الإِنسان خليفة الله في الأرض
آدم عليه السلام في القرآن
الآيات السابقة ذكرت أن الله سبحانه خلق ما في الأرض جميعاً للإِنسان، وفي هذه الآيات تقرير صريح لخلافة الإِنسان وقيادته، وتوضيح لمكانته المعنوية التي استحق بها كل هذه المواهب.
عدد الزوار: 257
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـئِكَةِ إِنّى جَاعِلٌ فِى الاْرْضِ خَلِيفَةً
قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمآءَ وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
* وَعَلَّمَ ءَادَمَ الاْسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَـئِكَةِ
فَقَالَ أَنبِئُونِى بِأَسْمَآءِ هَـؤُلاَ ءِ إِن كُنْتُمْ صَـدِقِينَ * قَالُواْ
سُبْحَـنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ * قَالَ يَــادَمُ أَنْبِئْهُمِ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم
بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَـوَ تِ
وَالاْرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ.سورة البقرة
الآيات السابقة ذكرت أن الله سبحانه خلق ما في الأرض جميعاً للإِنسان، وفي هذه
الآيات تقرير صريح لخلافة الإِنسان وقيادته، وتوضيح لمكانته المعنوية التي استحق
بها كل هذه المواهب.
في هذه الآيات عرض لخلقة آدم (أبوالبشر)، وفي الآيات 30 إلى 39 تركيز على ثلاث
مسائل أساسية هي:
1 ـ إخبار الله ملائكته بشأن خلافة الإِنسان في الأرض، وما دار في المشهد من
حوار.
2 ـ أمر الله تعالى ملائكته بإكرام وتعظيم الإِنسان الأول، وهذا ما نجده في مواضع
عديدة من القرآن الكريم بمناسبات مختلفة.
3 ـ شرح وضع آدم وحياته في الجنّة، والحوادث التي أدت إلى خروجه من الفردوس، ثم
توبة آدم، وحياته هو وذريته في الأرض.
الآيات المذكورة تتحدث عن المرحلة الاُولى، حين شاء الله أن يخلق على ظهر الأرض
موجوداً، يكون فيها خليفته، ويحمل أشعة من صفاته، وتسمو مكانته على مكانة الملائكة،
وشاء سبحانه أن تكون الأرض ونعمها وما فيها من كنوز ومعادن وإمكانات تحت تصرف هذا
الإِنسان.
مثل هذا الموجود بحاجة إلى قسط وافر من العقل والشعور والإِدراك والكفاءة الخاصة،
كي يستطيع أن يتولى قيادة الموجودات الأرضية.
وبهذه المناسبة تقول الآية الاُولى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي
جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، والخليفة هو النائب عن الغير. أما هذا الغير الذي
ينوب الإِنسان عنه فاختلفت فيه أقوال المفسرين ... .
منهم من قال إنه خليفة الملائكة الذين كانوا يسكنون من قبل على ظهر الأرض. ومنهم من
قال إنه خليفة بشر آخرين أو موجودات اُخرى كانت تعيش قبل ذلك على الأرض.
وذهب بعضهم إلى أن الخليفة إشارة إلى أن كل جيل من البشر يخلف الجيل السابق.
والحق أن المقصود بالخليفة هو خليفة الله ونائبه على ظهر الأرض، كما ذهب إلى ذلك
كثير من المحققين. لأن سؤال الملائكة بشأن هذا الموجود الذي قد يفسد في الأرض ويسفك
الدماء يتناسب مع هذا المعنى، لأن نيابة الله في الأرض لا تتناسب مع الفساد وسفك
الدماء.
مسألة «تعليم الأسماء» لآدم التي سيأتي شرحها، وهكذا سجود الملائكة لآدم من أدلة ما
ذهبنا إليه في تفسير معنى الخليفة.
الإمام جعفر بن محمّد الصّادق(عليه السلام) يشير أيضاً إلى هذا المعنى في تفسير هذه
الآيات إذ يقول: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَّمَ آدَمَ أَسْمَاءَ حُجَجِهِ
كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ وَهُمْ أرْواحٌ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ
أَنْبِؤُنِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بِأَنَّكُمْ أَحَقُّ
بِالْخِلاَفَةِ فِي الأَرْضِ لِتَسبِيحِكُمْ وَتَقْديسِكُمْ مِنْ آدَمَ فَقَالُوا
سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ
بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَئَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَقَفُوا عَلَى عَظِيمِ
مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَ اللهِ عَزِّ ذِكْرُهُ فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِأَنْ
يَكُونوا خُلَفَاءَ اللهِ في أرْضِهِ وَحُجَجَهِ عَلى بَرِيَّتِهِ ثُمَّ
غَيَّبَهُمْ عَنْ أَبْصَارِهِمْ وَاسْتَعْبَدَهُمْ بِوِلاَيَتِهِمْ وَمَحبَّتِهِمْ
وَقَالَ لَهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ
وَأَعْلَمُ مَا تُبْدونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ».
ثم تذكر الآية سؤال الملائكة الذي وجّهوه لربّ العالمين مستفسرين لا معترضين:
(قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ
نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)؟
الله سبحانه أجاب الملائكة جواباً مغلقاً اتضح في المراحل التالية: (قَالَ إِنّي
أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلمُونَ).
الملائكة كانوا عالمين ـ كما يبدو من تساؤلهم ـ أن هذا الإنسان موجود يفسد في الأرض
ويسفك الدماء، فكيف عرفوا ذلك؟!
قيل إن الله سبحانه أوضح للملائكة من قبل على وجه الإِجمال مستقبل الإِنسان، وقيل
إن الملائكة فهموا ذلك من خلال عبارة «في الأرض»، لأنهم علموا أن هذا الإِنسان يخلق
من التراب، والمادة لمحدوديتها هي حتماً مركز
للتنافس والنزاع. وهذا العالم المحدود المادي لا يستطيع أن يشبع طبيعة الحرص في
الإنسان. وهذه الدنيا لو وضعت بأجمعها في فم الإنسان فقد لا تشبعه. وهذا الوضع ـ إن
لم يقترن بالإِلتزام والشعور بالمسؤولية ـ يؤدي إلى الفساد وسفك الدماء.
بعض المفسرين ذهب إلى أنّ تنبؤ الملائكة يعود إلى تجربتهم السابقة مع مخلوقات سبقت
آدم، وهذه المخلوقات تنازعت وسفكت الدماء وخلفت في الملائكة انطباعاً مرّاً عن
موجودات الارض.
هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض مع بعضها. وقد يكون موقف الملائكة من استخلاف آدم
ناشئاً عن هذه الأسباب الثلاثة معاً.
الملائكة بيّنوا حقيقة من الحقائق. ولذلك لم ينكر الله عليهم قولهم، بل أشار إلى أن
ثمة حقائق اُخرى إلى جانب هذه الحقيقة، حقائق ترتبط بمكانة الإنسان في الوجود; وهذا
ما لم تعرفه الملائكة.
الملائكة يعلمون أن الهدف من الخلقة هو العبودية والطاعة، وكانوا يرون في أنفسهم
مصداقاً كاملا لذلك، فهم في العبادة غارقون. ولذلك فهم ـ أكثر من غيرهم ـ للخلافة
لائقون، غير عالمين أن بين عبادة الإنسان المليء بألوان الشهوات، والمحاط بأشكال
الوساوس الشيطانية والمغريات الدنيوية وبين عبادتهم، ـ وهم خالون من كل هذه
المؤثرات ـ بون شاسع. فأين عبادة هذا الموجود الغارق وسط الأمواج العاتية، من عبادة
تلك الموجودات التي تعيش على ساحل آمن؟!