(1): ﴿الَر﴾: تقدم في أول البقرة ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾: تلك إشارة إلى هذه
السورة، وآياتها من القرآن الكريم﴿وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ﴾: يبين الرشد من الغي والحق
من الباطل، وهو معطوف على الكتاب لمجرد التوضيح التوضيح والتفخيم.
(2): ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ﴾: رب هنا
للتكثير و(ما): زائدة تكف رب عن العمل، والمعنى:حين تقوم القيامة وينكشف الغطاء،
يتمنى الذين كفروا بمحمد(ص) ونبوته لو أنهم آمنوا به وعملوا برسالته.
(3): ﴿ذَرْهُمْ﴾: يا محمد ﴿يَأْكُلُو﴾: من الطيبات ﴿وَيَتَمَتَّعُو﴾: بالثروات
﴿وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ﴾: يشغلهم ويصدهم عنالحق، وينسيهم الحساب والعقاب ﴿فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ﴾: تهديد لكل من لايشعر بالمسؤولية وحقوق الآخرين.
(4): ﴿وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ﴾: والمراد
بهذا الكتاب المعلوم وقت العقوبة وأجلها وكأن قائلا يقول لماذا لم يعجل سبحانه
العقوبة للمجرمين؟
فأجاب سبحانه بأن لكل عقوبة أجلها المعلوم عند الله، وما من شك أنه تعالى لا يعاقب
إلا بعد البيان وقيام الحجة اللازمة.
(5): ﴿مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾: واضح، وتقدم
في الآية 145 من آل عمران 49 من يونس.
(6): ﴿وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ
لَمَجْنُونٌ﴾: هذه هي نادرة النوادر ونكتة النكات ... محمد مجنون! وهل من شيء أصدق
في الدلالة على جنونه من هذا القرآن معجزة المعا جز ومن سيرته وآثاره وانتشار
الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها... ويقال: إن المجنون يرى كل الناس
مجانين.وأيضًا العداء والتعصب يُعمي ويصم، ويُري صاحبه الحسنى أسوأ السيئات.
(7): ﴿لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾: هذا هو
التكبر والعتو... تحداهم القرآن أن يأتوا بسورة من مثله فقالوا: لا، آتنا بالملائكة،
ولو جاءت الملائكة لقالوا: لا، حتى نرى الله جهرة، ومعنى هذا أنهم لا يردون الإيمان
بمحمد(ص)، ولماذا؟ لأن الإيمان به إعتراف بفضله، والموت أخف من ذلك وأيسر.
(8): ﴿مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ﴾: أي بالمصلحة الموجبة لنزول
الملائكة كتبليغ الرسول أو هلاك قومهالمكذبين كما فعل بالأمم الخالية ﴿وَمَا
كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ﴾: لو أنزل سبحانه الملائكة لاستأصلوا الذين اقترحوهم
بالكامل لإصرارهم على الضلال، وقد يكون في وجودهم إلى حين شيء من الخير كإيمان
البعض منهم أو من ذرياتهم.
(9): ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾: المراد
بالذكر هنا القرآن الكريم، وضمير(له) يعود عليه، والمعنى أنّ هذا القرآن الموجود
فعلاً بين الدفتين المألوف المعروف لدى كل الناس هو بالذات الذي نزل على محمد (ص)
بلا تقليم وتطعيم، على العكس من الكتاب المعروف الآن بالتوراة فإنه غير الذي جاء به
موسى (ع) وكذلك الكتاب المعروف بالإنجيل، فهو غير الذي نزل على عيسى (ع). أقرأ كتاب
الرحلة المدرسية للشيخ جواد البلاغي.
(10) -(11): ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ وَمَا
يَأْتِيهِم مَّن رِّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُون﴾: هوّن عليك يا محمد
قول الجبابرة الطغاة: إنك لمجنون. فما أرسلنا قبلك من رسول أو نبي في فرق الأولين
وطوائفهم إلا قالوا له مثل هذا وأكثر منه فصبر واحتسب، وكانت عاقبة الدار للصابرين
المتقين، فاصبر كما صبر الأولون، والله على نصرك لقدير، وتقدم في الآية 34 من
الأنعام.
(12): ﴿كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾: اختلف المفسرون في الضمير
بنسلكه، فقال قائل منهم: يعود إلىالشرك. وقال الشيخ الطبرسي: يعود إلى الذكر (أي
القرآن) والمعنى (يسلك القرآن في قلوب المجرمين مُكذبًا به وغير مقبول، كما لو
أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها، فتقول: هكذا اللئام تنزل الحاجة بهم مردودة غير
مقضية).
(13): ﴿لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾: بيان وتفسير لنسلكه في قلوب المجرمين ﴿وَقَدْ خَلَتْ
سُنَّةُ الأَوَّلِينَ﴾: وهي فعله تعالى بمن كذّب الأنبياء حيث أهلك المكذبين
الكافرين، وأنجى الرسل والمؤمنين.
(14): ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ
يَعْرُجُونَ﴾: يصعدون.
(15): ﴿لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ﴾: سدت ﴿أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ
مَّسْحُورُونَ﴾: هذا بيان لشدة عناد الطغاة ومكابرتهم للحق، وأن الله لو صعد بهم
إلى السماء بلا سفينة فضاء لقالوا: إن هذا إلا سحر مبين، وإنّا به لكافرون! ولا سر
على الإطلاق إلا الذاتية والأنانية، وأنهم ينظرون إلى القائل لا إلى القول، ويرفضون
كل ما يقوله عدوهم الشخصي، وإن كان حقًا وصدقًا، أما قول العلماء والحكماء: خذ
الحكمة أنى كانت وتكون، فكلام فارغ في مفهومهم.
(16): ﴿وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ﴾:
قيل: المراد بالبروج هنا المنازل الأثنا عشر. وقيل:بل الكوكب، ومهما يكن معنى
البروج فإن الغرض الأول من الآية أن نتدبر قدرته تعالى في آياته الباهرات وما فيها
من نظام وإتقان يحمل الدلالة الواضحة على وجود المتقن والمنظم، وتغني عن مجيء الجن
ونزول الملائكة. وفي نهج البلاغة: الحمد لله الدال على وجوده بخلقه، وبمحدث خلقه
على أزليته، وباشتباههم على أن لا شبه له.
(17): ﴿وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ﴾: كان أهل الجاهلية يعتقدون
بأن لكل كاهن شيطانًا يأتيه بأخبار السماء، فكذّب سبحانه هذه الخرافة، وإنها من وحي
الجهل وسبات العقل.
(18): ﴿إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ﴾: كناية عن
أن شياطين الإنس أوالجان - على فرض صعودهم إلى القمر أو المريخ أو غيرها من الكوكب
في سفينة الفضاء - فإنهم أعجز وأحقر من أن يسترقوا السمع من ملائكة السماء كما زعم
أهل الجاهلية.
(19): ﴿وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾: تقدم في الآية 3
من الرعدَ ﴿وَأنبَتنا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ﴾: بميزان العلم والحكمة
شكلاً ومادة وتطوراً (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى-50طه).
(20): ﴿وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ﴾: جمع معاش، وضمير فيها يعود إلى الأرض
والمعنى أن الله سبحانه أودعفي الأرض أسباب الرزق والعيش بشتى صنوفها. ومع الأيام
تطورت هذه الأسباب مع تقدم العلم حتى زاد الإنتاج والدخل القومي أضعافًا مضاعفة عن
ذي قبل. ولولا الاحتكار والاستئثار وما تستهلكه الأسلحة الجهنمية التي تهدد الأرض
بكل من وما فيها - لما كان لكلمة الجوع من مدلول ﴿وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ
بَِرازِقيِنَ﴾:كما جعلنا لكم في الأرض معايش أيضًا جعلنا فيها لغيركم من سائر
المخلوقات الحية معايش، فإن رزقها على الله لا عليكم وعلى هذا يكون (ومن لستم...)
معطوفًا على (لكم) بتقدير حرف الجر أي ولمن لستم له برازقين، لأن العطف على الضمير
المجرور يستدعي تكرار حرف الجر.
(21): ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ﴾: ليس لله صناديق وخزائن
يدخر فيها الأرزاق للمستقبل كما نفعل نحن، وعليه فالخزائن هنا مجرد تمثيل لاقتداره
وإيجاد الشيء بكلمة (كن) ﴿وَمَا نُنَزِلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُوٍم﴾: لا يعطي
سبحانه الرزق والمال اعتباطًا وجزافًا، بل كل شيء عنده بمقدار وسبب يستدعيه ويوجبه.
(22): ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾: توصف الرياح باللقاح لأنها تحمل
السحاب الماطر إلى الشجر والنبات وأيضًا تنقل القاح الأزهار الذكور إلى الأزهار
الإناث لتخرج الثمر والفواكه ﴿فَنزَلْنَا مِنَ السماء ماء فَأَسْقَيْنَكُمُوهُ
وَمَآ أَنُتُْمْ لَهُ بخازنين﴾: ينزل الماء في فصل الشتاء، فتحيا به الأرض، وما زاد
عن ريها بكل ما فيها في هذا الفصل، يودعه الله سبحانه في الأرض للأسباب الطبيعية
لاستعماله والانتفاع في بقية الفصول.
(23): ﴿وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ﴾: يبدىء سبحانه الخلق ثم يميته ثم يعيده
﴿وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ: الباقون، كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال
والإكرام.
(24)-(25): ﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا
الْمُسْتَأْخِرِينَ﴾: ونجد تفسيره في نهج البلاغة:(علمه تعالى بالأموات الماضين
كعلمه بالأحياء الباقين، وعلمه بما في السموات العلى كعلمه بما في الأرضين السفلى).
(26): ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ﴾: طين
يابس، والحمأ: طين يميل إلى السواد، والمسنون: طين يتكيف بسهولة، والطين بشتى
أنواعه وصنوفه، ماء وتراب، وأصل الإنسان تراب وماء، خلقه الله منهما ومنحه الحياة.
(27): ﴿والجان خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ﴾: أي من قبل الإنسان ﴿مِن نَّارِ
السَّمُومِ﴾: ومن جملة ما قرأت أن أهل الإختصاص اكتشفوا نوعًا من الحشرات لا تحيا
إلا بالهواء السام، ونوعًا آخر لا يحيا إلا في آبار البترول والمواد الملتهبة، وقد
يكون في الشمس أحياء تتفق في تكوينها مع حرارة الشمس. وبعض الناس ألفوا كتابًا في
الجن وعدد نفوسهم وبلادهم وعاداتهم وشعرائهم ورؤسائهم وزواج الإنس منهم وزواجهم من
الإنس! ونحن نؤمن بالجن لا لشيء إلا لأن الوحي أثبته، والعقل لا ينفيه، ولكن لا
نصدق أحداً يدعي رؤية الجن، ورُوي عن الشافعي هذه الفتوى: (من زعم أنه يرى الجن
أبطلنا شهادته).
(28)-(33): ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَاُلق... ﴾ استنكف إبليس
أن يسجد لآدم تكبرًا وحسدًا وافتخارًا، وهو على علم اليقين أنه يعصي الله جهرة
بذلك، وأن له العذاب الأليم، وعليه لعنة الله واللاعنين، فآثر هذا كله ومثله معه
على النزول عن كبريائه، فهل نعجب بعد قصة إبليس من فلان وعلتان ونقول: كيف يستنكف
عن الحق وهو منه على علم اليقين أو كيف آثر الهلاك على الخضوع لخاتم النبيين أو
لغيره من المؤمنين؟ وتقدمت حكاية إبليس في الآية 34 من البقرة و11 الأعراف.
(34)-(35): ﴿قَالَ﴾: سبحانه لإبليس ﴿فَاخْرُجْ مِنْهَ﴾: من المنزلة الرفيعة التي
أنت فيها ﴿فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾:مرجوم وملعون.
(36): ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾: ليفعل غيلته وغوايته.
(37)-(38): ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ﴾: تركه سبحانه محكًا يميز به بين
الطيب والخبيث، وهو سبحانه العالم بمضرات القلوب، ولكن أبى سبحانه أن يثيب إلا من
جاهد ميوله وأهواءه.
(39): ﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي﴾: أي ابتليتني وامتحنتني به من الأمر
بالسجود لآدم الذي أوقعني في الغيوالمعصية ﴿لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ
وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾.
(40): ﴿إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾: قطع إبليس عهدًا على نفسه أن
ينتقم لمأساته من ذرية آدم الذي كان السبب لطردة من رحمه الله.
(41): ﴿قَالَ﴾: سبحانه: ﴿هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾: هذه إشارة إلى تحصين
المخلصين من شر الشيطان وغوايته، وعلى أي ثابت عليه تعالى هذا الحفظ والتحصين
تمامًا كقوله: (كتب ربكم على نفسه الرحمة 54الأنعام).
(42): ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ... ﴾: أبدًا لا سلطان على
الإنسان نفسه، ولا يتبع الشيطان إلا حقود حسود أو متعصب جهول أو انتهازي يبيع الدين
والضمير والبلاد لكل من يدفع الثمن.
(43)-(44): ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ﴾: يجتمع فيها حزب
الشيطان بقيادته، يتباغضون ويتلاعنون﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ
مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ﴾: تشير هذه الآية إلى أن أهل النار فئات تمامًا كأهل
الجنة، وهذا هو العدل، لأن السيئات مراتب وكذلك الحسنات: (ولكل درجات مما عملوا
وليوفيهم أعمالهم وهم لا يُظلمون-19 الأحقاف).
(45): ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾: لما أشار سبحانه إلى الشيطان
وحزبه الغاوين وأن جهنم لموعدهم أجمعين عطف عليهم أهل الجنة، وأنهم في عزة وكرامة،
تقول لهم ملائكة الرحمة:
(46): ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ﴾: الجنة دار الغنى عن كل شيء والأمان من كل
خوف.
(47): ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلّ﴾: لا تعادي في مال ولا تحاسد
على جاه، فمن أين يأتي الحقد والغل؟.
(48): ﴿لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ﴾: لا تعب ولا صخب. وقال قائل: إن آدم ملّ في
الجنة من حياة الترف والفراغ والكسل والشلل، فأكل من الشجرة عن قصد وعمد، ليخرجه
سبحانه إلى الأرض حيث الكفاح والنضال والأكل من كد اليمين وعرق الجبين.
(49)-(50): ﴿نَبِّىءْ عِبَادِي﴾: عني ﴿أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم وَأنَّ
عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَليِم﴾: حذر سبحانه وبشر في آن واحد كيلا ييأس العاصي
ويقول متماديًا في الغي: أنا الغريق وما خوفي من البلل؟ وأيضًا كيلا يغتر (العابد)
ويقول معجبًا بنفسه: لا أحد مثلي في التاريخ! ومعنى هذا أن الإنسان (لا يكون مؤمنًا
حتى يكون خائفًا راجيًا، ولا يكون خائفًا راجيًا حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو)
كما قال الإمام الصادق (ع) ومعنى قوله: (لما يخاف ويرجو) هو الخوف أن يكون عمله
ناقصًا غير مقبول والرجاء أن يكون كاملا ومرضيًا، وتقدم في الآية 98من المائدة و165
من الأنعام و167من الأعراف.
(51): ﴿وَنَبِّئْهُمْ﴾: يا محمد ﴿عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ﴾: والمراد بهذا الضيف
الملائكة.
(52): ﴿إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامً﴾: فرد عليهم و﴿قَالَ إِنَّا
مِنكُمْ وَجِلُونَ﴾: لأنه قدم لهم الطعام فامتنعوا عنه فأنكرهم وأوجس منهم خيفة.
(53): ﴿قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ﴾: لا تخف ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾:
بالله وشريعته بنص الآية 112من الصافات:(وبشرناه بإسحق نبيًا من الصالحين).
(54): ﴿قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ﴾: في قاموس الكتاب
المقدس: كان ابن مئة سنة ﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾: فما هو السبب المبرر لهذه البشارة
التي جاءت على غير المعروف والمألوف؟.
(55): ﴿قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ﴾: واليقين من الله لا من عندنا ﴿فَلاَ
تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ﴾: ظن الملائكة من سؤال خليل الرحمن أنه قانط، فصحح هذا
الوهم، ونفى القنوط عن نفسه.
(56): ﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ﴾: أعود
بالله من القنوط، وإني لأرجو من رحمة الله أكثر من ذلك، ولكن أريد أن أتثبت من سمعي
وأنه يتلقى البشارة من الله لا من سواه.
(57) - (60): ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ﴾: هل من شيء عندكم
غير البشارة بالغلام العليم؟ ﴿قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا... ﴾: لإبادة الكفر
والفجرة قوم لوط أجمعين، أما هو وأهله فهم بسلام آمنين ما عدا امرأته المنافقة
المتآمرة على زوجها، فإنه مصيبها ما أصابهم.
(61)-(62): ﴿فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ... ﴾: ذهب الملائكة من عند
إبراهيم إلى لوط في صورة البشر، قال لهم: ما الذي جاء بكم إلى هذا البلد، وأهله
معرفون بما يفعلون.
(63)-(64): ﴿قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ﴾: كان لوط
يتوعد قومه بالعذاب فيشكون ويسخرون.
(65): ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ﴾: بعد أن يمضي بعض الليل لا
كله ﴿وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ﴾: امش خلف أهلك لأن ذلك أهدأ لقلبك وقلوبهم لأنهم
على مرأى منك ﴿وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ﴾: إلى الوراء إذا سمع الصياح
والعويل.
(66): ﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ... ﴾: أوحى سبحانه إلى لوط بأنه
سيستأصل الكافرين وقت الصباح عن آخرهم.
(67): ﴿وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ﴾: بهذا الصيد، ولا يعلمون أنه
عذاب السموم.
(68)-(71): ﴿قَالَ﴾: لهم لوط ﴿إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ﴾: وخوفهم
وحذرهم من غضب الله وعذابه، فقالوا له: نحن أيضًا حذرناك ونهيناك أن تضيف أحدًا،
فلم تنته! ولا تعجب من هذا المنطق، أليسوا أولاد آدم؟ وما الذي يمنع أن أنطق أنا أو
أنت بمثله من حيث لا ندري ونعلم؟ أبدًا كلنا لآدم وآدم من تراب.
(72): ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾: وليس من الضروري أن
لا يسكر المرء إلا من شراب، فإن سكر العمه والضلالة أشد قوة وآثارًا.
(73): ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ﴾: عند شروق الشمس، والصيحة الصوت
العاصف القاصف، وهذا مصير من كذّب بالحق منقادًا لنزوته.
(74)-(75): ﴿فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا... إِنَّ فِي ذَلِك لآيَاتٍ
لَّلْمُتَوَسِّمِين﴾: عبرة وعظة للمعتبرين، وهي أبلغ من القول المسموع والكلام
المقروء..
(76)-(77): ﴿وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ﴾: أي أن مدينة لوط وما حولها من القرى
التي أهلكها سبحانه - ما زالت آثارها قائمة يراها ويشاهدها الرائح والغادي، وتسمى
سدوم. وفي قاموس الكتاب المقدس: بحر سدوم، ويسمى بحر لوط يمتد من العقبة إلى
الحولة، وطوله46 ميلاً، وأقصى عرضه 10 أميال ونصف الميل، ومساحته 300 ميل مربع،
وأقصى عمقه1310 أقدام. وكل ما جاء في الآيات السابقة عن إبراهيم ولوط تقدم ذكره في
سورة هود من الآية 70 إلى الآية 83.
(78) - (79): ﴿وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانتَقَمْنَا
مِنْهُمْ﴾: الأيكة الشجر الملتف الكثيف، وأصحابها هم قوم شعيب، وكان ظلمهم بالشرك
ونقص الميزان والمكيال وغير ذلك من الفساد والضلال، فانتقم سبحانه منهم بالصيحة
والرجفة. وتقدم في الآية 85 وما بعدها من الأعراف ﴿وَإِنَّهُمَ﴾: أي موطن لوط
وموطن شعيب﴿لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ﴾: في طريق واضحة سالكة يمر عليها كل من أحب وأراد
أن يشاهد آثار الهلاك والعذاب في هذين الموطنين.
(80)-(84): ﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ﴾: هم ثمود، ونبيهم
صالح، والحجر اسم بلادهم، ومن كذّب رسولاً واحدًا فقد كذب جميع المرسلين، لأن الكل
ينطقون بلسان الله، ومن هنا صح إطلاق الجمع على المفرد وهو صالح، وتقدم الكلام عن
صالح وقومه في الآية 73 من الأعراف وما بعدها.
(85)-(86): ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ
بِالْحَقِّ﴾: الله هو الحق، ولا يصدر عنه إلا الحق، ويتجلى ذلك في لطائف صنعه
وعجائب خلقه ﴿وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ﴾: وفيها يقذف بالحق على الباطل فيدمغه
ويزهقه ﴿فَاصْفَحِ﴾: يا محمد ﴿الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾: عمن كذبك وجمع لحربك، ولماذا
يصفح محمد عن هذا اللئيم الأثيم؟ أبدًا لا لشيء إلا لأن محمد نبي وكفى.
(87): ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ﴾: يا محمد ﴿سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ
الْعَظِيمَ﴾: وفي تحديد السبع المثاني خمسة أقوال، وأرجحها عندنا أنها سورة الفاتحة
فهي سبع آيات، والمثنى بها في الصلاة، وتجمع بين ذكر الربوبية والعبودية، إذن هي
سبع بآياتها، ومثاني بصفاتها.
(88): ﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا
مِّنْهُمْ﴾: المراد بالأزواج هنا الأصناف، وفي قواميس اللغة أن الزوج يأتي بمعنى
الصنف والشكل. وفي الآية 58 من ص: (وآخر من شكله أزواج) أي أصناف، وفي الآية 36 من
يس (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض) وعليه يكون المعنى استغن يا محمد
بما آتاك الله من النبوة والجاه والقرآن العظيم - عن كل أصناف الزينة وأسباب الترف
التي يتمتع بها الجاحدون وغيرهم من سائر الأديان ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾:
أبدًا لا يهمك عناد من كفر، وكفر من أدبر، فإنك في مقام أمين وكريم.﴿وَاخْفِضْ
جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾: والله سبحانه الذي خاطب نبيه الكريم بهذا الأمر، شهد
له في الآية 128 من التوبة بالرأفة والرحمة على كل مؤمن: (ولقد جاءكم رسول من
أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم). وقال الرسول (ص): (إن
أحبكم إلي يوم القيامة وأقربكم مجلسًا أحاسنكم خلاقًا المواطئون أكنافًا الذين
يألفون ويؤلفون).
(89): ﴿وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ﴾: الداعي دعوة الحق بأدلتها
وبراهينها القائمة ما قام الليل والنهار.
(90)-(91): ﴿كَمَا أَنزَلْنَ﴾: كما متعلق بآتيناك سبعًا، والمعنى أنزلنا عليك
كتابًا كما أنزلنا كتابًا ﴿عَلَى المُقْتَسِمِينَ الَّذيِنَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ
عِضيِنَ﴾: جمع عضة بمعنى جزء وعضو وبعض، والذين جعلوا القرآن عضين هم اليهود
والنصارى حيث جزأوه أجزاء من حيث الكفر والإيمان، فآمنوا ببعضه الذي يتفق مع
أهوائهم، وكفروا ببعضه الآخر الذي يصطدم معها، وهؤلاء الذين جعلوا القرآن عضين هم
عين المقتسمين - أي قسموا القرآن أجزاء كفرًا ببعض وإيمانًا ببعض - وعليه يكون
المعنى لماذا أهل الكتاب يكذبون بنزول القرآن وينفرون منه علمًا بأنهم يعترفون
بنزول التوراة والإنجيل ويؤمنون بهما.
(92)-(93): ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا
يَعْمَلُونَ﴾: يتحمل الإنسان العديد من المسؤوليات ومنه المسؤولية عما يسمع ويبصر
حيث يجب عليه أن لا يقبل أو يرفض شيئًا منهما إلا بعد التأمل والروية، قال سبحانه:
إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا - 36 الإسراء) وقد سمع الجاحدون
المعاندون من محمد دعوة الحق وأدلتها، وأبصروا هديه وأمانته فكان عليهم أن يستخدموا
عقولهم في دعوته ويفكروا بروية قبل أن يسرعوا إلى القول: (حسبنا ما وجدنا عليه
آباءنا -104 المائدة).
(94)-(96): ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَر﴾: أعلن يا محمد كلمة الحق- وادع ولا تخف لومة
لائم ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾: والمستهزئين والثرثارين فلن يضروك شيئًا.
(97): ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾: لا غرابة أن
يتألم نبي الرحمة ويضيق صدره من الافتراءات والأكاذيب، لأنه إنسان من لحم ودم، ولكن
ما هي العلاقة بين الحزن والعبادة حتى يأمره سبحانه بها إذا استشعر الحزن
والضيق.يقول له:
(98): ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ﴾: الجواب: الأمر
بالعبادة هنا كناية عن الإتكال على الله والفزع إليه وحده إذا ألم به ما يؤلمه
ويزعجه.
(99): ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾: المراد باليقين هنا
الموت، والمعنى استقم كما أمرت حتى الموت، وفي الآية132 من البقرة: (فلا تموتن إلا
وأنتم مسلمون). وهو سبحانه المسؤول أن لا يميتنا إلا على طاعته ومرضاته بالنبي
وعترته عليه وعليهم أزكى الصلوات.
* التفسير المبين / العلامة الشيخ محمد جواد مغنية. 2015-12-10