يتم التحميل...

الإسلام وعنايته بالمجتمع

المجتمع الإسلامي

لا ريب أنّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي أسّس بنيانه على الاجتماع صريحاً ، ولم يُهمل أمر المجتمع في أقلّ شأن من شؤونه ، فانظر ـ إن أردت زيادة التبصر في ذلك ـ

عدد الزوار: 250

لا ريب أنّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي أسّس بنيانه على الاجتماع صريحاً ، ولم يُهمل أمر المجتمع في أقلّ شأن من شؤونه ، فانظر ـ إن أردت زيادة التبصر في ذلك ـ إلى سعة الأعمال الإنسانية التي تعجز عن إحصائها الفكرة ، وإلى تشعُّبها إلى أجناسها ، وأنواعها ، وأصنافها ، ثمّ انظر إلى إحصاء هذه الشريعة الإلهية لها وإحاطتها بها وبسط أحكامها عليها ، ترى عجباً ، ثمّ أنظر إلى تقليبه ذلك كلّه في قالب المجتمع ، ترى أنّه أنفذ روح الاجتماع فيها غاية ما يمكن من الإنفاذ .

ثمّ خُذْ في مقايسة ما وجدته بسائر الشرائع الحقّة التي يعتني بها القرآن ، وهي شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، حتى تُعاين النسبة وتعرف المنزلة .

وأمَّا ما لا يعتني به القرآن الكريم ، من الشرائع كأديان الوثنية والصابئية والمانوية والثنوية ، وغيرها ، فالأمر فيها أظهر وأجلى .

وأمّا الأُمم المُتمدّنة وغيرها ، فالتاريخ لا يذكر من أمرها إلاّ أنّها كانت تتّبع ما ورثته من أقدم عهود الإنسانية من استتباع الاجتماع بالاستخدام ، واجتماع الأفراد تحت جامع حكومة الاستبداد والسلطة الملوكية ، فكان الاجتماع القومي ، والوطني والإقليمي يعيش تحت راية الملك والرئاسة ، ويهتدي بهداية عوامل الوراثة والمكان وغيرهما من غير أن يعتني أمّة من هذه الأمم عناية مستقلّة بأمره ، وتجعله مورداً للبحث والعمل ، حتى الأُمم المُعظمة ـ التي كانت لها سيادة الدنيا ـ حينما شرقت شارقة الدين ، وأخذت في إشراقها وإنارتها أعني إمبراطورية الروم والفرس ، فإنّها لم تكن إلا قيصرية وكسروية تجتمع أُممها تحت لواء الملك والسلطنة ، ويتبعها الاجتماع في رُشده ونموّه ويمكث بمكثها .

نعم ، يوجد فيما ورثوه أبحاث اجتماعية في مسفورات حكمائهم ، من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم ، إلاّ أنّها كانت أوراقاً وصحائف لا ترد مورد العمل ، ومثلاً ذهنية لا تنزل مرحلة العين والخارج ، والتاريخ الموروث أعدل شاهد على صدق ما ذكرناه .

فأول نداء قرع سمع النوع الإنساني ، ودعا به هذا النوع إلى الاعتناء بأمر المجتمع ، بجعله موضوعاً مستقلاً خارجاً عن زاوية الإهمال وحكم التبعية ، هو الذي نادى به صادع الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام ، فدعا الناس بما نزل عليه من آيات ربّه إلى سعادة الحياة وطيب العيش مجتمعين .

وقد قال تعالى : ( وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ ... ) وقال تعالى : ( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ـ إلى أن قال تعالى : ـ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ( يُشير إلى حفظ المجتمع عن التفرُّق والانشعاب ) وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ ... ) (1) .
وقال : ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ... ) (2) .
إلى غير ذلك من الآيات المطلقة ، الداعية إلى أصل الاجتماع والاتّحاد .
قال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ... ) (3) .
وقال : ( ... وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ... ) (4) .
وقال : ( ... وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى ... ) (5) .
وقال أيضاً : ( ... وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ... ) (6) .
إلى غير ذلك من الآيات الآمرة ببناء المجتمع الإسلامي على الاتّفاق والاتّحاد ، في حيازة منافعها ومزاياها المعنوية والمادية ، والدفاع عنه على ما سنتحدّث فيه إن شاء الله تعالى .

اعتبار الإسلام لرابطة الفرد والمجتمع
الصنع والإيجاد أولاً يجعل أجزاءً ابتدائية لها آثار وخواصّ ، ثمّ يُركّبها ويؤلّف بينها على ما فيها من جهات البينونة ، فيستفيد منها فوائد جديدة ، مضافة إلى ما للأجزاء من الفوائد المشهودة ، فالإنسان ـ مثلاً ـ له أجزاء وأبعاض وأعضاء وقوى ، لها فوائد متفرّقة مادّية وروحية ، ربّما ائتلفت فقويت وعظمت كثقل كل واحد من الأجزاء ، وثقل المجموع والتمكّن والانصراف من جهة إلى جهة وغير ذلك ، وربّما لم تأتلف وبقيت على حال التباين والتفرّق ، كالسمع والبصر والذوق والإرادة والحركة ، إلاّ أنّها جميعاً من جهة الوحدة في التركيب تحت سيطرة الواحد الحادث الذي هو الإنسان ، وعند ذلك يوجد من الفوائد ما لا يوجد عند كل واحد من أجزائه ، وهي فوائد جمّة من قبيل الفعل والانفعال والفوائد الروحية والمادية ، كالنطفة ـ مثلاً ـ إذا استكملت نشأتها ، قدرت على إفراز شيء من المادة من نفسها وتربيتها إنساناً تامّاً آخر ، يفعل نظائر ما كان يفعله أصله ومحتده من الأفعال المادّية والروحية ، فأفراد الإنسان على كثرتها إنسان وهي واحد ، وأفعالها كثيرة عدداً واحدة نوعاً ، وهي تجتمع وتأتلف بمنزلة الماء يقسم إلى آنية ، فهي مياه كثيرة ذو نوع واحد ، وهي ذات خواصّ كثيرة نوعها واحد ، وكلّما جُمعت المياه في مكان واحد قويت الخاصة وعظم الأثر .

وقد اعتبر الإسلام في تربية أفراد هذا النوع وهدايتها إلى سعادتها الحقيقية ، هذا المعنى الحقيقي فيها ولا مناصّ من اعتباره . قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى ... ) (7) . وقال أيضا : ( ... بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ... ) (8) .

وهذه الرابطة الحقيقية بين الشخص والمجتمع ـ لا محالة ـ تؤدّي إلى كينونة أُخرى في المجتمع ، حسب ما يمدُّه الأشخاص من وجودهم وقواهم ، وخواصّهم وآثارهم ، فيتكوّن في المجتمع سنخ ما للفرد من الوجود ، وخواصّ الوجود وهو ظاهر مشهود ؛ ولذلك اعتبر القرآن للأمّة وجوداً وأجلاً ، وكتاباً وشعوراً ،وفهماً وعملاً ، وطاعة ومعصية ، فقال تعالى : ( ... وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ) (9) .
وقال أيضاً : ( ... كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا ... ) (10) .
وقال : ( ... زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ... ) (11) ( ... يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ ... ) (12) .
وقال : ( ... وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ) (13) .
وقال أيضاً : ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ... ) (14) .

ومن هنا ؛ ما نرى أنّ القرآن يعتني بتواريخ الأُمم كاعتنائه بقصص الأشخاص ، بل أكثر حينما لم يتداول في التواريخ إلاّ ضبط أحوال المشاهير من الملوك والعظماء ، ولم يشتغل المؤرّخون بتواريخ الأُمم والمجتمعات إلاّ بعد نزول القرآن ، فاشتغل بها بعض الاشتغال آحاد منهم ، كالمسعودي وابن خلدون ، حتى ظهر التحوّل الأخير في التأريخ النقلي بتبديل الأشخاص أُمماً ، وأول مَن سنّه ـ على ما يُقال : ـ أوغست كُمت الفرنسي ، المتوفّى سنة 857 ميلادية .

وبالجملة ؛ لازم ذلك ـ على ما مرّت الإشارة إليه ـ تكون قوى وخواصّ اجتماعية قويّة تقهر القوى والخواصّ الفردية عند التعارض والتضادّ .

على أنّ الحسّ والتجربة يشهدان بذلك في القوى والخواص الفاعلة والمنفعلة معاً ، فمهمّة الجماعة وإرادتها في أمر ـ كما في موارد الغوغاءات وفي الهجمات الاجتماعية ـ لا تقوم لها إرادة معارضة ، ولا مضادّة من واحد من أشخاصها وأجزائها ، فلا مفرّ للجزء من أن يَتْبع كلَّه ويجري على ما يجري العامة ، كما في موارد الانهزام وانسلاب الأمن والزلزلة والقحط والوباء أو ما هو دونها ، كالرسومات المتعارفة والأزياء القومية ونحوهما تضطرُّ الفرد على الاتّباع ، وتسلب عنه قوّة الإدراك والفكر .

وهذا هو الملاك في اهتمام الإسلام بشأن الاجتماع ، ذلك الاهتمام الذي لا نجد ولن نجد ما يُماثله في واحد من الأديان الأُخر ، ولا في سُنن الملل المتمدّنة ( ولعلّك لا تكاد تُصدِّق ذلك ) ، فإنّ تربية الأخلاق والغرائز في الفرد ـ وهو الأصل في وجود المجتمع ـ لا تكاد تنجح مع كينونة الأخلاق والغرائز المعارضة والمضادّة القوية القاهرة في المجتمع إلاّ يسيراً ، لا قدر له عن القياس والتقدير .

فوضع أهمّ أحكامه وشرائعه ، كالحج والصلاة ، والجهاد والإنفاق ، وبالجملة التقوى الديني على أساس الاجتماع ، وحافظ على ذلك ، مضافاً إلى قوى الحكومة الإسلامية الحافظة لشعائر الدين العامة وحدودها ، ومضافاً إلى فريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، العامة لجميع الأمّة بجعل غرض المجتمع الإسلامي ـ وكل مجتمع لا يستغني عن غرض مشترك ـ هي السعادة الحقيقية ، والقُرب والمنزلة عند الله ، وهذا رقيب باطني لا يخفى عليه ما في سريرة الإنسان وسرِّه ـ فضلاً عمّا في ظاهره ـ وإن خفي على طائفة الدعاة وجماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا هو الذي ذكرنا أنّ الإسلام تفوّق سنّة اهتمامه بشأن الاجتماع سائر السُنن والطرائق .

العلامة الطباطبائي / قضايا الاسرة والمجتمع.


(1) سورة آل عمران ، الآيات : 103 ـ 105 .
(2) سورة الأنعام ، الآية : 159 .
(3) سورة الحجرات ، الآية : 10 .
(4) سورة الأنفال ، الآية : 46 .
(5) سورة المائدة ، الآية : 2 .
(6) سورة آل عمران ، الآية : 104 .
(7) سورة الحجرات ، الآية : 13 .
(8) سورة آل عمران ، الآية : 195 .
(9) سورة الأعراف ، الآية : 34 .
(10) سورة الجاثية ، الآية : 28 .
(11) سورة الأنعام ، الآية : 108 .
(12) سورة آل عمران ، الآية : 113 .
(13) سورة غافر ، الآية : 5 .
(14) سورة يونس ، الآية : 47 .

2016-07-13