(1): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾: جمع عقد، وهو في
اللغة الربط، وفي اصطلاح الفقهاء: ارتباط إيجاب بالقبول على وجه مشروط، يثبت أثره
في محله بمقتضى طبيعته ﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ﴾: والبهيمة: ذات
أربع من ذوات البر والبحر، والانعام: الإبل والبقر والغنم، وهذه الأصناف الثلاثة
حلال ولا يحرم منها ﴿إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾: وقد تلا سبحانه علينا في
الآية 173 من البقرة: (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل به لغير
الله) وأيضًا يتلو علينا من المحرمات قوله سبحانه: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ
وَأَنتُمْ حُرُمٌ﴾: أي محرمون في مكة المكرمة، والمعنى أن كل ما يصطاده المحرم فلا
يحل أكله سواء أكان من الأنعام أم من غيرها.
(2): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ﴾: وهي
أحكام دينه، ومن أظهرها وأكملها مناسك الحج والعمرة﴿وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾:
رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ﴿وَلاَ الْهَدْيَ﴾: ما يهدي إلى البيت الحرام من
الأنعام ﴿وَلاَ الْقَلآئِدَ﴾: ما يقلد به الهدي من نعل وغيره لكي يعرف لكي يعرف فلا
يتعرض له أحد ﴿وَلا آمِّينَ﴾: ولا قاصدين ﴿الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾: لا تتعرضوا لأحد
منهم بسوء حتى ولو قاصدًا للتجارة وما أشبه ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ
وَرِضْوَانً﴾: وكل ما لم يرد فيه نهي من الله فهو فضل منه تعالى ورضوان له.
﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ﴾: من إحرامكم ﴿فَاصْطَادُو﴾: إن شئتم، ولكن في غير أرض الحرم
﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾: يحملنكم ﴿شَنَآنُ﴾: كراهية ﴿قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾: يشير سبحانه بهذا إلى ما حدث للنبيّ (ص) والصحابة سنة ست
للهجرة، مع المشركين يوم الحديبية، وتأتي القصة في سورة الفتح ﴿أَن تَعْتَدُو﴾:
لا تحملنكم عداوة المشركين على الإعتداء عليهم ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ
وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾: وموضوع هذه الآية
التكافل الإجتماعي، وإن القوي مسؤول عن الضعيف، والغني عن الفقير.، والعالم عن
الجاهل، وأولي الشأن عن إصلاح ذات البين.
(3): ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ﴾: هذه المحرمات الأربعة تقدمت في الآية 173 من البقرة
﴿وَالْمُنْخَنِقَةُ﴾: التي تموت خنقًا ﴿وَالْمَوْقُوذَةُ﴾: والمضروبة بعصا أو حجر
أو ما أشبه﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾: الساقطة إلى أسفل ﴿وَالنَّطِيحَةُ﴾: نطحتها بهيمة
أخرى ﴿وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ﴾: أي ما تبقى من فريسة الحيوان أسدًا كان أم ثعلبًا
أو غيرهما. ثم استثنى سبحانه من الخمسة الأخيرة ما ندركه حيًا، فإنه يحل لنا بالذبح
الشرعي، وإليه أشار سبحانه بقوله ﴿إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾: وتأتي الإشارة إلى كلب
الصيد ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾: عطف على المحرمات، والنصب أحجار نصبها أهل
الجاهلية حول البيت الحرام، ويذبحون لها، ويشرحون عليه اللحم، ويغطونها به ﴿وَأَن
تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ﴾: جمع زلم بضم الزاي وفتحها، والزلم قطعة من خشب على
هيئة السهم، وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم أن يقدم على أمر كتب على الزلم أمرني
ربي، وعلى ثان نهاني ربي، وأهمل الكتابة على الثالث، ثم يقترع ﴿ذَلِكُمْ فِسْقٌ﴾:
حرام محرم، والإشارة تشمل الجميع﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن
دِينِكُمْ﴾: أي الآن وبعد أن أعز الله سلطان المسلمين فقد يئس الأعداء من زوال
الإسلام أو تحريفه لأن قوة الدين من قوة أهله، ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ﴾: لأنكم أقوى
منهم ﴿وَاخْشَوْنِ﴾: وإلا نزعت منكم السلطان، وسلطت عليكم أعداءكم، كما هو شأن
المسلمين في العصر الراهن ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينً﴾: اتفق المسلمون بشتى
فرقهم ومذاهبهم على أن هذه الآية دون سائر آيات المائدة نزلت في مكة السنة العاشرة
للهجرة التي حج فيها رسول الله (ص) حجة الوداع وأنه لما رجع إلى المدينة وبلغ في
طريقه إليها غدير خم. جمع الناس، وخطب فيهم خطبته الشهيرة التي ذكر فيها علي بن أبي
طالب من دون الصحابة وأمر المسلمين بموالاته، وللشيعة كلام طويل حول ولاية علي
وخلافته والنص عليها كتابًا وسنة علمًا بأن سيرة علي وخلاله الطبيعية الجلى هي التي
تنص عليه بالذات ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ﴾: إلى شيء من المحرمات المنصوص عليها ﴿فِي
مَخْمَصَةٍ﴾: مجاعة ﴿غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ﴾: منحرف إلى البغي ومتعد حدود
الله ﴿فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: أي يسوغ للمضطر أن يتناول من المحرمات
بمقدار الضرورة لأنها تقدر بقدرها، والزائد حرام.
(4): ﴿يَسْأَلُونَكَ﴾: يا محمد ﴿مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ﴾: من المآكل والمشارب ﴿قُلْ
أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾: وهي غير المنصوص على تحريمها، ومن المبادئ الأساسية
للشريعة الإسلامية هذا المبدأ: كل شيء لك حلال حتى يثبت أنه حرام ﴿وَمَا عَلَّمْتُم
مِّنَ الْجَوَارِحِ﴾: عطف على الطيبات، والمراد بالجوارح هنا الكلاب فقط دون
البازات ونحوها بدليل قوله تعالى: ﴿مُكَلِّبِينَ﴾: مشتق من كلبت الكلب أي علمته
الصيد ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ﴾: وفي العصر الحديث أساتذة
وكتب علمية في عملية التعلم عند الحيوان وتدريبه على سلوك خاص، والكلب المعلم على
الصيد هو الذي إذا أمره صاحبه يأتمر، وإذا نهاه ينتهي، وتفصيل الشروط لتحليل ما
يصطاده الكلب في كتب الفقه الإسلامي ﴿فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾:
ضمير أمسكن للكلاب وعليكم أي أن الكلاب أوالجوارح تحوز الصيد لكم لا لأنفسها، هذا
إذا أدركت الصيد حيًا ومات بسبب الإمساك ولو أدركته ميتًا لم يحل ﴿وَاذْكُرُواْ
اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ﴾: ويشترط أيضًا للتحليل أن يسمى الصائد عند إرسال الكلب إلى
الصيد فيقول اذهب على اسم الله وما أشبه. ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ﴾: لا تقربوا شيئًا
مما نهاكم عنه.
(5): ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ
الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ﴾: قال الشيخ علي ابن الحسين
بن محيي الدين العاملي في (الوجيز في تفسير القرآن العزيز) وهو يفسر هذه الآية – ما
نصه بالحرف الواحد: (ظاهره) يعم ذبائحهم وغيرها وعليه فقهاء الجمهور وجماعته منا –
أي من الشيعة – ويعضده أخبار) ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ﴾: أي ولكم أن
تتزوجوا بالعفيفات من المسلمات، أيضً﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ
الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ﴾: وهذه الدلالة واضحة في إباحة زواج المسلم بالنصرانية
واليهودية حربية كانت أو غير حربية دوامً وانقطاعًا ﴿إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ﴾: مهورهن الثابتة لهن بالزواج الشرعي لا أُجورهن على الزنا
﴿مُحْصِنِينَ﴾: تنكحوهن وأنتم في حصن حصين من العفاف والدين ﴿غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾:
غير زانيين ﴿وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ﴾: جمع خدن، وهو الصديق أي لا تقربوهن سرًا
ولا علنًا إلا على كتاب الله وسنة نبيه ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ﴾: بأحكام الله
سبحانه ﴿فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ﴾: أي بطل (وقدمنا إلى ما عملوا فجعلناه هباء
منثورا22 الفرقان.
(6): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلوةِ﴾: هذه الآية
تحدد أعضاء الوضوء وصورته غسلاً ومسحًا واتفقت المذاهب الإسلامية قولاً واحدًا على
أن أعضاء الوضوء أربعة: الوجه واليدان والرأس والرجلان، واختلفوا في صورة الوضوء
فقال الشيعة: هي غسلتان للوجه واليدين ومسحتان للرأس والرجلين. وقال السنة: هي ثلاث
غسلات للوجه واليدين والرجلين، ومسحة الرأس، ومعنى هذا أن الخلاف في الرجلين فقط
مسحًا عند الشيعة وغسلاً عند السنة، وأنه لا خلاف في غسل الوجه واليدين ولا في مسح
الرأس كمبدأ أو فكرة، ودليل الجميع قوله تعالى: ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾: بالإتفاق، ولا
خلاف إطلاقًا في أصل الغسل للوجه واليدين ولا في المسح للرأس كما أشرنا
﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾: وهنا محل الخلاف، ومصدره أن الأرجل قرئت
بالنصب وبالخفض، فقال السنة يجب غسل الأرجل على القرائتين، أما على النصب فلعطف
الأرجل على الأيدي المنصوبة لفظًا ومحلاً، وأما على الخفض فلمجاوزة الأرجل للرؤوس
المجرورة تمامًا كقول العرب: (حجر ضب خرب). وقال الشيعة يجب مسح الرجلين على
القرائتين، أما على الخفض فلعطف الأرجل على الرؤوس المجرورة بالباء، وأما على
النصب، فللعطف أيضًا على الرؤوس محلاً لا لفظًا، لأن كل مجرور لفظًا منصوب محلاً
﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُو﴾: بالاغتسال ﴿وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ
عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ
النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ﴾: تقدم بالحرف في الآية 43 من النساء ﴿مَا
يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾: استنتج جميع فقهاء الإسلام من
هذه الآية قاعدة كلية، واعتبروها ركنًا من أركان الشريعة الإسلامية، ويسميها فقهاء
الشيعة قاعدة نفي الحرج وفقهاء السنة قاعدة التيسير، ومعناها ما شرع الله حكمًا
لعباده، فيه شائبة الضيق والمشقة عليهم فضلاً عن الضرر والإضرار ﴿وَلَكِن يُرِيدُ
لِيُطَهَّرَكُمْ﴾: أبداً، كل أحكام الله سبحانه هي وسيلة لطهارة الأخلاق، وصالح
الأعمال، وإخلاص النوايا والمقاصد ... حتى الإيمان بالله إيمان بالعدل والرحمة
والإنسانية، والإيمان بالنشر والحشر إيمان بأن عاقبة الغادر الفاجر عذاب النار وسوء
الدار، والإيمان برسالة محمد (ص) إيمان بالعلم والإنسان والأخلاق والأديان التي جاء
بها إبراهيم وموسى وعيسى.
(7): ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم
بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَ﴾: والخطاب في واثقكم وضمير المتكلم في
سمعنا وأطعنا هما لكل مسلم قال ويقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهذا القول
هو بذاته ودلالته العهد والميثاق المسلم لله بأنه لا يعبد ولا يستعين بسواه، ومعنى
هذا أن أي مسلم يعصي الله في أمر أو نهي فقد نقض عهد الله وميثاقه، وأكذب نفسه
بنفسه.
(8): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء
بِالْقِسْطِ﴾: تقدم هذا النداء منه تعالى للمؤمنين، في 135 من سورة النساء، والقصد
من التكرار هو الحث والتأكيد على أن نكون أقوياء في جانب الحق والعدل لا ضعفاء
مهزولين، نلتمس المبررات والمعاذير لجبننا وتخاذلنا، قد دلتنا المشاهدة وكتب
التاريخ أن الإيمان الراسخ لا يقف في وجهه أي حاجز وأن الشهداء هم شهداء الإيمان
والعقيدة ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾: لا يحملنكم البغض لأعدائكم
المشركين وغيرهم ﴿عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُو﴾: على أن تظلموا الأعداء لمجرد الكره
والتشفي﴿اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾: من الاندفاع مع البغض والشنآن إلا
أن يكون البغض في الله والغضب للحق لا لغرض شخصي أو دنيوي.
(9) – (10): ﴿وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ...﴾:
كرر سبحانه وعده بالثواب لمن آمن وأخلص ليزداد جهادًا أو إيمانًا، وكرر وعيده
بالعقاب لمن خان وبغى لعله يذكر أو يخشى.
(11): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ﴾:
خص الله سبحانه محمدًا (ص) ومن آمن معه بالعديد من نعمه، وأهمها جميعًا هذه النعمة
التي أشار إليها بقوله: ﴿إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ
أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ﴾: تحالف المشركون واليهود والمنافقون ضد
المسلمين، فصد الله عنهم قوى الشر والبغي، وأظهر دينه تعالى على رغم كل حاقد
ومعاند.
(12): ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ﴾: أن لا يتجاوزوا حدود
الله والحق وَبَعَثْنَا ﴿مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبً﴾: بعدد الأسباط ، لكل سبط
نقيب أي قائد يدبر أمور جماعته ومرؤوسيه ﴿وَقَالَ اللّهُ﴾: لبني إسرائيل﴿إِنِّي
مَعَكُمْ﴾: أنصركم ولا أخذلكم بهذه الشروط: الأول ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصّلوةَ﴾:
على أصولها، الثاني ﴿وَآتَيْتُمُ الزَّكَوةَ﴾: كاملة، الثالث ﴿وَآمَنتُم
بِرُسُلِي﴾: جميعًا دون استثناء، الرابع ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾: عظمتموهم ونصرتموهم،
الخامس، ﴿وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنً﴾: وأيضًا تنفقون مع الزكاة قسمًا
آخر من أموالكم في سبيل الله، وجزاء القيام بهذه الخمسة شيئان: الأول
﴿لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾: العفو عن السيئات (أن الحسنات يذهبن
السيئات ذلك ذكرى للذاكرين-114 هود) الثاني ﴿وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾: هذا الجزاء عند الله سبحانه: العفو والجنة لمن سمع
وأطاع ﴿فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ﴾: الإفضال والإنعام منه تعالى وأخذ
الميثاق بالشكر والطاعة ﴿فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ﴾: انحرف وجار عن الطريق
القويم.
(13): ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ﴾: هذا هو دين اليهود ودينهم:
نقض العهود ونشر الشرور والسموم، وجزاؤهم من الله سبحانه اللعنات الدائمة
﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾: وليس المراد بالجعل هنا الخلق والتكوين وإلا
لم يستحقوا ذمًا ولا عقابًا ، وإنما المراد أن الله سبحانه تركهم وشأنهم دون أن
يتدخل بإرادته الشخصية، ويمنعهم بالجبر والقهر عن الجرائم والرذائل ﴿يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾: تقدم بالحرف في سورة النساء الآية 46 ﴿وَنَسُواْ
حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾: كانت التوراة لليهود كنزًا وعزًا، فحرفوا، وما
حرفوا بذلك إلا أنفسهم كما قال سبحانه: (ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون
102 البقرة) ﴿وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ﴾: شعار اليهود
الخيانة، ولا يروي عطشهم إلاَّ الكيد والمكر ﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ﴾: ثبتوا
على العهد والميثاق ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ﴾: إن كفوا عنك شرهم وضرهم (فإن
انتهوا فلا عدوان إلاَّ على الظالمين – 193 البقرة).
(14): ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى﴾: سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة
الله، قالوا: نحن أنصار الله ﴿أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾: بأن يسيروا على سنة السيد
المسيح (ع) ولا يقولوا: الله ثالث ثلاثة ﴿فَنَسُواْ حَظًّ﴾: نصيبهم من الثواب عند
الله لو سمعوا وأطاعوا ﴿مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾: وهو الإنجيل الذي حرفوه، ولو بقي
كما أُنزل عل عيسى، والتوراة كما أُوحي بها إلى موسى – لكان الدين واحدًا في شرق
الأرض وغربها ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ﴾: أي ألصقنا بهم ﴿الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاء﴾: لبعضهم البعض ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾: ومن أراد أن يسبر غور
هذه العداوة والبغضاء فليرجع إلى كتاب الإسلام والنصرانية للشيخ محمد عبده وكتاب
محاضرات في النصرانية للشيخ محمد أبي زهرة.
(15) – (16): ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾: نداء لليهود والنصارى ﴿قَدْ جَاءكُمْ
رَسُولُنَ﴾: محمد ﴿يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ
الْكِتَابِ﴾: أخفى النصارى التوحيد، وأخفى اليهود تحريم الربا وغير ذلك، ومما أخفوه
معًا البشارة بنبوة محمد ﴿وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾: من الذين أساؤا إليه من رؤسائكم.
﴿قَدْ جَاءكُم﴾: أيها اليهود والنصارى ﴿مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ
يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم
مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ﴾: يهدي للتي هي أقوم دنيا وآخرة، فأبيتم إلاَّ العناد والفساد، فقامت
عليكم الحجة، وانقطعت منكم كل معذرة.
(17): ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ﴾: كل من وصف المخلوق بشيء من صفات الخالق كالخلق. والرزق فما هو بمسلم،
ولا يختلف في ذلك اثنان من المسلمين، وأيضًا نطق القرآن الكريم بصراحة أنه لا حساب
على الآراء والمعتقدات إلا لله وحده، ومن ذلك قوله تعالى: (فإن أعرضوا فما أرسلناك
عليهم حفيظًا إن عليك إلا البلاغ –48 الشورى) ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ
شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي
الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾: لأن الله سبحانه إذا
ملك القدرة على هلاك المسيح فمعنى هذا أن المسيح ليس بإله، وإن عجز عن هلاك المسيح
فمعنى هذا أن الله ليس بإله وعليه فالجمع بين ألهين محال، فكيف بالثلاثة؟
(18): ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ
وَأَحِبَّاؤُهُ﴾: وإن قال قائل: كل أهل دين يقول مثل هذا؟ قلنا في جوابه: إن
الإسلام يقرر مبدأ المساواة بين الناس أجمعين كتابًا وسنة وعقلاً، فمن الكتاب: (يا
أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة – النساء.. إن أكرمكم عند الله
أتقاكم – 13 الحجرات). ومن السنة النبوية: (أيها الناس إن ربكم واحد، وكلكم من آدم،
وآدم من تراب.. خير الناس أنفع الناس للناس) وفي الآية 6 من فصلت (إنما أنا بشر
مثلكم). أما العقل فهو الأساس والأصل الأصيل لعقيدة الإسلام وميزان العدل لشريعته.
﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾: لو كنتم أبناء الله لكنتم معصومين
بالكامل، وأنتم لا تدعون ذلك، وكل مذنب يستحق العقاب والعذاب بحكم البديهة ﴿بَلْ
أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ﴾: ليس في خلق الرحمن من تفاوت، فعلام هذا التعالي
والغرور؟ وهل من شيء أضر وأخطر على الشعوب والأمم والإنسانية من ادعاء بعضها أو بعض
أبنائها بأن لهم مزايا طبيعية ليست لأحد من الناس غيرهم؟
(19): ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ﴾: الحق
﴿عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ﴾: بعد انقطاع الوحي أمدًا من الوقت ﴿أَن
تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ
وَنَذِيرٌ﴾: وهو محمد (ص) أبدًا لا عذر إطلاقًا لمن يتكاسل ويهمل البحث عن الحق،
وهو عليه قادر، وهذا كتاب الله وشروحه وعلومه، وتلك سنة نبيه في مئات الكتب وهؤلاء
علماء الإسلام في شرق الأرض وغربها يعدون بالألوف فليبحث باحث، وليسأل سائل تفقهًا
لا تعنتًا.
(20): ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾: اليهود: ﴿يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ
اللّهِ عَلَيْكُمْ﴾: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبنائكم
ويستحيون نسائكم- 49 البقرة). ﴿إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء﴾: (ففريقًا كذبتم
وفريقًا تقتلون – 87 البقرة) ﴿وَجَعَلَكُم مُّلُوكً﴾: أي جعل منكم ملوكًا كداود
وسليمان ﴿وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّن الْعَالَمِينَ﴾: لا لشيء إلا
للمبالغة في تثبيت الحجة عليهم وتوكيدها وإلزامهم بها، لقسوتهم ورسوخهم في الضلال
والمعاندة والمكابرة، فقد نصرهم سبحانه على فرعون بلا قتال، وأطعمهم المن والسلوى
بلا كفاح، وسقاهم الماء بلا جفر آبار وشق أقنية ومع ذلك كله تمردوا على المنعم
بدلاً من أن يشكروه، وقتلوا أنبيائه ورسله، والرسول لا يقتل عند جميع الدول.
(21): ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾: هاجر موسى وقومه العبرانيون
من مصر، يشقون طريقهم إلى سيناء، ولما بلغوها حاروا إلى أين يذهبون، فقال لهم موسى:
هلموا إلى فلسطين ﴿الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ﴾: أن تعيشوا مع أهلها الحفيين
والكنعانيين في أمن وسلام ﴿وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا
خَاسِرِينَ﴾: حيث لا تجدون بلدًا أقرب من هذه الأرض.
(22): ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن
نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا
دَاخِلُونَ﴾: أراد موسى أن يتعايش العبرانيون مع أهل الأرض معايشة الأخوان
المتعاونين، فرفضوا إلا طرد الكنعانيين من ديارهم وتشتيتهم في الأرض أيدي سبا كما
فعل اليهود سنة 1948م وما أعقبها من ويلات.
(23): ﴿قَالَ رَجُلاَنِ﴾: هما يوشع وكالب، وجاء اسم الأول في التوراة سفر العدد
الإصحاح 13 بلفظ هوشع، واسم الثاني في سفر أخبار الإصحاح 2 ﴿مِنَ الَّذِينَ
يَخَافُونَك﴾: الله ﴿أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَ﴾: الإيمان ﴿ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ
الْبَابَ﴾: أي باب قريتهم أو مدينتهم.
(24): ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ
فِيهَ﴾: أبدلاً، ل بد من تشريد أهل الديار وأخذها منهم غصبًا ونهبًا، أما القتال
﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾: اذهب أنت ومن
أرسلك بكل تعال وترفع حتى على الله ورسوله! وهذه هي بالذات غطرسة إسرائيل وجبلتها
الخبيثة، ومهما شككت فلم أشك إطلاقًا أن من سار على هذي السبيل فأُمه هاوية، وما
أدراك ما هيه.
(25): ﴿قَالَ﴾: موسى شاكيًا إلى الله من القوم المجهولين على البغي والفساد. ﴿رَبِّ
إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ﴾: وإذا كان موسى على نبوته وعصمته فقد الصبر والتصبر على العيش مع
قومه فكيف يمكن التعايش مع الصهاينة على أساس الحق والعدل.
(26): ﴿قَالَ﴾: سبحانه لموسى: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ
سَنَةً﴾: الضمير في (أنها) يعود إلى الأرض المقدسة وفي (عليهم) إلى الذين قالوا: لن
ندخلها أبدًا ما داموا فيها، وهكذا كان، فإن الذين نطقوا بذلك لم يروا الأرض
المقدسة على الإطلاق تصديقًا لكلمة الله العليا: (فإنها محرمة عليهم) وإنما الذين
دخلوها بعد أربعين سنة مع يوشع هم جيل جديد بعد أن مات كل من قال: إنا لن ندخلها...
﴿يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ﴾: وفي الروايات أن موسى وهارون كانا معهم في أرض التيه،
ومات هارون وبعده بسنة مات موسى في التيه ﴿فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ
الْفَاسِقِينَ﴾: الذين زكوا أنفسهم وقالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، فقد أمات الله
فريقًا منهم في التيه، وفريقًا مسخهم قردة وخنازير، وألصق اللعنة بهم جميعًا إلى
يوم الدين.
(27): ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ﴾: وهما قابيل وهابيل.
دب الخلاف بينهما كما في الروايات ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانً﴾: ليفصل بين المحق
والمبطل ﴿فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَ﴾: هابيل ﴿وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ﴾:
قابيل ﴿قَالَ﴾: قابيل لهابيل ﴿لَأَقْتُلَنَّكَ﴾: لا لشيء إلا لأنك عند الله خير مني
وأفضل! وهذا هو ذنب الطاهر عند الفاجر العاهر ﴿قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ
مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾: لا شيء يجدي من غير تقوى. وفي نهج البلاغة: لا يقل عمل مع
التقوى فكيف يقل ما يتقبل؟
(28): ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي﴾: ظلمًا وعدوانًا ﴿مَا أَنَاْ
بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ﴾: بل أبسطها للدفاع عن نفسي.
(29): ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ﴾: ترجع إلى ربك ﴿بِإِثْمِي﴾: ﴿قتلي وَإِثْمِكَ﴾:
وهو خبثك الذي كان السبب الموجب لرفض قربانك.
(30): ﴿فَطَوَّعَتْ﴾: سهلت ﴿لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ﴾: بلا جرم جره
على مخلوق، وهما من نطفة واحدة ورحم واحد! فهل بعد هذا المثال والشاهد القرآني
يقال: أخاك أخاك أو صديقك صديقك؟ المحرك الأول هو المصلحة والعاطفة إلا أن تكون هنا
مناعة من عقل رصين أو دين متين.
(31): ﴿فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ﴾: عرف ابن آدم كيف يقتل
أخاه بحقده، وجهل أن يدسه في التراب بعقله، وهكذا يختفي العقل والدين إذا طغت
العاطفة ﴿لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ﴾: عورة، وخُصت بالذكر، لأنها أحق
بالستر ﴿أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا
الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي﴾: وكلنا قد يقف به العجز والجهل عن أتفه
الأمور ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ﴾: وهكذا الإنسان يخطئ ثم يندم، ولكنه يعود،
والسر قوله تعالى: (وخلق الإنسان ضعيفًا – 28 النساء).
(32): ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ﴾: من أجل جريمة القتل وأنها جريمة الجرائم ﴿كَتَبْنَا
عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: وخصهم بالذكر علمًا بأن الحكم أعم وأشمل، لأنهم أجرأ
العالمين على الفساد في الأرض ﴿أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ
فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعً﴾: فكيف بالذين
يتسابقون إلى أسلحة الموت والقتل بالجملة، فمن القنبلة الذرية إلى الهيدروجينية،
ومنها إلى قنبلة النيوترون وصواريخ (اس- اس) ذات الرؤوس النووية المتعددة؟ ﴿وَمَنْ
أَحْيَاهَ﴾: أي من أعطى حياة الناس نموًا وآمالاً، وتقدمًا وكمالاً، لا من صلى
وصام وكفى لأن العبادة لله وحده، وموضوع الآية النفس وليس خالقها لأنه تعالى مصدر
الحياة ﴿فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعً﴾: بشق الأنهر والطرقات وبناء
المدارس والمستشفيات المجانية، وإيجاد العمل للسواعد التي تبحث عنها... إلى غير ذلك
مما ينتفع به الناس بجهة من الجهات، ويمكث في الأرض، ولا يذهب مع الريح ﴿وَلَقَدْ
جَاء
2015-12-10