(1): ﴿طس﴾: أنظر أول البقرة ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ﴾: تلك
إشارة إلى هذه السورة. والقرآن والكتاب بمعنى واحد، فهو قرآن لأنه مقروء، وهو كتاب
لأنه مكتوب، وهو مبين لأنه واضح.
(2)- (3): ﴿هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾: يهدي هذا القرآن إلى حياة أفضل كل من
أراد هذه الحياة، وأيضًا يبشره بالجنة إن آمن بالله ورسوله، وأقام الصلاة، وآتى
الزكاة، وكف أذاه عن الناس..
(4): ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ
أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾: من ينكر الآخرة وعقابها يرى الدنيا فرصته
الوحيدة للانتفاع والاستماع بكل ما يقدر عليه خيرًا كان أم شرًا، فيتمادى في غيِّه،
ويتيه في ضلاله، وهو عند نفسه من المحسنين صنعًا تمامًا كأي مجرم يأمن العقوبة وفي
الحياة الدنيا، فإنه ينطلق مع رغبته وشهوته إلى كل فساد وجريمة... وما من شك أن
الله سبحانه قادر على أن يردع بالقوة والإلجاء الشقي عن شقائه والمجرم عن جريمته،
ولكنه لا يفعل لأن الحرية حق طبيعي لكل إنسان، وبها يكون مسؤولا عن تصرفاته، وعليه
يكون معنى قوله تعالى: (زينا لهم أعمالهم) تركناهم وما يعملون ويعمهون- طبعًا بعد
البيان والتحذير- ولم نردعهم عن القبح والحرام بالقهر والقوة. أُنظر تفسير الآية 48
من المائدة: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة).
(6): ﴿وَإِنَّكَ﴾: يا محمد ﴿لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ﴾:
وما هو من عندك أو من وحي الكهان والشياطين كما يزعم الجاحدون.
(7): ﴿إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا
بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾: تقدم في الآية
10 من طه.
(8) - (10): ﴿فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ﴾: إن هذا الذي ظننته نارًا هو نور مقدس
﴿فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ﴾: كناية عن السرعة والخفة في
الحركة، كما يقال: فلان عفريت في حركاته ﴿وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾: لم يرجع أو
يلتفت﴿إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾: بل هم في حراسة الله وأمانه من
المخاوف والمهالك وإلا فإن الخوف من طبيعة الإنسان، والنبي كسائر البشر، والسبب
الأساس لعظمة النبي عند الله هو شدة خوفه منه تعالى، ومن خاف ربه عمل بطاعته،
وانتهى عن معصيته قال الإمام عليّ (ع): إن العبد إنما يكون حسن ظنه بربه على قدر
خوفه من ربه، وإن أحسن الناس ظنًا بالله خوفًا لله..
(11) - (14): ﴿إِلَّا مَن ظَلَمَ﴾: استثناء منقطع، والمعنى لكن من عصى الله من سائر
الناس فهم من الهالكين ﴿ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ﴾: أي إلا من تاب بعد
معصيته، وأخلص في نيته فإن الله غفور رحيم﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ
بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ﴾: تقدم في الآية 80 من الأعراف وغيرها ﴿فِي تِسْعِ
آيَاتٍ﴾: وهي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وانفجار الماء
من الحجر وإنزال المن والسلوى. وتقدم في الآية 101 من الإسراء ﴿آيَاتُنَا
مُبْصِرَةً﴾: واضحة الدلالة على صدق موسى ونبوته.
(15): ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمً﴾: ينتفعان به في طاعة
الله وخدمة الإنسان، ولا يتخذان منه أداة للصوصية أو اختراع أسلحة الفناء والإبادة.
(16): ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾: في الملك والنبوة ﴿وَقَالَ﴾: سليمان: ﴿يَا
أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾: لكل نبي معجزات وخوارق تدل على
صدقه في نبوته، وتختلف في نوعها تبعًا للعصر والبيئة في أفكارها وتقاليدها، وكانت
معجزة داوود إلانة الحديد، ومعجزة سليمان تسخير الريح وبعض الجن والمعرفة بلغة بعض
الطيور والحشرات. وقيل: إن الحيوانات بشتى أنواعها كانت تنطق بكلام الآدميين، ومع
الزمن حدث التطور المقلوب على العكس من نظرية دارون ﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ
شَيْءٍ﴾: نحتاج إليه في حياتنا.
(17): ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ﴾: نحن نؤمن بوجود الجن لأنه
القرآن يثبته والعقل لا ينفيه، ونقل عن الشافعي أنه كان يبطل شهادة من زعم رؤية
الجن ﴿وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾: المراد بالتوزيع أنه كان لكل صنف
من هذه الأصناف قائد ووازع، يحافظ على السير وغيره.
(18): ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ... ﴾: قرأت
في مجلة عالم الفكر الكويتية العدد الثاني من المجلد السابع مقالًا مطولا بعنوان
لغة الحيوان، جاء فيه: استمر العلماء العديد من السنوات وهم يحاولون تفسير سلوك
الحيوان، حتى استطاع علماء هذا العصر متعاونين أن يحلوا ما استعصى على من سبقهم،
وأنشأوا علمًا جديدًا، سموه علم سلوك الحيوان وأثبتوا أن لكل صنف من الحيوانات
والحشرات طريقة خاصة في التفاهم، وهذا بالذات ما نطق به القرآن منذ 1300 عام أو
أكثر، فمن أين جاء محمد (ص) بهذا وبما هو أعظم إن لم يكن من عند الله!؟ ﴿لَا
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ﴾: نملة لا تقتحمها الأعين تخاف على رعيتها
أو جماعتها من الأقوى ومن أي أذى، فتبذل ما في وسعها من جهد لصيانة أُمتها
وسلامتها، وسجَّل ذلك سبحانه في كتابه، عسى أن يعتبر ويتعظ كل من بيده زمام أمر من
الأمور: (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل. حتى بالنمل والذباب - فأبى
أكثر الناس إلا كفورًا- 89 الإسراء).
(19): ﴿فَتَبَسَّمَ﴾: سليمان ﴿ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي﴾:
ألهمني ﴿أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ﴾: ومن أفضل الشكر كف الأذى عن الناس، وأكلمه على
الإطلاق أن تسدي إليهم خدمة أو ترد عنهم نكبة.
(20): ﴿وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾: هل أخطأ
بصري؟ ﴿أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ﴾: كان لسليمان صنوف من الطيور تأتمر بأمره،
وما هي في قفص أو أشبه، وفي ذات يوم تعهد الطيور فلم يجد الهدهد من بينها قال:
(21): ﴿لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدً﴾: بالسجن أو نتف الريش ونحوه ﴿أَوْ
لَأَذْبَحَنَّهُ﴾: حكم بالإعدام ﴿أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ﴾: بحجة
وافية ومعذرة كافية.
(22): ﴿فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾: غاب الهدهد يسيرًا، ثم أتى وقال لسليمان ﴿فَقَالَ
أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ﴾: اكتشفت شيئًا مهمًا لا تعرفه على سعة علمك
﴿وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾.
(23)- (26): ﴿إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً ...﴾: تحكم بلادًا كبيرة، ويعيش أَهلها في
نعمة، ولكنهم يعبدون الشمس من دون الله ﴿الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: المراد بالخبء هنا خيرات الكون، والله سبحانه يخرجها
لعباده بأيدي العلماء وعقولهم وأدواتهم الفنية ومختبراتهم العلمية.
(27): ﴿قَالَ﴾: سليمان للهدهد: ﴿سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ﴾: سنختبر مقالتك لنعرف مكانها من الصدق.
(28): ﴿اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ
فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ﴾: كتب سليمان إلى القوم بالطاعة وقال للهدهد أوصله
إليهم بطرق أو بآخر، وراقب ما يقولون وما يعزمون، وارجع إليَّ بخبرهم، فألقى الهدهد
إليها الكتاب ولما قرأته الملكة جمعت وزرائها وكبراء دولتها.
(29)- (31): ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ
كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾: عرضت عليهم الكتاب، ووصفته
بالكريم لأنه صاحبه عظيم الجاه، وفيه الدعوة بالطاعة بأيسر عبرائها وأوجزها، وهذا
هو شان الأنبياء في رسائلهم، يقتصرون فيه على الهدف المطلوب، وكان الرسول الأعظم
يكتب للملوك بعد البسملة هذه الكلمة: (أسلم تَسْلَم) وكفى. وبعد أن قرأت على
الوزراء والأمراء استشارتهم في أمرها.
(32): ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً
أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾: هذه النون للوقاية لآن الأصل تشهدونني، وحذفت النون
الأولى لمكان النصب بأن المضمرة بعد حتى، والمعنى أشيروا عليّ، فلا أبت بأمر حتى
تحضروا وتشيروا.
(33): ﴿قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾: والبأس يرادف
القوة، ولكن المراد باليأس هنا النجدة والشجاعة، وبالقوة العدد والعدة ﴿وَالْأَمْرُ
إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾: نحن مستعدون للقتال نخوضه حتى الموت إن
شئت وإلا سكتنا وصبرنا طاعة لأمرك.
(34): ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا
أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾: ما قالت لهم: إن سليمان أقوى منكم وأعظم بما سخر
له من الريح والإنس والجن والطير كيلا تثير فيهم النخوة والحماس، ويلقوا بالبلاد
والعباد إلى التهلكة، بل عبَّرت عن هذا المعنى بأُسلوب أحكم وأسلم حين قالت: إن
الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوا وأذلوا.
(35): ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ
الْمُرْسَلُونَ﴾: نجرب هذا الرجل بالنفيس من الأموال، فإن رضي به فهو طالب صيد، وإن
رفضه فهو نبي نتبعه وندخل في دينه.
(36): ﴿فَلَمَّا جَاء﴾: الرسول بهدية الملكة ﴿سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ
بِمَالٍ﴾: ولدي منه الشيء الكثير، وأنعم عليَّ سبحانه بما هو خير وأفضل هل من شيء
يعادل النبوة والعلم؟ ﴿بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾: أنتم تنقادون
بالمال، أما أنا فقائدي الحق والعدل.
(37): ﴿ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم
بِهَ﴾: ارجع أيها الرسول بهديتك إلى قومك، فسأغزوهم في عقر دارهم، وأجعل أعزة
أهلها أذلَّة تمامًا كما قالت الملكة إلى الملأ من قومها تحذرهم، ولما رجع الرسول،
وأخبر قومه بما كان ساروا والملكة إلى سليمان خاضعين مستسلمين.
(38): ﴿قَالَ﴾: سليمان: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي
مُسْلِمِينَ﴾: طلب سليمان عرش الملكة التي تركته في حرز حرير، لأنه أحب أن يريها
آية تدل على نبوته وعظمته.
(39): ﴿قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن
مَّقَامِكَ﴾: ويحكى أن سليمان كان يجلس للقضاء وإدارة الشؤون من طلوع الشمس إلى
زوالها.
(40): ﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ
أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾: ولا إنكار ولا غرابة، فإن سفينة الفضاء تقطع في
الساعة ثلاثين ألف كيلو متر، وقال علماء الذرة: إن الإلكترون يدور حول قطبه، ويقطع
في دورانه مسافة ثلاثمائة متر في الثانية باعتبار فلكه... وفي شتى الأحوال فإن
العلم الحديث قد تجاوز كل مألوف ومعروف ومن كان يصدِّق أن الإنسان يصعد إلى القمر،
وأن الزراعة في الفضاء ومن غير تراب ممكنة ومنتجة علمًا بأنها موجودة الآن في
اليابان وإيطاليا والكويت، ويدرس علمها في الجامعات. وبعد، فإن القرآن الكريم ذكر
الكثير الكثير من مبادئ العلوم بالعبارة أو بالإشارة، أدركت الأجيال المتعاقبة
طرفَا منها، وسوف تدرك الأجيال الآتية الكثير من خفايا القرآن وكنوزه: (وهو الذي
ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور- 9 الحديد) ﴿فَلَمَّا رَآهُ
مُسْتَقِرًّا عِندَهُ﴾: ما شعر سليمان إلا وعرش الملكة بين يديه ﴿قَالَ هَذَا مِن
فَضْلِ رَبِّي﴾: وحوله وقوته لا من ملكي وسلطاني، ولا من الجن والعفاريت كلا، فهو
وحده الذي أمد عباده بالعلم والقدرة والسلطان ﴿لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ
أَكْفُرُ﴾: المؤمن لا يطغى إذا استغنى، لا يكفر إذا ابتلى.
(41): ﴿قَالَ﴾: سليمان ﴿نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَ﴾: غيِّروا شيئًا منه لنرى
و﴿نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ﴾: أتعرفه أم
يخفى عليها.
(42): ﴿فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ﴾: نكِّروا عرشها وسألوها عنه
﴿قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ﴾: لم تنف ولم تثبت تحرزًا من الكذب، لأن العالم أو العاقل
لا يثبت ولا ينفي على الجزم إلا بدليل إذا لم تكن القضية بديهية﴿وَأُوتِينَا
الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ﴾: قال سليمان وقومه لما رأوا الملكة
قد آمنت: الحمد لله الذي عرفنا بوحدانيته، وهدانا إلى الإيمان به وباليوم الآخر.
(43): ﴿وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن
قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾: كانت هذه الملكة عاقلة وذكية، ولا عيب فيها إلا الشرك الذي
ورثته عن الآباء والأجداد.
(44): ﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾: القصر ﴿فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ
لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن
قَوَارِيرَ﴾: اللجة: كثرة الماء، والممرد: الملمس، والقوارير: الزجاج، كان لسليمان
قصر عظيم من زجاج شفاف يجري الماء من تحته يحسب الرائي أنه لا حائل بين الماء
والماشي، ولذا كشفت المسكينة عن ساقيها لتخوض الماء، فأعلمها سليمان بالحقيقة
﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: أسلمت وحسن إسلامها. وفي قاموس الكتاب المقدس ص 452: ما نصه
بالحرف (تقول التقاليد العربية: إن اسمها بلقيس، وأنها ولدت ابنًا لسليمان، ولكن لا
يوجد دليل تاريخي صحيح يبرهن هذه التقاليد). اطلعت على هذا النقد بعد أن طبع المجلد
الخامس من التفسير الكاشف.
(45): ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحً﴾: تقدم في الأعراف
وهود والشعراء ﴿فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ﴾: فريق اهتدى، وفريق غوى.
(46): ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾:
لماذا تطلبون العذاب دون رحمة، وتقدم في الآية 57 من الأنعام وغيرها.
(47): ﴿قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ...﴾: ما رأينا خيرًا على وجهك ووجوه الذين اتبعوك
وآمنوا بك ﴿قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ﴾: كل ما ينزل بي وبكم من بلاء هو من
الله لا منكم ولا مني ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾: تختبرون بالسراء والضراء
لتظهر أفعالكم التي تستحقون بها الثواب أو العقاب.
(48): ﴿وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ﴾: نفر ﴿يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ
وَلَا يُصْلِحُونَ﴾: كانوا من الرؤساء الأوغاد، ولا همَّ لهم إلا الصد عن الحق
والخير بشهادة المستضعفين والأتباع(قالوا ربنا إنا أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلونا
السبيل- 67 الأحزاب).
(49): ﴿قَالُو﴾: قال بعض التسعة المفسدين لبعض: ﴿تَقَاسَمُو﴾: أقسموا واحلفوا
﴿بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا
شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ﴾: نقتل صالحًا وأهل بيته ليلا، ثم نقول لقومه وأولياء
دمه ما قتلناهم ولا نعرف من قتلهم.
(50): ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾: مكروا
بالمؤامرة على اغتيال صالح، ومكر سبحانه حيث أبطل مكرهم، وعاقبهم عقاب الماكرين،
ومثله تمامًا قوله تعالى: (وأرادوا به كيدًا فجعلناهم الأخسرين- 70 الأنبياء).
(51)- (57): ﴿فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ ...﴾: من سلَّ سيف البغي
قتل به، وتقدمت قصة صالح وثمود في سورة الأعراف وهود والشعراء ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ
لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ﴾: وهي اللواط ﴿وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ﴾: تعلمون
أنها فاحشة ومع ذلك تفعلونها علنًا وجهرة ﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾: من
الجهالة بمعنى السفاهة والنذالة ﴿إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾: يتنزهون عن
الفاحشة وينكرونها ﴿قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ﴾: الهالكين الباقين في
العذاب.
(58): ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ﴾: بالحجة
والعذاب قبل وقوعه، وتكررت قصة لوط في سورة الأعراف وهود والشعراء، ولا جديد في هذه
الآيات الخمس ولذا أوجزنا.
(59): ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾: لما
ذكر سبحانه بعض الأنبياء وما خصهم به من الفضل، أمر نبيه محمدًا (ص) أن يحمد الله
على ما أنعم عليه، وأن يسلم على جميع الأنبياء الذين اصطفاهم لرسالته ﴿آللَّهُ
خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾: أيهما خير وأعظم: الله خالق كل شيء أم الأصنام التي لا
تغن عن شيء.
(60): ﴿أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء
مَاء: حياة للعباد ﴿فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾: ذات جمال تبتهج
النفوس بمرآها ﴿مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَ﴾: نحن غرسنا الحدائق
وزرعنا الحقول، ما في ذلك ريب، ولكن هل أوجدنا الأرض التي نغرس فيها ونزرع، أو
خلقنا البذر والغرس والماء والضياء والهواء، وجعلنا هذه النبتة ذكرًا وتلك أُنثى،
وقلنا للريح: لقحي الإناث من الذكور؟ وبكلمة نحن نوجد شيئًا من شيء، والله وحده هو
الذي يوجد شيئًا من لا شيء.
(61): ﴿أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارً﴾: أي مستقرة في المكان الذي هي فيه وعلى
حجمها الملائم للجذب المطلوب، ولو زاد أو نقص لتعذرت الحياة على وجه الأرض
﴿وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَار﴾: عذبه طيبة، وسيرها لمصلحة العباد والبلاد
﴿وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ﴾: جبالا ترسيها كيلا تزول عن موضعها وتميد بأهلها
﴿وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزً﴾: بين ماء الفرات وماء الأجاج لئلا يفسد
ذاك بهذا، أُنظر تفسير الآية 53 من الفرقان.
(62): ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾: المراد
بالمضطر العاجز الذي لا يجد عملا ولا وسيلة يلجأ إليها إلا الله وحده. وفي الجزء
الثاني من أُصول الكافي عن الإمام الصادق (ع): أربعة لا تستجاب لهم دعوة: رجل جلس
في بيته يقول: أللهم ارزقني. فيقال له: ألم آمرك بالطلب أي السعي، ورجل دعا على
زوجته، فيقال له: لم أجعل أمرها إليك أي طلاقها، ورجل كان له مال فأفسده أي بذر
وأسرف فيقال له: ألم آمرك بالاقتصاد؟ ورجل كان له مال فأدناه من غير بينة، فيقال
له: ألم آمرك بالشهادة ﴿وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ﴾: أي يجعلكم خلقًا لسلف
في ملك الأرض وعماراتها.
(63): ﴿أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾: بالدلائل الأرضية
كالجبال، والسماوية كالكواكب، وغير ذلك من الأدوات الفنية ﴿وَمَن يُرْسِلُ
الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ﴾: أي بين يدي السحاب التي تسقي البلاد
والعباد.
(64): ﴿أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾: تمامًا كما بدأه أولا يعيده،
وهو أهون عليه، والدليل الكون العجيب، وتقدم مرات ﴿وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ
السَّمَاء﴾: بالماء ﴿وَالْأَرْضِ﴾: بما أخرجت من نبات وغير ذلك.
(65): ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا
اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾: هدد النبي الجاحدين بعذاب
الآخرة، فقالوا له: متى هذا الوعد؟ فقال سبحانه لنبيه: قل: علمه عند ربي، وتقدم في
الآية 187 من الأعراف.
(66): ﴿بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ﴾: ادّارك: تتابع، والمعنى أن
الأسباب الموجبة للإيمان باليوم الآخر هي كثيرة، وبعضها يتبع بعضًا، ومع ذلك، كله
لم يؤمنوا تمامًا كما تقول: فلان عنود وجحود لا يقنعه شيء ﴿بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ
مِّنْهَ﴾: كيف يؤمنون بالآخرة، وقد اتخذوا الشك فيها دينًا وعقيدة حتى أصبح جزءًا
من كيانهم؟﴿بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ﴾: جمع عم وهو أعمى القلب، والمعنى لا يؤمنون
بالآخرة لأنهم عمي القلوب صم الأسماع.
(67)- (68): ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا...﴾: تقدم في
الآية 5 من الرعد وغيرها.
(69): ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾:واحبثوا عن آثار الماضيين أو اقرأوا التاريخ
لتعلموا كيف حلت نقمة الله تعالى على من طغى وبغى وكفر وتجبر، وتقدم في الآية 37 من
آل عمران.
(70): ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ...﴾: لماذا الحزن وضيق الصدر ما دمت يا محمد في
رعاية الله وعنايته، وتقدم بالحرف في الآية 127 من النحل.
(71): ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾: وعدتنا وهددتنا بالعذاب، فأين هو؟.
(72): ﴿قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم﴾: ربما كان العذاب وراءكم وأنتم لا
تشعرون، وتقدم في الآية 51 من الإسراء وغيرها.
(73): ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾: بما أنعم وتكرم، وأملى
وأمهل.
(74) - (75): ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ﴾: ما يسرون وما يعلنون، ولكل جزاؤه
المعلوم.
(76) - (77): ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ
الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾: ومن ذلك اختلافهم في عبادة العجل والعمل ببعض
ما في التوراة من أحكام، واختلافهم في السيد المسيح حيث آمن به فريق وكفر به فريق،
وأيضًا اختلفوا في محمد، وما آمن به إلا قليل منهم.
(78): ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ﴾: يوم القيامة وقضاؤه العدل،
وحكمه الفصل.
(79): ﴿فَتَوَكَّلْ﴾: يا محمد ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: ومن توكل عليه كفاه ﴿إِنَّكَ عَلَى
الْحَقِّ الْمُبِينِ﴾: ومن لا يقتنع بالحق الواضح يستحيل أن يقتنع منه عاقل.
(80) - (81): ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾: من يصر على رأيه، ولا يتوقع الخطأ
من نفسه يستحيل أن ينتفع بشيء من الهدى والعلم، والكلام معه تمامًا كالكلام مع
الأموات ﴿وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء﴾: أبدًا لا أحد يصغي لمنطق الحق إلا
إذا كان ضالته التي يطلبها، وحاجته التي يسأل عنها ﴿إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن
يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ﴾: إنما يستجيب لك ويؤمن بك يا محمد طلاب
الحق والهداية، أما الانتهازيون فهم طلاب ربح وصيد، وما لهم فيك من طمع.
(82): ﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ﴾: إذا حان وقت عذاب المجرمين
﴿أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ﴾: ما بيَّن سبحانه حقيقة هذه الدابة
في كتابه، ولا ثبت ذلك عندنا في سنة نبيه الكريم، ولا يسوغ الكلام بغير علم، فلم
يبق إلا الوقوف عند ظاهر الآية الذي يدل على أن الله سبحانه يخرج من الأرض عند
النشر مخلوقًا يعلن أن ما من أحد جحد بالله إلا مع قيام البينات والآيات الواضحات
على وجوده تعالى. نقول هذا في تفسير هذه الدابة، ونسكت عما سكت الله عنه.
(83): ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ
بِآيَاتِنَ﴾2015-12-10