يتم التحميل...

دوافع الجهلاء المتظاهرين بالعلم في تحريف علوم الدين في منظار علي عليه السلام

الفصل الثالث

كما قلنا آنفاً إنّ القرآن يُسمّي ممارسات أمثال هؤلاء الناس في المجتمع الإسلامي (فتنة)، ويعتبر الذين يعملون على تحريف القرآن وحقائق الدين ومعارفه مثيري فتنة

عدد الزوار: 195

كما قلنا آنفاً إنّ القرآن يُسمّي ممارسات أمثال هؤلاء الناس في المجتمع الإسلامي (فتنة)، ويعتبر الذين يعملون على تحريف القرآن وحقائق الدين ومعارفه مثيري فتنة، يعينون الشيطان في تضليل الناس من خلال تحريفهم لمعارف الدين، والآن ربّما يتبادر هذا السؤال: لماذا يعمل الذين يعرفون الحق وهم مطّلعون على خواء الأوهام والجهالات التي اقتبسوها عن الآخرين، على تبرير خدعهم وإضلال غيرهم؟ وبعبارة أخرى: ما هي المشكلة النفسية ـ في نظر علم النفس ـ التي يعاني منها الذين ينبرون لتحريف علوم الدين، ومن خلال حرفهم لحقائق الدين يمهّدون أسباب ضلال الناس، فيسعون لعلاج هذه المشكلة بثمنٍ، هو التلاعب بدين الله؟ وفي الحقيقة من أين تنشأ الفتنة في الدين التي تظهر بصورة تحريف معارف الدين؟

يقول علي عليه السلام في الإجابة على هذا السؤال: (إنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ) فمن الناحية النفسية أنّ الذي يمهّد الأرضية لمثل هذا الانحراف في الإنسان، ويُعتبر منشأ للفتنة، عبارة من الأهواء النفسية، فالفتن التي تحصل في الدين إنّما تنشأ عن الأهواء النفسية والميول والأغراض الدنيوية، فالذين يجرفون الناس نحو الضلال من خلال تحريف العلوم الدينية، هم أناس لا يتمتعون بروح التسليم والعبودية أمام الله سبحانه وتعالى، أو إنّهم فقدوا روح التسليم والعبودية جرّاء الإيحاءات والوساوس الشيطانية.

إنّ روح التسليم والعبودية تقتضي أن يكون الإنسان مسلّماً أمام الله وأحكامه، ومتمسكاً في مقام العمل والقول بالشريعة والقيم الدينية، إنّ وجود هذه الروح ضروريّ، لأنّه قد لا تتلاءم الكثير من تعاليم الشريعة والدين مع رغبات الإنسان النفسية، ولا يكون الإنسان على استعداد للقبول والعمل بها عن طواعية ورغبة، وفي مثل هذه الحالات يقف البشر على مفترق طريقين ولابد لهم من انتخاب طريق واحدٍ، فإمّا أن يختاروا إرادة الله والشريعة ومخالفة هوى النفس، أو يقدّموا إرادتهم على إرادة الله والقيم الدينية.

وليسوا قلةً الذين تتغلب عليهم النزوات النفسية في هذا الامتحان الكبير، ونتيجةً لتحريض الشيطان ووسوسته يقدّمون الرغبات والأهواء النفسية على الله والقيم الدينية، وفي هذه الأثناء هنالك البعض من بين هذه الطائفة مَن يمتلكون روح الرجولة، ويقولون بصراحة إنّنا لا نلزم أنفسنا بالعقائد الدينية وقيمها، كما إنّنا لا نعمل من أجل تحريف ومناهضة القيم الدينية، وهذا التعاطي مع الدين لا يعدّ فتنةً في الدين، ومثل هذه الروح ليست منشأ للفتنة، فليس هنالك من انجرف نحو الضلال بسبب الخديعة.

إنّ فقدان روح التسليم والعبودية إزاء الله والتعاليم الإلهية، إنّما يصبح منشأ للفتنة في الدين عندما ينبري فاقدو هذه الروح، وبتبريرات واهية إلى تفسير الدين طبقاً لأهوائهم النفسية.

مثل هؤلاء الناس ـ لاسيما إذا كانوا في موقع ربّما يصغي البعض لكلامهم ـ يكونون أكثر من أي أحد آخر عرضةً لطمع الشياطين، لأنّ لهؤلاء رغبات قد نهت الشريعة والدين الإنسان عنها من ناحية، ولأنّ التغاضي عن هذه الأمور وتجاوزها في غاية الصعوبة بالنسبة لهؤلاء الأشخاص، بسبب ضعف روح العبودية من ناحية أخرى،

ومن جهة ثالثة أنّ هؤلاء يتمتعون بقابليات ربّما يشتبه عليهم الحق جرّاء استخدامهم لها، والشيطان يستغل هذه الفرصة الذهبية بأقصى حالات الاستغلال، ويعمل من خلال نفوذه في قلوب وأرواح أمثال هؤلاء على تشجيعهم وترغيبهم باتجاه الفتنة والانحراف في الدين، فلغرض أن يحقّق الشيطان مخططه يقوم بتجسيد رغباتهم النفسية أمام أعينهم، ويلهب في نفوسهم نيران الاندفاع لاستثمارها، ومن ناحية أخرى يوحي إليهم القول أنّى يكون الذي يطرحه العلماء وعظماء الدين ـ على أنّه واجبات وقيم دينية ـ هو عينه الذي يريده الله والدين منا؟

نظراً لأنّ أمثال هؤلاء يرون أنّهم لا يصلون إلى مآربهم وأهوائهم النفسية، بوجود كلام العلماء بالدين، وعلوم أهل البيت، وبوجود القرآن، فهم يعملون على العثور على طريق جديد لينالوا رغباتهم، ولا يكونوا قد خرجوا من ربقة الإسلام حسب الظاهر، ويتمتعوا بالامتيازات والمكانات الاجتماعية في المجتمع الديني.

على هذا الأساس، إنّ الذي يسوقهم من داخل أنفسهم نحو الانحراف هو، فقدان روح التسليم والعبودية، والانقياد للأهواء النفسية.

يقول علي عليه السلام للإجابة على هذا التساؤل: ما السبب في أن ينبري أناسٌ في المجتمع الإسلامي إلى إثارة الفتنة في الدين؟: إنّ أصل جميع الفتن التي تحصل في الدين هو، الأهواء النفسية التي يعجز الأشخاص المذكورون عن التغاضي عنها، ويتشبثون لبلوغها بالفتنة، من خلال ابتداع طريق جديد في مقابل الأحكام والقيم الدينية.

لكن ما الطريق الجديد الذي يتوسل به هؤلاء لبلوغ مقاصدهم؟ يقول عليه السلام إنّهم يبتدعون أحكاماً بما يطابق أهوائهم النفسية وينسبونها للإسلام، ويقومون بتحريف حقائق الدنيا من خلال تفسيرات وتوجيهات مصطنعة لا أساس لها، ويفسّرون القرآن وآيات الله بآرائهم، وبالنتيجة يطلقون كلاماً لا ينسجم مع حقيقة الدين والقرآن الكريم، ويسوقون الناس باتجاه يعاكس القرآن والقيم الدينية.

من البديهي ـ بطبيعة الحال ـ أن يحاول هؤلاء العمل بنحو لا يطّلع الناس على أهدافهم الشيطانية، لعلمهم بأنّهم لن يتبعونهم في مثل هذه الحالة.

بناءً على هذا يرى عليه السلام أنّ منشأ جميع الفتن والبدع التي توضع في الدين هو، فقدان روح التسليم والعبودية، ووجود روح عبودية الهوى، ويحذّر الناس لاسيما خواص المجتمع من اتّباع الهوى، محذراً إيّاهم من أن يكونوا مصداقاً للآية: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ1.

لعلّ الذين يؤدون الآن دور أكثر العناصر وأدوات الشيطان فعاليةً في تحريف المعارف الدينية، لم يكونوا قد اتخذوا مثل هذا القرار في البداية، فما أكثر الذين كانوا بادئ الأمر من المسلمين الصادقين، وفي عداد المبلّغين الصالحين للقرآن ومعارف الدين، لكنّهم غيّروا وجهتهم في منتصف الطريق، والتحقوا في صفوف أعداء الإسلام، وخرجوا عن ولاية الله، وتقبّلوا ولاية الشيطان، وكثيرون الذين تابوا بعد سنوات من الضلال والانحراف وتضليل الآخرين، وعادوا إلى أحضان الإسلام، وكرّسوا ما بقي من أعمارهم للتعويض عن ماضيهم المشين.

على أية حال، إنّ هذا التغيير وانتقال البشر على مرّ الحياة أمر كثيراً ما يحصل في ميدان حياة الناس، لكن ما هو ضروري الانتباه إليه هو ليس هنالك ذنب ـ من منظار القرآن ـ أخطر وأعظم من الفتنة في الدين، إنّ أعظم ذنب هو، أن ينبري أناس وبعد معرفتهم للحق وأحكام الدين ومعارفه إلى صدّ الناس عن التعرّف عليها والعمل بها.

إنّ ما نلفت انتباه الجميع إليه في الختام، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفّقنا إليه، هو هذا الكلام النفيس للرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم حيث يقول: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا"٢ فاعملوا على تقيم أنفسكم وعقائدكم وأفكاركم وأعمالكم، وحاكموا أنفسكم في محكمة الضمير، وعودوا إلى أحضان القرآن ودين الحق قبل فوات فرصة التوبة والعودة إلى الله، وخلّصوا أنفسكم من مصيدة الشيطان والنفس الأمارة، واتقوا سوء العاقبة والمصير الأسود.

نختتم حديثنا بتحذير القرآن الكريم بهذا الصدد حيث يقول: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون3.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يهدي الجميع إلى طريق الحق والهداية.

والسلام على مَن اتبع الهدى .


* تجلي القرآن في نهج البلاغة - مؤلف: آية الله محمد تقي مصباح اليزدي



1- الفرقان: ٤٤.
2- بحار الأنوار: ج٧٠، ص٧٣.
3- الروم: ١٠.

2016-06-22