يتم التحميل...

وإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ

يونس عليه السلام

الحديث عن قصّة نبي الله "يونس" عليه السلام وقومه التائبين، والذي يلفت النظر أنّ القصص الخمس التي تحدّثت عن قوم (نوح) و (إبراهيم) و (موسى وهارون) و (الياس) و (لوط)

عدد الزوار: 152

﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَـهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِين * وَأَرْسَلْنَــهُ إِلَى مِائَةِ أَلْف أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَـهُمْ إِلَى حِين (الصافات: 139 - 148) .

يونس في بوتقة الإمتحان

الحديث عن قصّة نبي الله "يونس" عليه السلام وقومه التائبين، والذي يلفت النظر أنّ القصص الخمس التي تحدّثت عن قوم (نوح) و (إبراهيم) و (موسى وهارون) و (الياس) و (لوط) أشارت إلى أنّ تلك الأقوام لم تصغ لنصائح الأنبياء الذين بعثوا إليها وبقيت غارقة في نومها، فعمّها العذاب الإلهي، فيما أنقذ الله سبحانه وتعالى الأنبياء العظام الذين أرسلهم إلى تلك الأقوام مع القلّة القليلة ممّن اتّبعهم.

إلاّ أنّ قضيّة نبي الله يونس تنتهي أحداثها بشكل معاكس لما إنتهت إليه تلك القصص، إذ أنّ قوم يونس صحوا من غفلتهم وتابوا إلى الله فور مشاهدتهم دلائل العذاب الإلهي الذي سيحلّ لهم إن لم يؤمنوا، وأنّ الله شملهم بلطفه وأنزل عليهم بركاته الماديّة والمعنوية، وفي المقابل فإنّ نبي الله يونس إبتلي ببعض الإبتلاءات والمشاكل لأنّه تعجّل في ترك قومه وهجره إيّاهم، حتّى أنّ القرآن المجيد أطلق عليه كلمة (أبق) والتي تعني هرب العبد من مولاه .

وهذه القصّة بمثابة خطاب موجّه لمشركي قريش، وإلى كلّ البشر على طول التأريخ، جاء فيه: هل تريدون أن تكونوا كالأقوام الخمسة الماضية، أم كقوم يونس؟ وهل ترغبون في أن تكون عاقبتكم الشؤم والألم؟ أما ترغبون في أن تنتهي عواقبكم بخير وسعادة؟ اعلموا أنّ ذلك مرتبط بما تعزمون عليه.

على أيّة حال، فإن ذكر هذا النّبي العظيم وقصّته مع قومه، وردت في سور متعدّدة من سور القرآن المجيد (منها سورة الانبياء، ويونس، والقلم، وفي هذه السورة أي الصافات) وعكست كلّ واحدة منها جوانب من أوضاعه وحياته، وسورة "الصافات" هذه تسلّط الأضواء أكثر على قضيّة هرب يونس وإبتلاءه، ومن ثمّ نجاته من بطن الحوت.

في البداية، وكما تعوّدنا في القصص السابقة، فإنّ الحديث يكون عن مقام رسالته، إذ تقول الآية: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. نبي الله "يونس" عليه السلام كسائر الأنبياء العظام بدأ بالدعوة إلى توحيد الله ومجاهدة عبدة الأصنام، ومن ثمّ محاربة الأوضاع الفاسدة التي كانت منتشرة في مجتمعه آنذاك، إلاّ أنّ قومه المتعصّبين الذين كانوا يقلّدون أجدادهم الأوائل رفضوا الإستجابة لدعوته.

إستمرّ يونس عليه السلام بوعظ قومه بقلب حزين لأجلهم، مريداً لهم الخير وكأنّه أب رحيم لهم، في حين كانوا يواجهون منطقه الحكيم بالسفسطة والمغالطة، عدا مجموعة قليلة منهم، يحتمل أن لا تتعدّى الشخصين (أحدهما يسمّى بالعابد والثاني بالعالم) آمنت برسالته.

وبعد فترة طويلة من دعوته إيّاهم إلى عبادة الله وترك عبادة الأصنام، يئس يونس من هدايتهم، وكما جاء في بعض الروايات، فإنّ يونس عليه السلام قرّر طبقاً لإقتراح الرجل العابد، مع ملاحظة أوضاع وأحوال قومه الضالّين، قرّر الدعاء عليهم1. وبالفعل فقد دعا عليهم، فنزل عليه الوحي وحدّد له وقت حلول العذاب الإلهي بهم، ومع حلول موعد نزول العذاب، رحل يونس - بمعيّته الرجل العابد- عن قومه وهو غاضب عليهم، ووصل إلى ساحل البحر، وشاهد سفينة عند الساحل غاصّة بالركاب فطلب منهم السماح له بالصعود إليها.

وهذا ما أشارت إليه الآية التالية، حيث قالت: ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. كلمة "أبق" مشتقّة من (إباق) والتي تعني فرار العبد من سيّده، إنّها لعبارة عجيبة، إذ تبيّن أن ترك العمل بالاُولى من قبل الأنبياء العظام ذوي المقام الرفيع عند الله، مهما كان بسيطاً فإنّه يؤدّي إلى أن يتّخذ الباري عزّوجلّ موقفاً معاتباً ومؤنّباً للأنبياء، كإطلاق كلمة (الآبق) على نبيّه.

ومن دون أي شكّ فإنّ نبي الله يونس عليه السلام، معصوم عن الخطأ، ولكن كان الأجدر به أن يتحمّل آلاماً اُخرى من قومه، وأن يبقى معه حتّى اللحظات الأخيرة قبل نزول العذاب، عسى أن يستيقظوا من غفلتهم ويتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى.

حقّاً إنّه دعا قومه إلى توحيد الله أربعين عاماً - وفق ما ورد في بعض الروايات - ولكن كان من الأجدر به أن يضيف عدّة أيّام أو عدّة ساعات إلى ذلك الوقت ببقائه معهم، لذلك فعندما ترك قومه وهجرهم شبهه القرآن بالعبد الآبق.

* تفسير الأمثل / اية الله مكارم الشيرازي  -  تفسير سورة الصافات .


1- تفسير البرهان، المجلّد 4، صفحة 35.
 

2016-06-14