العبادة موضوعة عنها أيام عادتها ونفاسها، وأنها لازمة الارفاق في جميع الأحوال.
والمتحصل من جميع ذلك: أنها لا يجب عليها في جانب العلم إلا العلم باُصول المعارف والعلم بالفروع الدينية (أحكام العبادات والقوانين الجارية في الاجتماع)، وأما في جانب العمل، فأحكام الدين وطاعة الزوج فيما يتمتع به منها، واما تنظيم الحياة ـ الفردية بعمل أو كسب بحرفة أو صناعة وكذا الورود فيما يقوم به نظام البيت وكذا المداخلة في ما يصلح المجتمع العام كتعلم العلوم واتخاذ الصناعات والحرف المفيدة والنافعة في الاجتماعات مع حفظ الحدود الموضوعة فيها فلا يجب عليها شيء من ذلك، ولازمه أن يكون الورود في جميع هذه الموارد من علم أو كسب أو شغل أو تربية، ونحو ذلك كلها فضلاً لها تتفاضل به، وفخراً لها تتفاخر به، وقد جوز الإسلام بل ندب إلى التفاخر بينهن، مع أن الرجال نهوا عن التفاخر في غير حال الحرب.
والسنة النبوية: تؤيد ما ذكرناه، ولولا بلوغ الكلام في طوله إلى ما لا يسعه هذا المقام لذكرنا طرفاً من سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع زوجته خديجة ومع بنته سيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السلام ومع نسائه ومع نساء قومه وما وصى به في أمر النساء، والمأثور من طريقة أئمة أهل البيت ونسائهم كزينب بنت علي وفاطمة وسكينة بنتي الحسين وغيرهن على جماعتهم السلام، ووصاياهم في أمر النساء.
وإنما الأساس الذي بنيت عليه هذه الاحكام والحقوق فهو الفطرة، وقد علم من الكلام في وزنها الإجتماعي، كيفية هذا البناء، ونزيده هاهنا إيضاحات فنقول: لا ينبغي أن يرتاب الباحث عن أحكام الإجتماع وما يتصل بها من المباحث العلمية أن الوظائف الاجتماعية والتكاليف الاعتبارية المتفرعة عليها يجب انتهائها بالآخرة إلى الطبيعة، فخصوصية البنية الطبيعية الإنسانية هي التي هدت الإنسان إلى هذا الإجتماع النوعي الذي لا يكاد يوجد النوع خالياً عنه في زمان، وإن أمكن أن يعرض لهذا الاجتماع المستند إلى اقتضاء الطبيعة ما يخرجه عن مجرى الصحة إلى مجرى الفساد كما يمكن أن يعرض للبدن الطبيعي ما يخرجه عن تمامه الطبيعي إلى نقص الخلقة، أو عن صحته الطبيعية إلى القسم والعاهة.
فالإجتماع بجميع شؤونه وجهاته سواء كان اجتماعاً فاضلاً أو اجتماعاً فاسداً ينتهي في النهاية إلى الطبيعة، وان اختلف القسمان من حيث ان المجتمع الفاسد يصادف في طريق الإنتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الإجتماع الفاضل.
فهذه حقيقة، وقد أشار اليها تصريحاً أو تلويحاً الباحثون من هذه المباحث وقد سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهي فبينه بأبدع البيان، قال تعالى: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾12.
وقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى﴾13.
وقال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾14 إلى غير ذلك من آيات القدر.
فالأشياء ومن جملتها الإنسان إنما تهتدي في وجودها وحياتها إلى ما خلقت له وجهزت بما يكفيه ويصلح له من الخلقة، والحياة القيمة بسعادة الإنسان هي التي تنطبق أعمالها على الخلقة، والفطرة انطباقاً تاماً، وتنتهي وظائفها وتكاليفها إلى الطبيعة انتهاءً صحيحاً، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾15.
والذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف والحقوق الإجتماعية بين الأفراد ـ على أن الجميع إنسان ذو فطرة بشرية ـ أن يساوي بينهم في الحقوق والوظائف من غير أن يحبا بعض ويضطهد آخرون بإبطال حقوقهم، لكن ليس مقتضى هذه التسوية التي يحكم بها العدل الإجتماعي أن يبذل كل مقام إجتماعي لكل فرد من أفراد المجتمع، فيتقلد الصبي مثلاً على صباوته والسفيه على سفاهته، ما يتقلده الإنسان العاقل المجرب، أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القوي المقتدر في الشؤون والدرجات، فإن في تسوية حال الصالح وغير الصالح إفساداً لما لهما معاً.
بل الذي يقتضيه العدل الإجتماعي ويفسر به معنى التسوية: ان يعطي كل ذي حق حقه وينزل منزلته، فالتساوي بين الأفراد والطبقات إنما هو في نيل كل ذي حق خصوص حقه من غير أن يزاحم حق حقاً، أو يهمل أو يبطل حق بغياً أو تحكماً ونحو ذلك، وهذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾16، فان الآية تصرح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهن وبين الرجال.
ثم إن اشتراك القبيلين أعني الرجال والنساء في أصول المواهب الوجودية أعني، الفكر والإرادة المولدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرية الفكر والإرادة اعني الاختيار، فلها الاستقلال بالتصرف في جميع شؤون حياتها الفردية والاجتماعية عدا ما منع عنه مانع، وقد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال والحرية على أتم الوجوه، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلة بنفسها منفكة الإرادة والعمل عن الرجال وولايتهم وقيمومتهم، واجدة لما لم تسمح لها به الدنيا في جميع ادوارها وخلت عنه صحائف تاريخ وجودها، قال تعالى: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾17.
لكنها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة اخرى، فان المتوسطة من النساء تتأخر عن المتوسط من الرجال في الخصوصيات الكمالية من بنيتها كالدماغ والقلب والشرايين والأعصاب والقامة والوزن على ما شرحه فن وظائف الأعضاء، واستوجب ذلك ان جسمها ألطف وأنعم، كما ان جسم الرجل أخشن وأصلب، وأن الإحساسات اللطيفة كالحب ورقة القلب والميل إلى الجمال والزينة أغلب عليها من الرجل كما أن التعقل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة إحساسية كما أن حياة الرجل حياة تعقلية.
ولذلك فرق الإسلام بينهما في الوظائف والتكاليف العامة الاجتماعية التي يرتبط قوامها بأحد الأمرين: أعني التعقل، العواطف (الإحساسات) فخص مثل الولاية والقضاء والقتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقل والحياة التعقلية إنما هي للرجل دون المرأة، وخص مثل حضانة الأولاد وتربيتها وتدبير المنزل بالمرأة، وجعل نفقتها على الرجل، وعوض ذلك له بالسهمين في الارث ( وهو في الحقيقة بمنزلة أن يقتسما الميراث نصفين ثم تعطي المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إلى أن ثلثي المال في الدنيا للرجال ملكاً وعيناً وثلثيها للنساء انتفاعاً فالتدبير الغالب إنما هو للرجال لغلبة تعقلهم، والانتقاع والتمتع الغالب للنساء لغلبة إحساسهن.
ثم تمم ذلك بتسهيلات وتخفيفات في حق المرأة.
فإن قلت: ما ذكر من الارفاق البالغ للمرأة في الإسلام يوجب تعطلها عن العمل، فإن ارتفعت الحاجة الضرورية إلى لوازم الحياة بتخديرها، وكفاية مؤنتها بإيجاب الانفاق على الرجل يوجب إهمالها وكسلها وتثاقلها عن تحمل مشاق الأعمال والأشغال فتنمو على ذلك نماءً ردياً وتنبت نباتاً سيئاً غير صالح لتكامل المجتمع، وقد أيدت التجربة ذلك.
قلت: وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمرُ، وإجراء ذلك بالسيرة الصالحة والتربية الحسنة التي تنبت الإنسان نباتاً حسناً أمر آخر. والذي اُصيب به الإسلام في مدة سيرها الماضي هو فقد الأولياء الصالحين والقوام المجاهدين فارتدت بذلك أنفاس الأحكام، وتوقفت التربية ثم رجعت القهقرى. ومن أوضح ما أفادته التجارب القطعية: أن مجرد النظر والاعتقاد لا يثمر أثره ما لم يثبت في النفس بالتبليغ والتربية الصالحين، والمسلمون في غير برهة يسيرة لم يستفيدوا من الأولياء المتظاهرين بولايتهم القيمين بأمورهم تربية صالحة يجتمع فيها العلم والعمل، فهذا معاوية، يقول على منبر العراق حين غلب على أمر الخلافة ما حاصله: إني ما كنت أقاتلكم لتصلوا أو تصوموا فذلك اليكم وإنما كنت أقاتلكم لأتأمر عليكم، وقد فعلت، وهذا غيره من الأمويين والعباسيين فمن دونهم، ولولا استغاثة هذا الدين بنور الله الذي لا يطفأ والله متم نوره ولو كره الكافرون لقضى عليه منذ عهد قديم.
*قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم، العلامة السيد محمد حسين الطبطبائي، دار الصفوة، ص106-118.
1- الحجرات:13.
2- آل عمران:195.
3- النحل:97.
4- المؤمن:40.
5- النساء:124.
6- النحل:58 ـ 59.
7- التكوير:8 ـ 9.
8-النساء:25.
9- البقرة:286.
10- النساء:32.
11- النساء:34.
12-طه:50.
13- الأعلى:2 ـ 3.
14- الشمس:7-8.
15- الروم:30.
16- البقرة:228.
17- البقرة:234.