(1): ﴿سُورَةٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف أي هذه السورة. وقال الشيخ الطريحي في مجمع
البحرين: المراد بها مجموعة من آي الذكر الحكيم، أقلها ثلاث آيات، وهي مأخوذة إمّا
من سور المدينة، وإمّا من السورة بمعنى المنزلة والرتبة – أي الفضل والشرف -
﴿أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَ﴾: أوجبنا ما فيها من الحدود والأحكام
الآتية﴿وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾: غير متشابهات.
(2): ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُو﴾: الخطاب لأولي الأمر الذي أوجب الله
طاعتهم دون غيرهم ﴿كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾: وهذا الحكم يختصّ
بالأعزب والعزباء عند الإمامية والمالكية والشافعيِّة، أما المتزّوج والمتزّوجة
فحكمهما الرجم إجماعًا وسنَّة، بل جاء في صحيحيّ مسلم والبخاري أن عمر بن الخطاب
قال: إن الله أنزل آية الرجم، ومع ذلك قال أبو حنيفة: لا رجم إطلاقًا، وحُكم الجلد
يعمّ الأعزب والمتزوج، والمتزوجة والعزباء ﴿وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي
دِينِ اللَّهِ﴾: خذوهما بالشدَّة والألم ضربًا ورجمًا ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا
طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: أقيموا الحدّ عليهما علانية لأن ذلك أبلغ في
الردع والزجر عن الفاحشة.
(3): ﴿الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾: لا تستجيب لدعوة
الفاجر العاهر إلا على مومس على شاكلته أو مشركة لا تؤمن بكتاب و شريعة
﴿وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ﴾: وهكذا الشأن في
المومس، شبيه الشيء منجذب إليه، وقوله (أو مشركة.. أو مشرك) يومئ إلى أن الزنا
والشرك بمنزلة سواء ﴿وَحُرِّمَ ذَلِكَ﴾:إشارة إلى الزنا لا إلى زواج المؤمن غير
الزاني بزانية ﴿عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾: والمؤمنات أيضًا.
(4): ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ... ﴾: المراد بالرمي هنا القذف بالزنا،
والمحصنات جمع محصنة وهي المرأة العفيفة متزوجة كانت أو عزباء، وفي حكمها الرجل
العفيف متزوجًا كان أو أعزب، وقد أوجبت هذه الآية بجملتها ثلاثة أحكام على القاذف
أو القاذفة إذا لم يأت أحدهما بأربعة شهود عدول يشهدون بالكامل أنهم رأوا الميل
بالمكحلة: الحكم الأول أن يجلد 80 جلدة. الثاني أن ترد شهادته في غير القذف أيضًا.
الثالث أن يحكم بفسقه.
(5): ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُو﴾: من تاب بعد الحكم
بفسقه، وأصلح بحسن السيرة، قبلت شهادته، وغفر الله له سواء أتاب بعد الحد أم قبله.
(6): ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا
أَنفُسُهُم﴾: إذا قذف الرجل زوجته بالزنا، ولا بيّنة لديه﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ
أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾: يقول الزوج عند
الحاكم الشرعي أربع مرات أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة.
(7): ﴿وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ﴾: ثم يقول الزوج في الشهادة الخامسة: عليه لعنة الله إن كان من
الكاذبين في دعواه.
(8): ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ﴾: يدفع الحد عن الزوجة بشرط ﴿أَنْ تَشْهَدَ
أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ﴾: فتقول عند الحاكم
أربع مرات: أشهد بالله أنه من الكاذبين فيما قذفني به.
(9) – (10): ﴿وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ
الصَّادِقِينَ﴾: فيما رماني به من الفاحشة.
(11): ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ﴾: بالكذب المحض ﴿عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا
تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾: الذين رموا البريئة بالخيانة
هم جماعة تظاهروا كذبًا بأنهم على ملَّة الإسلام، وليسوا منه في شيء إلا ظاهرًا
﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ﴾: ضمير منهم يعود إلى أهل
الإفك، والمعنى لكل واحد من الأفاكين عذاب بقدر ما أشاع وأذاع من الكذب والافتراء
﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ﴾: كان له الحظ الأكبر من إشاعة الإفك ونشره
﴿مِنْهُمْ﴾: من العصبة ﴿لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾: في الدنيا بإظهار كذبه، وفي الآخرة
في حريق الجحيم.
(12): ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ
بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾: ينبغي للمؤمن إذا سمع
شرًا عن أخيه المؤمن أن يظن به الخير، وينفي السوء عنه قياسًا على نفسه.
(13): ﴿لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ﴾: الزنا ﴿بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء﴾: وإلا فلا تترتب
عليه لآثار الزنا كإقامة الحد واللغو فيه.
(14): ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾: أفضتم: خضتم،
وضمير فيه للإفك وحديثه، ورحمته تعالى في الدنيا على من عصاه هي الستر والإمهال،
وفي الآخرة العفو إذا تاب وأناب.
(15): ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا
لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾:
تديرون حديث الإفك بألسنتكم، وينقله بعضكم عن بعض من غير دليل، وتظنون ذلك سهلاً،
وهو عند الله من كبائر الآثام.
(16): ﴿وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ
بِهَذَ﴾: لا ينبغي للمؤمن أن يشارك في حديث الفاحشة إذا خاض فيه الأراذل والأشرار،
بل الأليق به أن ينهى عنه ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾: هذا إشارة إلى
اتهام الأبرياء بالإفك، وإنه من أكبر الآثام وأعظمها عند الله.
(17): ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدً﴾: المراد بالوعظ النهي
عن التكرار والإصرار على حديث الإفك وأمثاله من المنكرات.
(18): ﴿وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾: بيّن
سبحانه لعباده الأحكام، وبثَّ المواعظ عن علم بما يصلحهم وينفعهم.
(19): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ﴾: أي حديث الفاحشة
﴿فِي الَّذِينَ آمَنُو﴾: الأبرياء والأطهار﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي
الدُّنْيَ﴾: بإقامة الحد ﴿وَالْآخِرَةِ﴾: بنار حهنم، وإن قال قائل: إن عوقب المجرم
على جريمته في الدنيا لم يعاقب عليه في الآخرة كما في الحديث، وأيضًا لا يستقيم في
عدالته تعالى أن يجمع بين عقوبتين على ذنب واحد – قلنا في جوابه: القذف بالفاحشة
شيء، وإشاعتها ونشرها بين الناس شيء آخر، فإذا قذف المجرم وأشاع يُحدّ على القذف في
الدنيا ويُعذَّب في الآخرة على النشر والإذاعة ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ﴾: ما فيه صلاح
الفرد والمجتمع ﴿وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾: من الأمور إلا ما ظهر منها.
(20): ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾: لعاجل العصاة منكم بنقمته، ولكنه
بعباده رؤوف رحيم.
(21): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾:
بإشاعة الفاحشة في الأبرياء، ولا بشيء مما يدعوكم إليه ﴿وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾: من أمكن الشيطان من
نفسه قاده إلى كل جريمة ورذيلة ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ
مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدً﴾: كلكم يوسوس له الشيطان، ويهم بطاعته إلا
من عصم الله ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾:
بأهل الخير الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وهؤلاء هم الذين يزكيهم الله
ويثيبهم دون عباده، أمّا الصم البكم عن الخير فإن الله لهم بالمرصاد.
(22): ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا
أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُو﴾: يأتل: يحلف من آليت إذا حلفت، وأولو الفضل: أهل
الفضل في الدين والإحسان، والسعة: الإتساع في المال، والمعنى لا يحلف المؤمنون
والمحسنون أن يقطعوا أرحامهم الفقراء المهاجرين إلى الله، وإن بدرت بادرة من أحد
هؤلاء فالعفو أقرب للتقوى ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: من أحب أن يصفح الله عنه فليصفح هو عمَّن أساء إليه، ومن لا
يَرحم لا يُرحم.
(23): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ﴾:
دوات الصَون والغفلة عن الزنا، وكذلك من يرمي المؤمنين الغافلين ﴿لُعِنُو﴾: طردوا
من رحمة الله ورضوانه ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾: إلا
أن يتوبوا ولا يعودوا لمثله أبدًا.
(24): ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ﴾: بما نطقت ﴿وَأَيْدِيهِمْ﴾: بما
فعلت ﴿وَأَرْجُلُهُم﴾: إلى ما سعت.
(25): ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ﴾: أي الجزاء الذي يستحقون
﴿الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾: وعدًا ووعيدًا
وحسابًا وجزاءًا.
(26): ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ
وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾: المراد بالخبيثات
السيئات من الأقوال والأفعال، وبالخبيثين السيئون رجالاً ونساءً تغليبًا للذكور عل
الإناث، والمراد بالطيبات: الحسنات من الأقوال والأفعال، وبالطيبين المحسنون رجالاً
ونساءً أيضًا تغليبًا للذكور على الإناث، وعليه يكون المعنى: بالسيئات يستدل على
المسيئين، وبالمسيئين يستدل على السيئات، وبالحسنات يستدل على المحسنين، وبالمحسنين
يستدل على الحسنات. وقال الكثير من المفسرين: المعنى الزوجة الخبيثة للزوج الخبيث
هي له وهو لها، والزوجة الطيبة للزوج الطيب هي له وهو لها؟ وينتقض هذا التفسير
طردًا وعكسًا بزوجة فرعون الشهيدة الطيبة، وزوجة نوح الخبيثة، وكذلك زوجة لوط
﴿أُوْلَئِكَ﴾: الطيبون والطيبات﴿مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾: أي مما يقوله
عنهم الخبيثون والخبيثات، وأيضًا لهم عند ربهم الدرجات العلى.
(27): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا... ﴾: هذه من آداب
القرآن وأخلاقه، وهي أن لا يدخل أحد بيت غيره حتى ولو كان رحمًا قريبًا إلا أن
يستأذن من أهل البيت، وبعد الإذن يدخل ويسلم، والاستئذان واجب ، والسلام ندب
﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾: نعلِّمكم هذه الآداب لتعملوا بها.
(28): ﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ
لَكُمْ﴾: بإذن سابق، كما لو أقام صاحب البيت وكيلاً عليه في غيابه ﴿وَإِن قِيلَ
لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُو﴾: دون أن تحملوا في نفوسكم أية حزازة على صاحب البيت.
(29): ﴿لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ﴾:
بأسرة خاصة، بل معدة للجميع كالفندق والمضيف بفتح الميم ﴿فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ﴾:
فمن كان متاعه في فندق أو مضيف، فله الدخول إليه وأخذ المتاع بلا استئذان خاص.
(30): ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾: عن الأجنبيات إلا
الوجه والكفين، ولا بأس بالنظر إلى شعور غير المسلمات ما دام دينهن لا يحرم السفور،
ولا إلى شعور المسلمات من أهل البوادي، لأنهن لا ينتهين إذا نهين، شريطة أن يكون
النظر من غير ريبة ﴿وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾: عن الحرام ﴿ذَلِكَ﴾: الغض عن
المحرمات﴿أَزْكَى﴾: للنفس وأبعد عن الذنب وأقرب للتقوى.
(31): ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ
فُرُوجَهُنَّ﴾: وفي هذه المساواة بين الرجال والنساء من غير تفاوت – دلالة واضحة
على أنه يحرَّم على المرأة أن تنظر من الرجل ما يحرم عليه أن ينظر منها، ويحل لها
أن تنظر منه ما يحل له أن ينظر منها أي الوجه والكفين فقط دون سواهما ﴿وَلَا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَ﴾:المراد بالزينة هنا موضعها،
والمراد من موضع الزينة الوجه والكفان، وعليه يكون المعنى أن جميع بدن المرأة عورة
يحرم النظر إليه إلا الوجه والكفين ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ﴾: يضربن: يلقين، والخمار: غطاء الرأس، والجيب: فتحة القميص، والمراد
بها هنا الصدر، وهذا أمر من الله تعالى للمؤمنات أن يسترن الشعور بدلالة (خمرهن)
والصدور والنحور بدلالة (جيوبهن) وكل اجتهاد يخالف هذه الدلالة الواضحة فهو أشبه
بمضغ الهواء، لأنه في قبال النص وضده لا في تفسيره وقصده على أُصول اللغة وقواعدها
﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾: لكل من الزوجين أن يرى
للآخر ما يشاء ﴿أَوْ آبَائِهِنَّ﴾: ومنهم الأجداد للأب والأم ﴿أَوْ آبَاء
بُعُولَتِهِنَّ﴾: وإن علوا ﴿أَوْ أَبْنَائِهِنَّ﴾: وابن الإبن ومثله ابن البنت
﴿أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ﴾: وإن نزلوا ﴿أَوْ إِخْوَانِهِنَّ﴾: من الأب والأم
أو من أحدهما ﴿أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ﴾: وإن نزلوا
﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ﴾: يحرم على المسلمة أن تكشف عن سوأتها أمام مثلها حتى ولو كانت
أمها أو بنتها، ويحل لها أن تتجرد أمام مسلمة ما عدا السوأة، ولا يحل ذلك أمام غير
المسلمة ﴿أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ﴾: وهم
الذين يخالطون الأسرة، ويتبعونها في أكثر الأحيان، ولا يشتهون النساء والجنس لهرم
أو عنن وما يشبه﴿أَوِ الطِّفْلِ﴾: أي جنس الطفل ﴿الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى
عَوْرَاتِ النِّسَاء﴾: أي لا يعرفون بأن هذا العضو لذلك الآخر الحساس ﴿وَلَا
يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾: كانت
المرأة في الجاهلية تلبس الخلخال، وكانت بعض النسوة تضرب الأرض برجلها إذا رأت
رجلاً كي يسمع طنينه، فنهى سبحانه عن ذلك ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعً﴾:
اتركوا المحرمات، ومن سبقت منه خطيئة فليتداركها بالتوبة، فإن الصلاح والفلاح في
طاعة الله ومرضاته.
(32): ﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ﴾: هذا أمر، - على الاستحباب – بتزويج من لا
زوجة له من المسلمين، الأيامى جمع أيم وهو من لا زوج له من النساء والرجال سواء
أكان متزوجًا من قبل أم غير متزوج كما في مجمع البحرين للشيخ الطريحي
﴿وَالصَّالِحِينَ﴾: أي المؤمنين ﴿مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ﴾: وأيضًا يستحب أن
تزوجوا ما تملكون من العبيد والإماء، لا موضوع اليوم لهذا الحكم ﴿إِن يَكُونُوا
فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾: إذا جاءكم من ترتضونه دينًا وخلقًا
فزوجوه، ولا تردوه لفقره، فإن الله سبحانه يغني الفقراء، ويفقر الأغنياء.
(33): ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ
اللَّهُ مِن فَضْلِهِ﴾: المقصود بالآية السابقة أولياء المرأة، وأنه لا ينبغي أن
يردوا الخاطب الفقير، أما المقصود بهذه الآية فهو الفقير بالذات، وأن الناس إذا
ردوه ولم يزوجوه، فعليه أن يصبر عن الحرام، ويسعى متكلاً على الله حتى يتهيأ له
أسباب الزواج ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَكَاتِبُوهُمْ﴾: الكتاب هنا مصدر بمعنى الكتابة، وخلاصة الآية أن من كان عنده عبد
مملوك فعليه أن يتفق معه على أن يؤدي مبلغًا من المال قسطًا واحدًا أو أقساطًا
ثمنًا لحريته ولا موضوع اليوم لذلك ﴿إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرً﴾: والمراد
بالخير هنا القدرة على الاستقلال والعيش بكد اليمين وعرق الجبين لا على التسول
واللصوصية ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ﴾: يستحب لمالك العبد أن يحط عن المملوك
شيئًا من المال المتفق عليه، ويعينه على التحرر من العبودية ﴿الَّذِي آتَاكُمْ
وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا
لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَ﴾: المراد بالفتيات هنا الإماء،
والبغاء: الزنا، وكان أهل الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا التماسًا للمال، فنهى
سبحانه عن ذلك، وتجدر الإشارة بأن كلمة (إن) هنا لا يُراد منها الشرط والقيد، بل
مجرد البيان بأن الفتاة إذا أرادت العفة والصون فبالأولى أن تريدوا ذلك أنتم ﴿وَمَن
يُكْرِههُّنَّ﴾: فهو وحده المعاقب، أمّا المكرهات ﴿فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ
إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: لهن لا لمن دفع بهن إلى البغاء.
(34): ﴿وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ﴾: في القرآن الكريم ﴿آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ﴾:
أحكامًا واضحة ﴿وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ﴾: أي من أخبار
الماضين وقصصهم، عسى أن تعتبروا وتنتفعوا.
(35): ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: المراد بنوره تعالى قدرته وعلمه
وحكمته، وتتجلى بالكامل في خلق الكون وتدبيره ونظامه (الذي خلق فسوى، والذي قدر
فهدى) ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ﴾: وهي خرق في الحائط غير نافذ، ويُسمى كوة
﴿فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ
دُرِّيٌّ﴾: يشبه الدر في صفائه﴿يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا
شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾: هذا مثال لوضوح الأدلة وظهورها على وجود الله،
ويتلخص مثال الوضوح والظهور بسراج وضع في كوة بجدار البيت، تحصر نوره وتجمعه، ولا
ينفذ إليه الهواء، وهذا السراج داخل قنديل من الزجاج الصافي، أما الزيت الذي فيه
فهو من زيتونة لا هي شرقية تصيبها الشمس عند الشروق فقط ولا هي غربية تصلها عند
الغروب فقط بل هي شرقية غربية لأنها تواجه الشمس صباحًا ومساءً لا يظلها شجر ولا
جبل ونحو ذلك، ومنها جاء زيتها نقيًا صافيًا يكاد يضيء من غير إحراق، فإذا مسته
النار أشرق نوره وتألق ﴿نُّورٌ عَلَى نُورٍ﴾: نور المصباح ونور الزجاج ونور الزيت
﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء﴾: ولا يشاء الهدى والخير إلا لمن أحبه
وأراده بصدق وإخلاص (ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم – 23 الأنفال).
(36) – (37): ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ﴾: المراد بالبيوت هنا المساجد، ورفعها: بناؤها، أما اسمه وذكره تعالى فهو
كناية عن العبادة ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ... ﴾: مؤمنون
صالحون، يتاجرون ويزرعون ويقومون بشتى أنواع الحرف والصناعات حتى إذا جاء وقت
الصلاة وغيرها من العبادات والواجبات، تركوا كل عمل وبادروا إليها، فإذا انتهوا
منها انصرفوا إلى شؤونهم الدنيوية، وهي لا تقل أجرًا وثوابًا عن الصوم والصلاة حيث
لا فاصل في دين الإسلام بين عبادة الله والنضال في سبيل الأهل والعيال.
(38): ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ
أَحْسَنَ مَا عَمِلُو﴾: يثيبهم عل صالح أعمالهم، ويتجاوز عن سيئاتهم إلا أذى
الناس، فلا كفارة له، ولا صفح عنه، ولا شفاعة فيه عند الله ﴿وَيَزِيدَهُم مِّن
فَضْلِهِ﴾: أضعافًا مضاعفة ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾: تقدم
مرات، منها في الآية 212 من البقرة.
(39): ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾: سراب: شعاع من
ضوء الشمس ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء﴾: وبقيعة كلمتان: باء الجر، وقيعة جمع،
واحدة قاع بمعنى الأرض المستوية الخالية ﴿حَتَّى إِذَا جَاءهُ﴾: الهاء للسراب ﴿لَمْ
يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾: لما ذكر سبحانه
حال المؤمنين، وأن أعمالهم من أجل الحياة الدنيا لا تلهيهم عن العبادة والقيام بحق
الله سبحانه، أشار إلى أعمال الكافرين وأنها تمامًا كالسراب الخادع لا تجديهم شيئًا
حين يقفون غدًا بين يدي الله لنقاش الحساب، بل يجدون عنده تعالى المقت والعذاب
الأليم على أسوائهم وآلامهم.
(40): ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ﴾: هذا مثال لأعمال الكافرين وأنها كظلمات ﴿فِي بَحْرٍ
لُّجِّيٍّ﴾: عظيم في مائه وعمقه وأمواجه ﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾:
يغطي البحر موج، ومن فوق الموج موج ﴿مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ﴾: وفوق
الأمواج المتراكمة سحاب ثقيل كثيف ﴿بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾: الأمواج والظلمات ركب
بعضها بعضًا حتى بلغت الظلمة الغاية والنهاية بحيث ﴿إِذَا أَخْرَجَ﴾: الإنسان
﴿يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَ﴾: وهذا أبلغ تشبيه لأهل الأغراض الذين غرقوا في بحر
من الكذب والحقد النميمة والحسد والغيبة والغرور والكبرياء ... إلى ما لا نهاية من
القبائح والرذائل ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن
نُّورٍ﴾: لا تقوم الحجة لله على واحد من خلقه إلا إذا أعطاه النور والعقل، وهداه
إلى طريق الخير والشر، وعليه يكون معنى الآية من لم يطع الله سبحانه فيما أرشده
إليه، وأمره به، فإنه يعيش مدى حياته في حيرة الجهل والضلالة.
(41): ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ.. ﴾: ألم
تر، ألم تعلم، وتقدم في الآية 44 من الإسراء﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ
وَتَسْبِيحَهُ﴾: وفي هذه دلالة واضحة على أن للطيور والحشرات وغيرها من الحيوانات،
حظًا من الإدراك، وكذلك في الآية 18 من النمل: (قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا
مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده) وقال الهدهد لسليمان: (أحطت بما لم تحط به – 22
النمل) وفي الآية 38 من الأنعام (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا
أُمم أمثالكم).
(43) – (44): ﴿أَلَمْ تَرَ﴾: أيها الإنسان العاقل ﴿أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي﴾: يسوق
بالأسباب الكونية التي أودعها في الطبيعة ﴿سَحَابً﴾: متفرقًا ﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ
بَيْنَهُ﴾: يجمعه ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامً﴾: متكاثفًا بعضه فوق بعض ﴿فَتَرَى
الْوَدْقَ﴾: المطر ﴿يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ﴾: من بينه ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء
مِن جِبَالٍ﴾: كناية عن السحاب ﴿فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾: ماء متجمد في قطع ثلجية
﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء﴾: ينزل سبحانه المطر
والبرد في أرض دون أرض تبعًا لسنن الكون مباشرة ولمشيئته بواسطة هذه السنن، لأنه هو
الذي خلق الكون بكل ما فيه من سنن وعناصر وموجبات ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ﴾: السنا
بالقصر الضوء، وبالمد المجد، والضمير في برقه للسحاب ﴿يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾:
يخطفها إذا تابعته ولم تحد عنه.
(45): ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء﴾: وحقيقة الماء واحدة مع أن
الدابة التي خلقت منه متنوعة ﴿فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾: كالحية وما
شاكلها من الزواحف ﴿وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ﴾: كالإنسان
والطير﴿وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾: كالأنعام وسائر الحيوانات
﴿يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء﴾: إن شاء كان، وإن لم يشأ لم يكن.
(46): ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ﴾: من النملة الصغيرة إلى المجرة
الكبيرة، إلى كل حي وجامد، فتبارك الله رب العالمين.
(47): ﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَ﴾: يشير سبحانه
بهذا إلى المنافقين الذين لاقى منهم النبي أشد مما لاقاه من اليهود والمشركين
﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ﴾: أعرض فريق من المنافقين
عن العمل بموجب الإيمان بع إعلانه والفريق الآخر أقرَّ هذا الإعراض ورضي به ﴿وَمَا
أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾: إشارة إلى كل من أضمر غير ما أظهر، لأن الإيمان لا
ينفصل عن العمل.
(48): ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا
فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ﴾: وأوضح تفسير لهذه الآية ما قيل في سبب نزولها: أن
منافقًا و يهوديًا تخاصما على شيء فدعاه اليهودي إلى محاكمة عند محمد (ص) ودعاه
المنافق إلى كعب الأحبار اليهودي.
(49): ﴿وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾: كل محق يطلب
المحاكمة عند محمد (ص) حتى ولو كان جاحدًا بالله ورسوله، وكل مبطل معاند للحق يطلب
المحاكمة إلى الجبت والطاغوت حتى ولو نطق بالشهادتين وهذه أسوء حالاً عند الله من
الجاحد الكافر، ما في ذلك ريب.
(50): ﴿أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾: بغض وكراهية لرسول الله (ص) ﴿أَمِ ارْتَابُو﴾:
وشكوا في نبوته وعصمته ﴿أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَرَسُولُهُ﴾: كلا، إن الله ورسوله مبرءان من الحيف والجور على كل من كفر بهما
﴿بَلْ أُوْلَئِكَ﴾: الذين رفضوا حكم الله والرسول ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾: للناس
ولأنفسهم المعاندون للحق وأهله.
(51) – (52): ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ... ﴾: المؤمن لا يستنكف وينكص
عن دعوة الحق حتى ولو ضحى بنفسه من أجلها، وبهذه الصلاة وقوة الإرادة المؤمنة يفوز
بالخير والدرجات عند الله تعالى.
(53) – (54): ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ
لَيَخْرُجُنَّ﴾: حلف المنافقون الأيمان المغلظة لئن أمرهم النبي بالغزو والحرب
ليسمعن له طائعين، فزجرهم سبحانه عن الأيمان الكاذبة بقوله: ﴿قُل لَّا تُقْسِمُوا
طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ﴾: لا تحلفوا، إن طاعتكم هذه طاعة كذب ونفاق ﴿قُلْ أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾: قولاً وعملاً، وظاهرًا وباطنًا، لا كذبًا ورياء
﴿فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ﴾:
على الرسول البلاغ، وعليكم السمع والطاعة، ومن اهتدى لنفسه، ومن ضل فعليها.
(55) – (56): ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ﴾: هذا وعد وعهد منه تعالى لنبيه محمد (ص)
والذين آمنوا معه، أن يبدلهم من بعد الخوف أمنًا، ومن بعد الذل عزًا، وقد فعل
سبحانه إنجازًا لوعده وانتصارًا لجنده، وحين تخلى المسلمون عن طاعة الله بالشتات
والخلافات تخلى الله عنهم وجاء في نهج البلاغة: أعطوا الله طاعتكم... والله لتفعلن
أو لينقلن الله عنكم سلطان الإسلام ثم لا ينقله إليكم أبدًا، وإلى هذا أشار سبحانه
بقوله: ﴿وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ﴾: من خرج عن طاعة الله بعد أن منحه العز
والسلطان ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾: الخارجون من كل خير، المبعدون عن
الصلاح والفلاح.
(57): ﴿لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾: أبدًا لا
يعجزه من طلب، ولا يفوته من هرب.
(58): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ﴾: قبل الدخول عليكم
﴿الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾: أي العبيد، ولا وجود لهم اليوم، ولكن الحكم
يشمل الخدم من الذكور والإناث ﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ﴾: الإحتلام
﴿مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ﴾: يقول سبحانه: مروا الخدم والصغار – وبالأولى الكبار –
أن يستأذنوا قبل الدخول عليكم في ثلاثة أوقات، لأنها مظنة انكشاف العورة، وهذه
الأوقات هي 1) ﴿مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ﴾: حيث يكون الإنسان آنذاك نائمًا أو
في ثياب النوم 2) ﴿وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ﴾: وقت القيلولة
والاستراحة 3) ﴿وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء﴾: حيث يتجه الإنسان إلى فراشه أو
إلى شأنه الخاص ﴿ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ﴾: جمع عورة، وهي كل ما يستره الإنسان من أعضائه
حياء من الناس ﴿لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾:
لا بأس على الخدم والصبيان ولا على ذويهم في الدخول من غير استئذان في بقية الأوقات
﴿طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾: تترددون عليهم، ويترددون عليكم،
فيغتفر لهم ما لا يغتفر لغيرهم. وفي هذا إيماء إلى أن المخالطة الجائزة شرعًا عذر
يسقط منه بعض الأحكام تمامًا كالضرورات التي تبيح المحظورات.
(59): ﴿وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُو﴾: في
جميع الأوقات دون استثناء لوقت من الأوقات الثلاثة وغيرها ﴿كَمَا اسْتَأْذَنَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ2015-12-10