"كم من أمر صدّك عن إمضاء عزمك فيه التقى، واتبع غيرك في مثله الهوى، فظنّ الجاهلون
أنّك عجزت عمّا إليه انتهى، ضل والله الظان لذلك، وما اهتدى، ولقد أوضحت ما أشكل من
ذلك لمن توهّم وامترى بقولك صلى الله عليك: قد يرى الحُوّل القُلّب وجه الحيلة،
ودونها حاجز من تقوى الله، فيدعها رأي العين، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في
الدين ، صدقت وخسر المبطلون" :
اللغة: أشكل إلتبس. توهّم: ظن. إمترى: ماريت الرجل، أماريه، مراءً: إذا جادلته،
والإمتراء في الشيء: الشك فيه .
حُوّل(بتشديد الواو): أي بصير بتحويل الأمور، وهو حُوّل قُلّب، وقولهم هو: حُوّل
قُلّب: أي محتال بصير بتقليب الأمور .
يَدَعُ: دَعْ ذا: أي اتركه، وأصله: وَدَعَ، يَدَعُ .
حريجة: المتحرِّج: الكاف عن الإثم .
يعتمد أغلب ساسة الدول وقادتها ومن يتولون الأمور في مختلف شؤون الحياة في التوصل
إلى أهدافهم كل سبيل، حتى لو توقف ذلك على ارتكاب كل ما ينافي المبادئ الإنسانية
السامية، والشرائع السماوية، وهذا ما يعرف – اليوم – بمبدأ: (الغاية تبرر الوسيلة)،
وهو المبدأ الذي تنتهك به كل الحرمات، وتعاني منه الشعوب آلام الظلم والحرمان،
لتتحقق للمتسلطين أهواءهم بما يسلكون من طرق ملتوية، ويخالفون السنن، والقوانين،
والشرائع، في سبيل التوصل إليها، لمجرد اعتقادهم أو ادعائهم أنّها تحقق لهم غاية
مشروعة، وهذه السيرة اعتمدها المتسلطون على مدى تاريخ البشرية، وشواهدها أكثر من أن
تحصى، ولا زال العالم يشهد آثارها كل يوم.
إنّ الإسلام يرفض هذا المبدأ رفضاً قاطعاً: لأنّه يخالف ما جاء به من أسس العدل
والإنصاف، فهو لا يبيح لولي الأمر أن يسير خلف هواه، سالكاً أي طريق يحقق مصالحه
الشخصية، ونزواته الفردية، بل لا بد له أن يتقيد بالمثل الإنسانية السامية، التي
أقرها الإسلام، فجعلها جزءً لا يتجزأ من تشريعاته، وتعليماته الأخلاقية، والتقوى هي
الأساس الذي يجب أن يعتمده ولي الأمر في جميع تصرفاته، باعتبارها الأساس الذي يجب
أن تبتني عليه تصرفات المؤمنين، ولا بد لولي الأمر أن يضحي من أجل إسعاد أمته، ولا
(يطلب النصر بالجور)، ولا مصلحة في تحقق هذف يتوصل إليه بمعصية الله تعالى، ومخالفة
أوامره، مهما كانت أهمية ذلك الهدف.
والإمام علي عليه السلام هو تالي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والذي عرف
باتباعه والسير على هديه، والذي ثبتت عصمته، لا يمكن أن يحيد عن الأسس والأحكام
التي قررها الدين الحنيف قيد شعرة، وقد حفل التأريخ بشواهد كثيرة على نبذه الأساليب
والسبل التي لا تتفق مع مبادئه وأخلاقه، وتحمله في ذلك النتائج التي يفرزها هذا
السلوك حتى لو كانت غاية في القسوة، وقد اشتهر عنه عليه السلام – على سبيل المثال –
من جيش معاوية في طريقه إلى صفين، فلم يقابله بالمثل عندما أخذ شريعة الفرات من جيش
معاوية، بل سمح لهم أن يتزودوا من الماء، وكانوا يريدون قتله وجيشه بالعطش.
الإمام علي عليه السلام صاحب رسالة، ورجل مبادئ، لا يرضى لنفسه أن يكسب موقفاً على
حساب دينه، ولم يكن همّه بسط السيطرة وتوسيع السلطان فحسب، بل كان همه الأكبر تطبيق
أحكام الدين، وبسط العدل، وهداية الخلق، بدعوتهم إلى الله، وتعليمهم أحكام الدين
وآدابه، وإلاّ فما قيمة التوسع إذا كان على حساب الأخلاق، والآداب، والأحكام التي
جاء بها الدين الإسلامي الحنيف.
لقد قارن الناس بين ما كان يجري في ظل حكومة الشام على يد معاوية، وبين ما كان يجري
في ظل الدولة الإسلامية على يد الإمام علي عليه السلام، وجعلوهما ضمن معادلة ذات
طرفين، وأخذ بعضهم يكيل الإنتقادات لما صدر عن الإمام علي عليه السلام، وكأنّهم
بذلك يريدون أن يجعلوا منه نظيراً لمعاوية في ما ارتكب، ويأبى هو إلاّ أن يكون
نظيراً ومتبعاً للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، يطبق سيرته، فاعتبر بعضهم
سياسته غير رشيدة، ولم تكن هذه الإعتراضات والإنتقادات وليدة زمن محدود، بل واجهت
الإمام علياً عليه السلام في حياته، واستمرت إلى يومنا هذا، تجري بألسن الخطباء،
وأقلام الكتاب، ومن هذه الإعتراضات:
1- سياسته المالية: وهي التي تتمثل في تسويته بين الناس في العطاء، وتشدده
في استرجاع ما نهبه بنو أمية وصنعائهم على عهد عثمان، وعدم استرضائه الأشراف
بالأموال، وهؤلاء ملكوا الملايين مما استأثروا به أنفسهم، أو وهب لهم بغير حق، مما
أفاءه الله تعالى على الفقراء والمحرومين.
2- تشدده عليه السلام مع ولاته: لقد كان يختار للولاية ذوي الكفاءة، ومن عرف
بالأمانة، والتقوى، والصلاح، ومع ذلك فلم يتركهم لشأنهم، يتصرفون كيفما أرادوا، بل
كان يحملهم على التقيد بأسس الدين، وأحكامه، وآدابه، ويحثهم على التقوى، وكان يراقب
أعمالهم مراقبة دقيقة مستمرة، فإذا بلغه أنّ أحدهم خالف ذلك، حاسبه على قدر مخالفته،
وينال جزاءه بقدر ما تقتضيه مخالفته.
3- عدم إشراك طلحة والزبير في الحكم، وقد طلبا منه ذلك قبل خروجهما عليه،
ونكثاً ببيعته، وزعماً أنّهما إنما بايعاه على أن يشركهما في الحكم، ولكنه عليه
السلام لم يولِّ أحداً منهما، لما كان يعرفه من طمعهما بالولاية، وعدم اطمئنانه إلى
أنهما سيتورعان في التصرف بشؤونهما.
هذه أهم الإعتراضات، أذكرها على سبيل المثال، ولست بصدد استقصاء جميع الإعتراضات.
أمّأ معاوية الذي حاولوا أن يجعلوه ندّاً للإمام علي عليه السلام، فقد كان يهب
الأموال الطائلة لغرض شراء الضمائر، ويفضّل في العطاء الأشراف لإستمالتهم، وكسب
ودّهم، ويولي على الناس الأشداء، والأشرار، ويترك لهم الأمر، ليتصرفوا حسب ما تميله
أهواؤهم، ولا يسمع فيهم شكوى أحدٍ من الناس، بل يحملهم على إخضاع الناس بالقوة
والإكراه، فيرهبون الناس، وينتقمون منه بمباركته، ومن أجل توطيد ملكه، وسلطانه،
فولّى عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، ليتخلّص من شغبهما، ويكسب تأييدهما لسلطانه.
ولا مجال للمقارنة بين الإمام علي عليه السلام وبين معاوية لأنّ كلاً منهما كان
يتّخذ نهجاً يغاير نهج الآخر، ويعاكسه، والفرق بينهما هو الفرق بين الحق والباطل،
فهما متباينان، ومن ظنّ خلاف ذلك وساوى بينهما، فجعلهما نظيرين، فإنّه لا يميز بين
الحق والباطل، وهو ضال في ما أصدره من حكم، ولم يهتد إلى الحق، لأنّ الإهتداء إلى
الحق، لا يتأتى لمن يصدر الأحكام إعتباطاً، بل لا بد من التدبر، والتفكير، والتحليل،
والمقارنة من أجل الوصول إلى معرفة الحق، وإصدار الحكم فيه.
أوضح الإمام علي عليه السلام الأسس التي يعتمدها في سيرته، ولم يبقٍ مجالاً للشك
والتوهم، فقد أبان للعالم أنّه ليس – كما يظنّ البعض – ضعيف الرأي، عاجزاً عن إدارة
شؤون الخلافة، وأنّ من ذهب إلى هذا الرأي إمّا أنه يجهل الحقيقة، أو يتجاهلها، فهو
عليه السلام يعبر عن نفسه بالحوَّل القلَّب، فليس هو مغفلاً، ولا تفوته حيلة للتوصل
إلى أهدافه، يرى سبل الوصول إليها عياناً، ولكنه لا يسلك طريقاً يتنافى مع تقواه،
بل يلتزم بما يمليه عليه دينه القويم، الذي يحجز بينه وبين ما يفعله غيره من
الأعمال المنافية للدين، من أجل الوصول إلى النزوات، والنزعات الشخصية الرخيصة،
لأنّه لا يضحّي بدينه، ولا يجعل دينه مطيّة للأهواء، وهو سيد المتقين.
أما رقيق الدين، الذي لا يتحرج من ارتكاب المآثم، ولا يعرف طعم التقوى، فإنّه ينتهز
الفرصة عندما تظهر أمامه الحيلة، ويتعرف على وسائلها، فيسلك سبلها الوعرة بدون تردد،
لأنّه لا يرى مانعاً من ارتكاب أيّة جريمة، ما دامت تحقق له هدفاً، يوصله إلى
أهوائه، وشهواته الفانية، وقد صنفت الأحداث جميع خصوم الإمام علي عليه السلام،
وأعدائه ضمن هذه الفصيلة، حيث كشفوا أنفسهم، بما ارتكبوا من الآثام، فأنابوا عن
واقعهم بالقول والفعل.
وقد صدق الإمام علي عليه السلام في ما تحدث به عن نفسه، وشهد له محبوه، ومبغضوه –
على حدّ سواء – بالتقوى، واتباع النهج الإسلامي، ولم يكسب المبطلون سوى الخسران،
لأنهم لم ينالوا خيراً في دنياهم التي جهدوا أنفسهم لعمارتها على حساب دينهم، كما
خسروا الآخرة، بما ارتكبوا من الآثام، وذلك هو الخسران المبين.
المصدر: شرح زيارة الغدير
2018-08-27