موقف القرآن إزاء الفتنة في الدين
الفصل الثالث
(الفتنة في الدين) بالمعنى الذي سبق شرحه تعدّ مواجهةً خفيةً، ونوعاً من الخداع والتحايل، ويأتي هذا العمل تحت غطاء الإيمان الظاهري بهدف القضاء على أصل الدين،
عدد الزوار: 186
(الفتنة في الدين) بالمعنى الذي سبق شرحه تعدّ مواجهةً خفيةً، ونوعاً من الخداع
والتحايل، ويأتي هذا العمل تحت غطاء الإيمان الظاهري بهدف القضاء على أصل الدين،
هؤلاء المثيرون للفتنة يتستّرون تحت نقاب النفاق، لإخفاء أفكارهم الشيطانية، بحيث
يغدو من العسير على الناس العاديين معرفة دوافعهم المناهضة للدين، ولهذا السبب
اعتبر القرآن هذه الممارسة أكبر الذنوب، ولفت أنظار الناس إلى هذا الخطر العظيم
الذي يهدد دنياهم وآخرتهم، داعياً إيّاهم إلى أن يهبّوا لمجابهته دفاعاً عن كيانهم
المادي والمعنوي.
يتّبع الأعداء عادةً أسلوبين رئيسيين لمجابهة الإسلام والمسلمين، وسنطّلع هنا في
سياق توضيح أساليب أعداء القرآن والثقافة الدينية، على موقف القرآن في مواجهة
مؤامرات الأعداء.
1ـ الفتنة العسكرية
أحد الأساليب التي عادةً ما يتّبعها الأعداء لمجابهة الإسلام والمسلمين هي الحرب
والمواجهة العسكرية، حيث يحاولون تحقيق أهدافهم من خلال الهجوم العسكري على البلاد
والشعوب المسلمة، وقتل المسلمين ونهب ثرواتهم، وفي مثل هذه الحالة قد يستشهد عدد من
المسلمين وتلحق أضرار بالبلد الإسلامي، لكنّهم ـ الأعداء ـ لا يفلحون في تحقيق
أهدافهم، ولا يلحق المسلمين ضرر من جرّاء القتل في سبيل الدين، بل بالعكس إذ يؤدي
إلى مزيد من رسوخ إيمانهم واعتقادهم.
في الثقافة الدينية يكون الهدف من الحياة في هذه الدنيا تكامل الإنسان، وبلوغه مقام
القرب من الله في ظل العقائد الحقة والعبادة، وذلك ما يتجلّى ويبلغ ذروته على شكل
الشهادة في سبيل الله.
وفي مقابل هذه الإستراتيجية التي يتّبعها الأعداء، ينصّ موقف القرآن على ما يلي:
﴿قَاتِلُوهُمْ
حَتّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ للّهِ﴾1
وشعار المسلمين في هذا القتال هو:
﴿هَلْ
تَرَبّصُونَ بِنَا إِلاّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبّصُ بِكُمْ أَن
يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبّصُوا إِنّا
مَعَكُمْ مُتَرَبّصُونَ﴾2.
2- الفتنة الثقافية
الأسلوب الرئيسي الثاني للأعداء في مجابهة الإسلام والمسلمين هو العمل الإعلامي،
الذي تعتبر أهم جوانبه إثارة الشبهات بهدف إضلال المسلمين، ومن البديهي أنّ الأدوات
والوسائل والمعدّات التي تُستخدم في هذا النوع من الصراع، وكذلك أساليبه ونتائجه،
تختلف كلياً عن الهجوم العسكري، فإن كان العدو في حالة الهجوم العسكري ينزل إلى
الساحة بأحدث الأسلحة، لقتل المسلمين والقضاء على كيانهم ونهب ثرواتهم، فهو في
الحالة الثانية ينزل إلى الساحة بسلاح القلم والبيان، لحرف وإفساد أفكارهم، وإذا
كان العدو في حالة الهجوم العسكري يواجه الجنود المسلمين بأبشع أنواع القسوة، فهو
في حالة الهجوم الثقافي يدخل بوجه بشوش ومن باب الحرص، وإذا كان المسلمون ـ في حالة
الهجوم العسكري ـ يعرفون عدوّهم تمام المعرفة، ففي حالة الهجوم الثقافي لا تكون
معرفة العدو أمراً سهلاً، وإذا كان العدو في حالة الهجوم العسكري يهدف إلى القضاء
على الأجسام الترابية، بواسطة ميادين الألغام والمعدّات الحربية المتطوّرة، فهو
يحاول في حالة الهجوم الثقافي الاستحواذ على الأرواح والأفكار، من خلال نصب حبائله
الشيطانية، وإثارة الشبهات التي لا أساس لها من الصحة، ويعمل على إفراغهم من
الداخل، لغرض سوقهم في اتجاه خدمة مصالحه.
وفي حالة الهجوم العسكري إذا كان العدو قوياً فهو يقتل عدداً من جنود الإسلام،
ويخرجهم من هذه الدنيا الدنيّة المادية، أمّا في الهجوم الثقافي فالشياطين يتربّصون
للإيقاع بالشباب الطيّبين، الذين ليس لديهم معرفة كافية بالعلوم والمعارف الدينية،
وهم يمثّلون ثروةً قوميةً هائلة للشعب المسلم، ممّا يؤدّي بهم إلى الانحراف والسقوط
في مستنقع اللادينية، ومع أنّ الأعداء لن يجنوا شيئاً من هذا الأسلوب المناهض
للدين، وأنّ أبناء الشعب المسلم خاصة الشباب المسلمين المثقفين، الذين خرجوا مرفوعي
الرأس من الهجوم العسكري، أوعى من أن يكونوا في غفلة عن انتقال العدو من الجبهة
العسكرية إلى جبهة الصراع الثقافي، لكن القرآن الكريم ونتيجةً لجسامة خطر الهجوم
الثقافي، وما يتمخّض عنه من مردودات وعواقب وخيمة ـ تأتي بسبب هزيمة المسلمين في
جبهة الهجوم الثقافي ـ قد ركّز على ذلك، وطلب من المسلمين في سياق تحذيره لهم في
هذا المجال مجابهة أعداء الله والدين بكل ما أوتوا من قوّة.
تحذير القرآن من الفتنة الثقافية
بما أنّ خطر ونتائج الهزيمة في الهجوم الثقافي ـ خلافاً للهجوم العسكري ـ تنعكس على
ميادين الفكر والعقائد الدينية للناس، ممّا يعني أنّ الغفلة عنها تؤدّي إلى
المخاطرة بإنسانية المسلمين وسعادتهم في الدنيا والآخرة، من هنا فقد اهتم القرآن
بهذا الموضوع اهتماماً بالغاً وحذّر منه.
لا يخفى على المسلمين الواعين بأنّ النتائج التي تتمخّض عن الهزيمة في جبهات الصراع
الظاهري والفتنة العسكرية، ليست ذات أهمية تذكر بالمقارنة مع نتائج الغفلة عن
الهجوم الثقافي، وذلك لأنّه في حالة الهجوم العسكري تتعرض حياة المسلمين لأيام
معدودات للخطر، ولكن في حالة الهجوم والفتنة الثقافية، فإنّ خطراً جاداً يهدّد
عقائد المسلمين ودينهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
لهذا السبب اعتبر القرآن خطر الفتنة في الدين والهجوم الثقافي أعظم من خطر الهجوم
العسكري، فحذّر المسلمين من الغفلة عنه، معتبراً أهميته وخطر الحرب والفتنة
العسكرية أقل من خطر الهجوم الثقافي.
يقول القرآن الكريم:
﴿وَاقْتُلُوهُمْ
حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ
أَشَدّ مِنَ القَتْلِ﴾3
ونحن ندري طبعاً أنّ معارضي القرآن والثقافة الدينية في صدر الإسلام وزمن نزول آيات
القرآن، كانوا غالباً ما يحاولون القضاء على الإسلام والمسلمين بالهجوم العسكري
والمواجهة الحربية في ميادين القتال، ولكن مع كل ذلك فإنّ الحساسية التي يبديها
القرآن إزاء الفتنة الدينية والثقافية أكبر ممّا يبديه إزاء خطر الهجوم العسكري،
يقول القرآن:
﴿وَالْفِتْنَةُ
أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ﴾4
أي أنّ فكرة الشرك أكبر خطراً من الهجوم العسكري والقتل، وإثمها أشد من إثم القتل،
وقد سبق أن بيّنّا أسباب كون الفتنة الثقافية أكبر.
الشرك في ثوب جديد
كانت فكرة الشرك تسير بموازاة فكرة التوحيد، وتستحوذ طيلة التاريخ على جزء من أفكار
البشر، فالذين لم يخضعوا لعبودية الله وأبوا التسليم لبارئ الكون، رغبةً في إرضاء
أهوائهم النفسية، كان يسوؤهم اعتناق الآخرين لدين الحق، وكانوا يصدّونهم عن ذلك
بشتّى الأساليب.
من البديهي أنّ أنصار فكرة الشرك يختارون في كل عصر الأسلوب الذي يتناسب مع أفكار
أهل ذلك العصر، ويتّبعون الأساليب المناسبة لتحقيق أهدافهم، وعلى هذا الأساس لمّا
كانت فكرة الشرك تتجلّى في صدر الإسلام على شكل عبادة الأصنام، فقد أخذ كبراء أهل
الشرك، ومَن لم يكونوا مستعدّين للخضوع لعبادة الله والانقياد لدين الحق، يدعون إلى
عبادة الأوثان الحجرية والخشبية، ويصدّون الناس عن اعتناق التوحيد، وكان السبب
الرئيسي الذي يدعوهم إلى هذا العمل هو، حاكمية الدين والثقافة التوحيدية لا تدع
مجالاً لإشباع أهوائهم النفسية.
واليوم أيضاً تُمارس الدعاية لفكرة الشرك بشكل حديث، وتُعرض بصورة نظرية علمية في
شتّى الأوساط، فإذا كان هناك في صدر الإسلام 360 صنماً ووثناً، وكان عبيد الدنيا
يدعون إليها لتخدير أفكار الناس، فإنّ أنصار فكرة الشرك يحاولون اليوم نحت أصنام
خيالية على قدر عدد الناس، لصرف عقولهم عن الله تعالى، والانكفاء على أوهامهم
وخيالاتهم وإيحاءاتهم الشيطانية. يبدو أنّ فكرة (الصرط المستقيمة والقراءات
المختلفة للدين) تصب في هذا السياق، لأنّ المراد من هذه الفكرة كما يُفهم من
عنوانها أن يبني كل شخص اعتقاده ويعمل حسبما يفهمه من النصوص الدينية عن الله
والدين، لأنّ ذلك هو عين الحق والواقع.
وعلى هذا الأساس يجب أن تُصاغ آلهة وأديان فردية وخاصّة بعدد الناس وأفهامهم
المختلفة لله والدين، ومن البديهي أنّ هذا الكلام يقف على الضد من روح التوحيد،
التي تتجسد في شعار (لا إله إلاّ الله)، ويتعارض معها تماماً.
على أية حال، بما أنّ القضية تتعلق بأهم موضوع في حياة الإنسان، أي الشرك والتوحيد،
وهو ما تتوقف عليه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، فحري بالإنسان أن يتأمّل ويعيد
النظر بأفكاره ومعتقداتها، ويعرضها على القرآن وعلوم أهل البيت، وينقدها في ضوء
المنطق والعقل السليم وبعيداً عن الأهواء، لأنّه في مثل هذه الحالة فقط يستطيع
الإنسان الإفلات من فخ تخيلاته الشيطانية، وينجو من السقوط في هاوية الضلال، ومن
الطبيعي أنّ الانتصار على نوازع النفس عمل عسير وشاق جداً، وليس عبثاً أن يعتبره
الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم الجهاد الأكبر، خاصة إذا كان المرء في موقع يشجّعه
فيه الشياطين وأعداء التوحيد والإسلام، ويكونون على استعداد ليصنعوا منه شخصيةً
عالمية من أجل تحقيق مآربهم السياسية والاستعمارية ومجابهة الإسلام، ورغم أنّ عودة
الإنسان إلى رشده في مثل هذا الظرف، والدخول في ميدان الجهاد الأكبر، والإعراض عن
وعود ووعيد الشياطين وأعداء الإسلام، عمل إعجازي ومثير للدهشة إلاّ أنّه ليس
مستحيلاً، فليسوا قلةً في التاريخ الأشخاص الذين عادوا إلى رشدهم في لحظة، وانتزعوا
أنفسهم من حبائل شياطين الجن والإنس والأهواء، ونجوا من الهلكة وعادوا إلى أحضان
التوحيد.
* تجلي القرآن في نهج البلاغة - مؤلف: آية الله محمد تقي مصباح اليزدي
1- الأنفال: 39.
2- التوبة: 52.
3- البقرة: 191.
4- البقرة: 217.