اختصاص تفسير القرآن
الفصل الثاني
بمعنى تفصيل الأحكام ـ بالنبي صلّى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام كما جرى إثباته وبيانه في موضعه أنّ أحد منازل النبي صلّى الله عليه وآله
عدد الزوار: 338
بمعنى تفصيل الأحكام ـ بالنبي صلّى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام
كما جرى إثباته وبيانه في موضعه أنّ أحد منازل النبي صلّى الله عليه وآله فيما عدا
شأن تلّقي الوحي وتبليغه، هو بيان الوحي وتفصيل الأحكام والتعاليم الإلهية، لقد نزل
القرآن الكريم بهيئة مجموعة من القوانين والأحكام الكلية على النبي صلّى الله عليه
وآله، ولم يتصدَ بنفسه لبيان وتفصيل الأحكام والجزئيات، وفيما عدا موارد معدودات
فقد أوكل مهمة تفصيلها وبيانها إلى النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم
السلام، فعلى سبيل المثال أنّ القرآن يأمر بالصلاة على نحو الإجمال ويطلب من
المسلمين أن يؤدوا الصلاة، ولكن ما هي الصلاة وكم عدد ركعاتها وكيفية أدائها ؟ وما
هي شروطها وتفاصيلها ؟ فهذا ممّا لم يجرِ بيانه في القرآن، وقد أُنيطت مهمة تفصيل
هذا الحكم الكلي وما شابهه بالنبي صلّى الله عليه وآله.
بناءً على هذا، فإنّ تفسير وبيان الأحكام الإلهية مناط بالنبي صلّى الله عليه وآله
ومن شؤونه صلّى الله عليه وآله. فالقرآن بدوره ينوّه إلى مسؤولية بيان الوحي ويعدها
من واجبات النبي صلّى الله عليه وآله:
﴿وَأَنزَلْنَا
إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ﴾1
وليس مستبعداً أن يكون المراد من التعليم في بعض الآيات ـ من قبيل الآية 164 من
سورة آل عمران، التي أوردت التعليم إلى جانب التلاوة ـ بيان منزلة وشأن النبي صلّى
الله عليه وآله وسلم في بيان وتفسير الوحي والقرآن.
إنّ النبي صلّى الله عليه وآله ـ في الحقيقة ـ عندما ينبري لمهمة إبلاغ الوحي فهو
يتحمّل واجبين مهمين، الأَوّل أن يقوم بتلاوة كلام الوحي وقراءته على الناس،
والثاني بيان وتفسير مقاصد الآيات ومضامينها لهم وتعريفهم بأحكام ومعارف القرآن.
يقول القرآن:
﴿لَقَدْ
مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ
يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمَهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾2
ففي هذه الآية والآيات المشابهة لها جرى بيان الوظيفة الأُولى أي قراءة الآيات من
خلال لفظ (يتلو)، واستخدم لفظ (تعليم) لبيان الوظيفة الثانية أي تفسير وبيان
المضامين والأحكام.
وبالنتيجة فإنّ بيان الوحي وشرح الأحكام الإلهية، وتفسير القرآن الكريم بالمعنى
المتقدم، ليس سوى عملٍ يدخل ضمن أهلية النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة المعصومين
عليهم السلام، لأنّهم وحدهم العارفون بالعلم اللدنّي والعلوم والمعارف الإلهية.
فَهْم علوم أهل البيت عليهم السلام مقدمة لفهم وتفسير القرآن
الآن وفي ضوء ما تقدم تتضح جيداً مهمة المفسّرين، فكما جرى بيانه أنّ بيان الوحي
وشرح الأحكام وتفسير الآيات القرآنية، إنّما تقع في الأصل على عاتق النبي صلّى الله
عليه وآله، وفي حدود مسؤوليته وهو صلّى الله عليه وآله قام بتعريف الناس بعلوم
القرآن على امتداد حياته المعطاءة ما أمكنه، وفي هذا الزمان فإنّ المفسّرين مكلّفون
أيضاً بالرجوع إلى الروايات والأحاديث الواردة في هذا المجال، عبر أسانيد صحيحة عن
الرسول صلّى الله عليه وآله، ومطالعة
الآيات ذات العلاقة والتدقيق بها على أساسها، وصياغة أفكارهم وآرائهم في إطار بيان
وتوضيح النبي صلّى الله عليه وآله، وأن يتمسكوا بالثقل الأصغر أي أهل البيت والأئمة
المعصومين (عليهم السلام) حيثما لم يتسنّ له صلّى الله عليه وآله بيان الثقل الأكبر
والقرآن الحكيم، وفي هذا المجال أيضاً فإنّ المتخصصين والعارفين بالعلوم والمعارف
الدينية مكلّفون بأن يجعلوا الروايات والأحاديث الصحيحة السند مرتكزهم ودليلهم في
فهم القرآن الكريم، وينبروا لفهم القرآن وتفسيره على أساس الروايات الصحيحة.
بناءً على هذا، إنّ أَوّل ملاك في الفهم الصحيح للقرآن وعلوم الدين، هو البيان
والإيضاح الوارد عن النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة المعصومين عليهم السلام،
وبالنتيجة فإنّ أوّل وأهم واجب على المفسّر هو فهم وبيان التفسير الوارد عن النبي
صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، ففي ظلال علوم أهل البيت عليهم السلام
فقط يمكن الوصول إلى فهم معارف القرآن.
تفسير القرآن بالقرآن
الأمر الثالث المهم جداً والضروري الانتباه إليه في الفهم الصحيح لكلام الوحي هو
تفسير القرآن بالقرآن، والتأمل بالترابط بين الآيات، فبالرغم من أنّ آيات القرآن
تبدو حسب الظاهر منفصلة فيما بينها، وأنّ كلاً منها أو أنّ كل مجموعة منها تبيّن
موضوعاً معيّناً، لكن الفهم الصائب والتفسير الصحيح إنّما يتيسر تحقّقه عندما يُنظر
إلى آيات القرآن على أنّها مترابطة فيما بينها، ويحاكي بعضها البعض، فالكثير من
آيات القرآن وعلوم هذا الكتاب الإلهي يفسّر بعضها البعض، وتشهد على صدق وصحة مضامين
بعضها البعض.
يقول علي عليه السلام بهذا الصدد: "كِتَابُ اللَّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ
وَتَنْطِقُونَ بِهِ وَتَسْمَعُونَ بِهِ، وَيَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَيَشْهَدُ
بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَلا يَخْتَلِفُ فِي اللَّهِ وَلا يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ
عَنِ اللَّهِ"3.
فالقرآن كتاب الله هو الذي يجعلكم تبصرون الحق وتنطقون به وتسمعونه، والقرآن كتاب
يفسّر بعضه بعضاً، ويشهد بعضه على البعض الآخر.
من موارد تفسير القرآن بالقرآن يمكن الإشارة على سبيل المثال إلى الآية 11 من سورة
الشورى:
﴿لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
والآية 10 من سورة الفتح:
﴿يَدُ
اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾.
إنّ
﴿لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾
من محكمات القرآن ومعناها واضح ومعلوم، فالآية تقول ليس مثل الله شيء والله سبحانه
وتعالى حقيقة لا مثيل لها، وفي الآية
﴿يَدُ
اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾
يقول تعالى إنّ يد الله تعلو كافة الأيادي، فرغم أنّ هذه الآية تنسب اليد لله لكن
الآية
﴿لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾
تنفي هذا المعنى الظاهري، وفي ضوئها نفهم أن ليس المراد من اليد معناها الظاهري، بل
ينبغي أن يكون المراد معاني كنائية من قبيل القدرة وما شابهها.
وعليه، إنّ تفسير وبيان الآية
﴿يَدُ
اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾
دون العودة إلى الآية
﴿لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾
خروج عن النهج الصحيح للتفسير، وربّما يطرأ خطأ وفي ضوء التفسير الخاطئ تقدّم صورة
خاطئة وجسمانية عن الله.
بناءً على هذا يجب أن نلتفت لدى تفسير القرآن إلى هذا الأمر، وهو أن ننظر إلى
الآيات المترابطة مع بعضها، ونحاول فهمها بالاستعانة بالقرآن نفسه.
الالتزام بأصول وقواعد الحوار العقلائي في فهم القرآن
الأمر الرابع الذي يتعيّن الاهتمام به في تفسير القرآن، هو الالتزام بأصول وقواعد
الحوار العقلائي في الفهم الصحيح للقرآن الكريم، لاسيما عندما لا يكون هنالك في
متناول اليد حديث صحيح، أو بيان واضح عن النبي صلّى الله عليه وآله، أو الأئمة
المعصومين عليهم السلام بشأن آية ما، فذلك ممّا يضاعف من ضرورة مراعاة مبادئ وقواعد
الجدال العقلائي في الفهم الصحيح لآيات القرآن، وفي هذا المقطع يبرز دور أعلام
الدين والمفسّرين والعارفين بعلوم أهل البيت، الذين افنوا عمرهم في فهم معارف
القرآن وعلوم أهل البيت، في الفهم الصحيح للقرآن وبيان معارف الدين، فهؤلاء وطبقاً
لأصول الحوار العقلائي هم الذين يميّزون عام القرآن عن خاصّه، ويشخّصون حدود معاني
كلّ منها، ويعرفون مطلقه من مقيّده، ويفسّرون الآيات ببعضها، ويشخّصون ترابط كل آية
بالآية الأخرى، ويراعون ذلك عند التفسير.
ملائمة فهم المفسّرين لقابلياتهم
الأمر الآخر الذي ينبغي أن يحظى بالعناية في هذا المجال لا يقتصر على فهم القرآن
ومعارف الدين، بل هو موضع قناعة من الجميع في سائر الفروع ومختلف الاختصاصات
العلمية، وهو وجود درجات للفهم وتناسبها مع القدرات العقلية ومقدار السعي والجهد
والدقة في الفهم الصحيح وتوضيح ذلك وهو:
من المسائل التي يفتي بها جميع الفقهاء تقريباً في الأبحاث الفقهية، ويعتبرونها
واجباً على المقلّد هي مسألة تقليد الأعلم، فعلى هذا الأساس يقال إنّ الفقاهة
والتخصّص في فرع الفقه واستنباط الأحكام ذات مراتب، وعلى كل مكلّف أن يقلّد الفقيه
الأعلم أي الأكثر فهماً ومهارةً من الآخرين في استنباط الأحكام، ومَن يتمتع بتفوق
في الفقاهة، وبطبيعة الحال أنّ سائر المراجع الذين ليسوا بمستوى ذلك الفقيه الأعلم
هم فقهاء ومجتهدون أيضاً لكنّهم يأتون في مراتب تالية.
لا يخفى أنّ فتوى الفقهاء في وجوب تقليد الأعلم نابعة من منهج عقلائي أيضاً، فهي
بالضبط كالرجوع إلى الطبيب المتخصص الذي له سنوات طويلة من الخُبرة في الطب، وأنّ
تفضيله على الذي نال لتوه ترخيصاً بالطب منهج عقلائي، والعمل خلافاً لهذا المنهج
عرضة للذم من قبل العقلاء.
إنّ فهم ومعرفة دقائق معارف القرآن لا يكون إلاّ في حدود قدرات المختصين والعارفين
بعلوم أهل البيت عليهم السلام، الذين أفنوا عمرهم في فهم القرآن والمعارف الدينية،
وفي ضوء مراتب فهم القرآن وتفسير هذا الكتاب السماوي فمن الطبيعي أنّ الأمور
والموضوعات المذكورة، كلما حظيت باهتمام ودقة أكثر كلما تضاءل احتمال الخطأ في
تفسير آيات الله، ونقترب أكثر من الفهم الصحيح لهذا الكتاب السماوي.
* تجلي القرأن في نهج البلاغة / العلامة محمد تقي مصباح اليزدي.
1- النحل: 44.
2- آل عمران: 164.
3- نهج البلاغة: الخطبة 133.