يتم التحميل...

فَنَبَذْنَـهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ

يونس عليه السلام

ويضيف القرآن انه قد ألقينا به في منطقة جرداء خالية من الأشجار والنباتا، وهو مريض حيث قال:

عدد الزوار: 188

ويضيف القرآن انه قد ألقينا به في منطقة جرداء خالية من الأشجار والنباتا، وهو مريض حيث قال: ﴿فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ (الصافات: 145).

فالحوت الضخم لفظ يونس - الذي لم يكن غذاءً صالحاً لذلك الحوت - على ساحل خال من الزرع والنبات، والواضح أنّ ذلك السجن العجيب أثر على سلامة وصحّة جسم يونس، إذ أنّه تحرّر من هذا السجن وهو منهار ومعتل.

إنّنا لا نعلم كم أمضى يونس من الوقت في بطن الحوت، فمن المسلّم به أنّه لا يمكن تجنّب المؤثّرات هناك مهما كانت الفترة الزمنية التي قضاها في بطن الحوت، صحيح أنّ الأمر الإلهي كان قد صدر في أن لا يهضم يونس داخل بطن الحوت، ولكن هذا لا يعني أن لا يتأثّر بعض الشيء بمؤثّرات ذلك السجن، لذا فقد كتب بعض المفسّرون أنّ يونس خرج من بطن الحوت وكأنّه فرخ دجاجة ضعيف وهزيل جدّاً لا يمتلك القدرة على الحركة.

مرّة اُخرى شمله اللطف الإلهي، لأنّ جمسه كان مريضاً ومتعباً، وكلّ عضو من أعضاء جسمه كان مرهقاً وعاجزاً، وكانت حرارة الشمس تؤذيه، فيحتاج إلى ظلّ لطيف يظلّل جسده. والقرآن هنا يكشف عن هذا اللطف الإلهي بالقول، إنّنا أنبتنا عليه شجرة قرع ليستظلّ بأوراقها العريضة والرطبة ﴿وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ.

(اليقطين) تعني- كما قال أصحاب اللغة والتّفسير- كلّ نبات لا ساق له وله أوراق كبيرة، مثل نبات البطّيخ والقرع والخيار وما يشابهها. ولكن الكثير من المفسّرين ورواة الحديث أعلنوا بأنّ المقصود من (اليقطين) هو (القرع)، والذي يجب الإلتفات إليه أنّ كلمة "الشجرة" في اللغة العربية تطلق على النباتات التي لها ساق وأغصان والتي ليس لها ساق وأغصان، وبعبارة اُخرى: تشمل كلّ الأشجار والنباتات، ونقلوا حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قالوا فيه: إنّ شخصاً سأل رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: إنّك تحبّ القرع؟ فأجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أجل هي شجرة أخي يونس"1.

وقيل: إنّ أوراق شجرة القرع، إضافةً إلى أنّها كانت كبيرة ورطبة جدّاً ويمكن الإستفادة منها كظلّ جيّد، فإنّ الذباب لا يتجمّع حول هذه الأوراق، ولهذا فإنّ يونس عليه السلام التصق بتلك الأوراق كي يرتاح من حرقة الشمس ومن الحشرات في نفس الوقت، إذ أنّ بقاءه في داخل بطن الحوت أدّى إلى أن يصبح جلده رقيقاً جدّاً وحسّاساً، بحيث يتألّم إن استقرّت عليه حشرة.

ويحتمل أنّ الباري عزّوجلّ يريد من هذه المرحلة إكمال الدرس الذي أعطاه ليونس في بطن الحوت، إذ كان عليه أن يحسّ بتأثير حرارة الشمس على جلده الرقيق، كي يبذل جهداً وسعياً أكثر- عندما يتسلّم القيادة في المستقبل- لإنقاذ اُمّته من نار جهنّم، وقد ورد هذا المضمون في روايات متعدّدة2.
قوم يونس
نترك الحديث عن يونس ونعود إلى قومه، فبعد أن ترك يونس قومه وهو غضبان، ظهرت لقومه دلائل تبيّن لهم قرب موعد الغضب الإلهي، هذه الدلائل هزّت عقولهم بقوّة وأعادتهم إلى رشدهم، ودفعتهم إلى اللجوء للشخص (العالم) الذي كان آمن بيونس وما زال موجوداً في المدينة، واتّخاذه قائداً لهم ليرشدهم إلى طريق التوبة.

وورد في روايات اُخرى أنّهم خرجوا إلى الصحراء، وفرّقوا بين المرأة وطفلها، وحتّى بين الحيوانات وأطفالها، وجلسوا يبكون وينتحبون بأعلى أصواتهم، داعين الله سبحانه وتعالى بإخلاص أن يتقبّل توبتهم ويغفر ذنوبهم وتقصيرهم بعدم اتّباعهم نبي الله يونس.

وهنا أزاح الله عنهم سُحُب العذاب وأنزلها على الجبال، وهكذا نجا قوم يونس التائبون المؤمنون بلطف الله3.

بعد هذا عاد يونس إلى قومه ليرى ماذا صنع بهم العذاب الإلهي؟ ولكن ما إن عاد إلى قومه حتّى فوجىء بأمر أثار عنده الدهشة والعجب، وهو أنّه ترك قومه في ذلك اليوم يعبدون الأصنام، وهم اليوم يوحّدون الله سبحانه.

القرآن يقول هنا: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ كانوا قد آمنوا بالله، واُغدقت عليهم النعم الإلهية المادية والمعنوية لمدّة معيّنة،﴿فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ.

وبالطبع فإنّهم بعد توبتهم كانوا يتمتّعون بإيمان بسيط، وقد إزداد بعد عودة يونس إليهم، أي إزداد إيمانهم بالله وبرسوله يونس، وأخذوا ينفّذون تعليماته وأوامره.

ويتبيّن من آيات القرآن الكريم أنّ يونس عليه السلام بعث من جديد إلى قومه السابقين، أمّا الذين قالوا: إنّه بعث إلى قوم آخرين، فقولهم لا يتناسب مع ظاهر الآيات.

لأنّنا نقرأ من جهة قوله تعالى: ﴿فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ يعني أنّ القوم الذين بعثنا إليهم يونس كانوا قوماً مؤمنين، وأنّنا قد أغدقنا عليهم النعم لمدّة محدودة. ومن جهة اُخرى، فقد ورد نفس هذا التعبير في سورة يونس بشأن قومه السابقين، وذلك في الآية (98) ﴿فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍٍ. ومن هنا يتّضح أنّ المراد من ﴿إِلَى حِينٍ هو لفترة معيّنة، أي إلى نهاية حياتهم وحلول أجلهم الطبيعي.

سؤال يطرح نفسه

لماذا قالت الآية المذكورة أعلاه: ﴿مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ؟ وما المقصود من يزيدون أي عدد بعد المئة ألف؟ المفسّرون أعطوا تفسيرات مختلفة لها، ولكن الظاهر أنّ مثل هذه العبارات تأتي لتأكيد شيء ما، وإعطائه هالة من العظمة، وليس لخلق حالة من الترديد والشكّ4.


* تفسير الأمثل / اية الله مكارم الشيرازي - تفسير سورة الصافات.


1- روح المعاني، المجلّد 7، الصفحة 489.
2- تفسير نور الثقلين، المجلّد 4، الصفحة 436، الحديث 116.
3- نقل صاحب تفسير البرهان، وفي المجلّد 4، الصفحة 35 هذا الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام.
4- لهذا فإنّ (أو) هنا تأتي بمعنى، (بل).

2016-06-14