التعددية الدينية أو إنكار الدين في إطار القراءات المتعددة
الفصل الثاني
يبدو أنّ ما يُعرف اليوم في مجتمعنا باسم القراءات المتعددة للدين ناشئ عن رؤية الفريق الثاني، ورغم أنّ العنوان المذكور يردّده المثقفون المسلمون في ظاهرهم،
عدد الزوار: 174
يبدو أنّ ما يُعرف اليوم في مجتمعنا باسم القراءات المتعددة للدين ناشئ عن رؤية
الفريق الثاني، ورغم أنّ العنوان المذكور يردّده المثقفون المسلمون في ظاهرهم، لكن
ينبغي البحث عن أساس فكرة القراءات المتعددة للدين في نظرية محورية الإنسان، فكما
تقدمت الإشارة أنّ الفكر الآنف الذكر يعتبر التعاليم الدينية وأحكام الكتب السماوية
عديمة المعنى، ويؤمن بأنّ القرآن وأي نص ديني آخر ساكتٌ ولا ينطوي على معنىً
ومفهوم، بل نحن البشر الذين ننسب فهمنا وقراءتنا للدين والقرآن من خلال مخزوننا
الذهني، وإلاّ فإنّ القرآن لا يحمل رسالة ولا يبيّن أي حقيقة.
ربّما يكون مفيداً إيراد مثال لبيان ماهية الفكر المذكور، والاطلاع على معنى قول
أتباعه في أنّ الدين ساكت، وإمكانية حصول قراءات متعددة له.
الظاهر أنّ الجميع على معرفة تقريباً بديوان حافظ وشعره والقصائد الغزلية لهذا
الشاعر الكبير والعارف الجليل، فالقراءات المتعددة لديوان حافظ وأشعاره تعني أنّ
منشد هذه الأبيات لم يقصد أي معنىً ومراداً في العبارات والكلمات التي استخدمها في
أبياته، وإنّما هي مجرد ألفاظ وكلمات صاغها بشكل موزون، ووضعها إلى جانب بعضها
البعض دون أن تفيد معنىً، وقد نظّمها كقوالب فارغة وِفق وزنٍ رائعٍ جداً وممتع، أي
أنّ الشاعر قد أنشدها دون أن يتبادر إلى ذهنه أي معنىً أو هدف أو غاية.
استناداً لنظرية القراءات المتعددة يقال إنّ شعر حافظ وأبياته الغزلية تفتقد
المعنى، وكل مَن يفتح ديوان حافظ متفائلاً على خلفية نية ومراد معيّنين، يستنبط من
أوّل بيت أو مجموعة أبيات غزلية منه أمراً في ضوء نيته، فالذي لديه مريض مثلاً
ويتمنى شفاءه يتفاءل به ويستوحي شفاء مريضه من أحد الأبيات، والآخر الذي في ذمته
دينٌ يستوحي من نفس الأبيات أداء دينه، وثالث يتمنى عودة مسافرٍ فيستشف من ذلك
البيت البشرى بعودة غائبه، وعلى نحو الإجمال أنّ لكل إنسان فهمه من هذه الألفاظ بما
يتطابق مع خليفته الذهنية.
وفي الحقيقة أنّ هنالك أُناساً يستنطقون ديوان حافظ وكل منهم يلقي أفكاره على لسان
حافظ، فيجري تصور كافة التفاسير والتوجيهات والاستنباطات على أنّها صحيحة، لأنّ
الاستنباطات المذكورة نابعة من الأفراد أنفسهم، وأنّ الألفاظ والكلمات وأبيات الشعر
والغزل ـ استناداً لهذا الافتراض ـ تفتقد المعنى.
إنّ الفكرة التي يُروّج لها اليوم في أوساط المجتمع تحت عنوان (القراءات المتعددة
للدين) هي على هذه الشاكلة، إنّها فكرة تعتبر القرآن وكل نص ديني آخر خالياً من
المعنى وفارغاً من كل بلاغة ورسالة، وإنّ أنصار هذه الفكرة يتصورون أنّ القرآن لا
يتحدث عمّا يجب فعله أو ما يجب تجنّبه، وما هو حق وصحيح وما هو باطل وخطأ، بل الناس
هم الذين يستوحون منه معنىً معيّناً من قبيل الحق والباطل والصحيح والخطأ في ضوء
خزينهم الذهني، وبما أنّ هذه الأمور منبثقة عن عقول الأفراد فبالإمكان اعتبارها
صحيحةً بأجمعها، بل لا معنى على نحو الإجمال للحكم في صحتها أو سقمها، فعلى سبيل
المثال أنّ جميع الاستنباطات المختلفة من آية واحدة تعد صحيحةً وإن تناقضت، كما لو
كان شخص يستنبط من بيت غزلي لحافظ شفاء مريضه، وآخر يستوحي منه البشرى بعودة غائبه،
وثالث يستوحي منه اليأس ويجلس منتظراً فقدان مريضه.
يقول أصحاب نظرية القراءات المتعددة للدين إنّ القرآن وأي نص ديني آخر هو على هذه
الشاكلة، وهؤلاء يعتقدون أنّه لا ينبغي للناس أن يتهموا بعضهم البعض بإساءة فهم
القرآن، ففهم القرآن لا يحتاج لأي اختصاص، إذ إنّ القرآن وغيره من النصوص الدينية
لا ينطوي على أية رسالة حتى يجري الحديث عن فهمه، فالمدار هو فهم الإنسان نفسه.
إنّ طرح هذه الفكرة يأتي ـ من وجهة نظرنا ـ لتحقيق أهداف سياسية، غير أنّه يجري
الترويج والتبليغ لها على أنّها نظرية في معرفة الدين، وتحت عنوان قراءة جديدة
للدين والصراط المستقيمة وما شابه ذلك.
إنّ فكرة التعددية الدينية التي تُطرح في إطار القراءات المتعددة للدين بعيدة كل
البعد عن المنطق والعقل، بحيث إنّ كل عاقل إذا ما ألقى نظرةً على جذور هذه الفكرة
ومردوداتها سيقتنع دون مواربة ببطلانها، ومن جهة أخرى نظراً للآثار المدمّرة لفكرة
التعددية الدينية في المجتمع فلا يمكن المرور عليها ببساطة.
يبدو أنّ من أدهى المصائد التي نصبها الشيطان ـ هذا العدو المتربص بالإنسان ـ منذ
خلق آدم عليه السلام وحتى الآن، لخداع عباد الله والموحدين مستعيناً بخبرته الممتدة
لعدة آلاف من السنين، هو الإيحاء بفكرة القراءات المتعددة للدين، وثمّة أناس هبّوا
لمؤازرة الشيطان تحت يافطة التنوّر الفكري منطلقين من هذه الفكرة الشيطانية، وقد
كرّسوا كافة قواهم لإعانته في هذا المجال، وقد كرّسوا عقولهم وأفكارهم وقدراتهم
الكلامية والكتابية تحت تصرّف الشيطان، وجعلوا من أنفسهم أداةً لإغواء الناس.
بناءً على هذا لو أردنا الحديث بعبارة موجزة وواضحة عن ماهية فكرة التعددية في
المعرفة الدينية، التي تُطرح تحت عناوين من قبيل القراءات المتعددة للدين، أو
الصُرط المستقيمة، أو دين الأكثرية ودين الأقلية... الخ فحريٌّ بنا القول إنّ
الفكرة المذكورة عبارة عن فكرة تتصور الدين والقرآن وكل نص ديني آخر فاقداً للحقائق
الثابتة، وترى انتفاء الحق والباطل والصحيح والخطأ فيه، إنّ الدين لدى أصحاب هذه
الفكرة مجموعة من الآراء المتباينة والمتناقضة، أحياناً يستفيد الناس منها أثناء
الرجوع إلى النصوص الدينية دون أن ينطق القرآن أو النص الديني بشيء. وأصحاب هذه
الفكرة يتصورون القرآن ـ والعياذ بالله ـ كتاباً قصصياً يثير لدى الإنسان أَوهاماً
مختلفة، وكل إنسان يتخيل منه أمراً في ضوء خزينه الذهني فيستنبطه، ويظهر قراءته
للدين والقرآن وينسبها إلى الله.
ونحن نؤكد هنا بأنّ علينا أن نفكر أكثر بشأن حقيقة معنى القراءات المتعددة للدين
وحقيقة الصُرط المستقيمة، ونتمعّن في الآثار والمردودات المدمرة لهذا الفكر
الإلحادي، كي ندرك أغراض أصحاب هذه المصيدة الشيطانية والمخطّطين لها، ونطّلع على
عمق تحركهم.
على أية حال عندما نقارن التوجه المذكور مع توجه الطائفة الأُولى، نجد أنّ روح
التوجه لدى الطائفة الأُولى هي روح محورية الله والعبودية والتسليم في مقابل الله
سبحانه وتعالى، والروح الثانية هي روح محورية الإنسان والتهرب من الله وتعاليمه،
وعلى نحو الإجمال أنّ العمل في التوجه الأَوّل يتركز على أن يتقبل الإنسان عبودية
الله عزّ وجل، فيما يتركز العمل في التوجه الثاني على أن يبتعد الإنسان عن عبودية
الله، ويطيش في الشهوات والنزوات الحيوانية، وهذا التوجه يجعل الأصالة لأهواء
الإنسان ورغباته، ويحاول تفسير الدين والقرآن لصالحهما.
لعلّ من الحِكم التي ينطوي عليها القرآن في عبارات من قبيل:
﴿تِلْكَ
آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ﴾1،
﴿بِلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾2،
﴿تِلْكَ
آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ﴾3،
﴿قَدْ
جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾4,
الوارد التأكيد فيها على جلاء القرآن ووضوحه وفصاحته، هي التصدي للأفكار المنحرفة
مثل تعدد القراءات، وأن لا تكون هنالك ذريعة بيد أحد من قبيل غموض وعدم مفهومية
المعنى والمراد في القرآن.
بناءً على هذا، إنّ القرآن كتاب هداية قد أبان الله سبحانه وتعالى فيه كافة الحقائق
الكفيلة بسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، والمسلمون مكلّفون بأن يعرفوا واجباتهم
الفردية والاجتماعية عبر التدبّر بالقرآن، وضمان فلاحهم باتّباعهم له، لكن مَن
الذين له الأهلية لفهم القرآن والعلوم الدينية ؟ هذا أمر سنتطرق لإيضاحه لاحقاً.
* تجلي القرأن في نهج البلاغة / العلامة محمد تقي مصباح اليزدي.
1- الحجر: 1.
2- الشعراء: 195.
3- النمل: 1.
4- المائدة: 15.