(1): ﴿الم﴾: تقدم في أول البقرة.
(2): ﴿تِلْكَ﴾: إشارة إلى هذه السورة التي جاءت فيها ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ
الْحَكِيمِ﴾: العليم المنزه عن الجهل والعبث.
(3) – (4): ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ﴾: وهم الذين يكبحون أنفسهم عن
الأهواء والأسواء، ويؤمنون بالله واليوم الآخر، ويؤدون فرائض الله بالكامل.
(5): ﴿أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾:
لأنهم ما دخلوا في باطل، ولا خرجوا من الحق في قول أو فعل.
(6): ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ
اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوً﴾: قال أكثر المفسرين: المراد بلهو
الحديث هنا الغناء! ويلاحظ أن كلمة (ليظل.. وهزوًا) يدلان على أن المراد بلهو
الحديث هنا الطعن بالحق والخير والاستهزاء بهما بهدف التزييف والتضليل وإغراء الناس
بالشر والباطل، ويؤيد ذلك قوله تعالى بلا فاصل:
(7) – (9): ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَ﴾: أدبر واستكبر ـ وتصامم وما به من
صمم، ولكن الحق صاعقة على رأسه وقلبه.
(10): ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَ﴾: مرئية ولا غير مرئية
﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾:لئلا تهتز وتضطرب، وتقدم
في الآية 2 وما بعدها من الرعد.
(11): ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ﴾: هذا هو الكون، فهل من أحد يقول: لا عين ولا أثر لهذا
الكون؟ اللهم إلا من أنكر وجود نفسه وقال: إن الشيء ليس هو عين ذاته بل شيئًا آخر،
ومن يعترف بوجود الكون يلزمه حتمًا وجزمًا أن يعترف بوجود المكوِّن وإلا كان شأنه
تمامًا كشأن من يعترف بوجود الكهرباء، وينكر وجود أديسون، بل كشأن من ينكر وجود
الكهرباء مع الإعتراف بها! وهذي هي البلاهة والحماقة ﴿بَلِ الظَّالِمُونَ فِي
ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾: لا يفرقون بين ما يعترفون وما ينكرون.
(12): ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾: والمراد بها هنا معرفة أفضل
الأشياء، وكان لقمان ذا عقل ناضج وراسخ يفيض بالحكمة البالغة النافعة، فيلقيها في
أسماع الناس بكلمات جذابة قصار، ومعاني قوية كبار، ولذا تداولتها الأُمم والشعوب
على مدى الأجيال.
(13): ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ
بِاللَّهِ﴾: هذا هو الأصل الأصيل لكل مذهب ودين سليم، لأن الإيمان بالله إلهًا
واحدًا متفردًا بصفات الجلال والكمال يجعل الناس كلهم سواء في الحقوق والواجبات.
(14): ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى
وَهْنٍ﴾: هذه الآية والتي بعدها استطراد في سياق وصية لقمان لابنه، والوهن: الضعف،
وعلى وهن أي يستمر الضعف ويزداد يومًا بعد يوم كما قال الشاعر: عدنا وعادت حالنا
الراكدة ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾: الوالدة تحضن وترضع وليدها بعد وضعه حولين
كاملين، وقال الفقهاء، أقل مدة الحمل ستة أشهر مستدلين بهذه الآية معطوفة على الآية
15 من الأحقاف (وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا).
(15): ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ... ﴾: حيث لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق، وتقدم في الآية 23 من الإسراء و 8 من العنكبوت.
(16): ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ... ﴾:
كناية عن قدرته تعالى التامة المطلقة التي تخترع الأشياء من لا شيء ودون استعانة
بأي شيء، وعن علمه الذي لا يعزب عنه ظاهر ولا باطن وغائب أو حاضر، ودقيق وجليل. ومن
جملة ما قرأت أن الكيلوغرام من الخردل يبلغ 913 ألف حبة، وعليه تكون الحبة جزءًا من
ألف من الجرام فهي أصغر وزن لحب النبات.
(17): ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾: وهي أن تعبد من يراك ولا تراه بصدق وإخلاص،
ولا يغنيك عن الصلاة المفروضة شيء عند الله حتى لو أتيته بقلب سليم وحسنات الأولين
والآخرين ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ﴾: وأتمر به﴿وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾: وانته عنه
﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾: من فقد عزيز أو داء لا دواء له، ولا شيء أصعب من
الصبر، ومع هذا يجب في أداء الفرائض، وما عداها مستحب ﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ﴾: ومن العزم والإباء، والدين وعلو الهمة، وقوة النفس والإرادة أن ترضى
باليسير، وتستنكف عن الحرام، بل وعن سؤال الخلق وإن كان حلالاً.
(18): ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ... ﴾: لا تحطم نفسك بغرورها والشموخ بها
فوق قدرها، ولا تهو بها إلى الذل والهوان ﴿كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾: معجب بنفسه،
فخور على غيره.
(19): ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾: لا تبطئ ولا تسرع ﴿وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ
أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾: أنكرها: أوحشها وأقبحها، وقال بعض
المفسرين: إن التشبيه بصوت الحمير يقتضي أن يكون رفع الصوت محرمًا! ولو أخذنا بهذا
الفهم والعلم لوجب المشي المعتدل وحرم البطيء والسريع عملاً بوحدة السياق.
(20): ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ﴾: يهتدي
الإنسان بنجوم السماء ويستضيء بضياء الشمس، ويحيا بالسحاب والأمطار وغير ذلك من
المصالح والفوائد السماوية، ولكن ليس معنى هذا أن الكون بكل ما فيه مسخر للإنسان،
وأنه ما وجد إلا من أجله، لأن الكشوف الفلكية الحاسمة قضت على هذا الاعتقاد
والخرافة فهناك مجرات وكواكب وكائنات علوية وسفلية لا يعرف الإنسان عنها شيئًا
﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: من زرع وثمار ومعادن وبحار وطاقات وهبات ﴿وَأَسْبَغَ
عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾: قال بعض المفسرين: المراد بالظاهرة
الصحة والمال، وبالنعم الباطنة ستر القبيح من الأعمال أو نعيم الآخرة، ولكن هذا
العصر قد كشف عن هذه النعم التي كانت في الغيب المحجوب عن الآباء والأجداد، وفسرها
بالمخترعات الحديثة والأدوات العلمية كسفينة الفضاء والعقل الإلكتروني والكهرباء
والتلفزيون وغير ذلك كثير، إضافة إلى اكتشاف النفط ومشتقاته وغيره من المعادن
والأدوية... إلى ما نعلم وما لا نعلم مما تكشف عنه الأجيال على مدى الدهر، ويؤثر
على ابن عباس أنه قال: في القرآن معان سوف يفسرها الزمان. وفي نهج البلاغة، القرآن
حمال ذو وجوه. أي يحمل معاني كثيرة ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾: والمراد بالعلم هنا الحس والعيان﴿وَلَا هُدًى﴾: من العقل ﴿وَلَا
كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾: أي الوحي، وتقدم بالحرف في الآية 8 من الحج.
(21): ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ... ﴾: تقدم في الآية
170 من البقرة وغيرها.
(22): ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾: يسلم: يستسلم وينقاد، وجهه: قصده ونيته، والعروة من
الدلو: ما يمسك به القابض، والوثقى: مؤنث الأوثق، والمعنى من آمن بالله، وانقاد
لأمره ونهيه، وأخلص له في عمله – فقد أخذ من الله موثقًا قويًا ومتينًا أنه في أمنه
وأمانه.
(23) – (24): ﴿وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ﴾: لأنه في قبضة الله، يمهله
قليلاً من الدهر، يتمتع فيه كما يشتهي ثم يقذفه إلى عذاب السعير.
(25) – (26): ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾: الغرض
من هذا السؤال هو انتزاع الاعتراف منهم بأن الله هو الخالق ﴿لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾: الذي رد سهمكم إلى نحركم حيث اعترفتم على أنفسكم بأنفسكم
أن الله وحده هو الخالق، ومع ذلك تعبدون غيره، وتقدم في 61 من العنكبوت.
(27): ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ... ﴾: لا حد لقدرة
الله إلا بأنها لا حد لها، وفي نهج البلاغة: لو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة
لرجعوا إلى الطريق، وخافوا عذاب الحريق وتقدم في الآية 109 من الكهف.
(28): ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾: هذا رد على
من قال: البعث محال. وجوابه أن خلق الناس بالكامل وبعثهم بعد الموت كذلك هو عند
الله سبحانه كخلق النفس الواحدة وبعثها حيث يتساوى في قدرته إيجاد القليل والكثير
والخطير والحقير، فكل شيء يوجد بكلمة (كن).
(29): ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ... ﴾: الليل
والنهار وما يتصل بهما تابع لكروية الأرض ودورانها ولو كانت مسطحة لما كان سيء من
ذلك، وتقدم في الآية 27 من آل عمران ﴿كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾: لكل
من الشمس والقمر حركته الخاصة به إلى ما شاء الله، وتقدم في الآية 2 من الرعد.
(30): ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾: لأنه ما خلق شيئًا ولا شرع حكمًا
ولا أخبر عن حادثة سابقة أو لاحقة إلا بالحق والصدق وإلا لمصلحة وحكمة بالغة، وتقدم
بالحرف في الآية 62 من الحج.
(31): ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ﴾:
يكرر سبحانه ويذكر عباده بأن كل ما يتمتعون به من أسباب الحياة هو منه لا منهم أو
مما يرجون من دون الله كيلا يغفلوا ويذهلوا عن الخالق والرازق والميسر والمدبر،
ومتى آمنوا وأيقنوا بذلك شكروا في السراء، وصبروا على البلاء مع الشعور والأمل بأن
الله سبحانه قد يفتح لهم باب الخلاص والفرج.
(32): ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ﴾: جمع ظلمة وهي ما يعلو ويظلل من كل
شيء، والمعنى إذا ارتفع فوق السفينة موج كالجبال ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ﴾: التجأوا إليه متضرعين ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم
مُّقْتَصِدٌ﴾: معتدل حيث وفى بعهده مع الله ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا
كُلُّ خَتَّارٍ كَفُور﴾: غدّار جاحد بنعمة الله وفضله.
(33): ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْ﴾: العواقب وشرها،
واحذروا ﴿يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ...﴾: أسس وأهمل ليوم القيامة، فلا والد ولا
ولد يغني عنك شيئًا في هذا اليوم، فعملك خير لك وأجدى من أُمك وأبيك وولدك وأخيك،
إن يك صالحًا وإلا فلا أُم تحزن وتبكي من أجلك، ولا والد يهمه همك، ويشغله أمرك
﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾: وهو الشيطان، والمعنى احذروا كل شيطان
رجيم يغريكم بمعصية الله ونقمته.
(34): ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾: يوم القيامة، وقد استأثر سبحانه
بعلمه، وحجبه عن جميع خلقه حتى الأنبياء والملائكة ﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ﴾: أي
يعلم متى ينزل المطر قبل أن تظهر دلائله وعلاماته، أما الإنسان فلا يعلم ذلك إلا
بعد ظهور الدلائل والعلامات ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾: من ذكر أو أُنثى،
وقبيح أو جميل، وشقي أو سعيد. وسألني سائل: هل يسوغ للزوجين أن يختارا – بعملية
طبية – نوع الجنين من ذكر أو أُنثى؟ قلت: لا نص على هذا الموضوع بالذات، ولا حرام
بلا نص. قال: كيف والقرآن يقول: (الله يعلم ما تحمل كل أُنثى – 8 الرعد) قلت:
وأيضًا الله يعلم أن شجرة المشمش تحمل مشمشًا، وإذا لقحت بالخوخ تحمل خوخًا، وأن
كرمة العنب الأبيض تتحول إلى الأسود إذا لقحت به... أبدًا لا شيء يحدث من خلقه
تعالى إلا بعلمه وإرادته سواء أكان بسبب الإنسان أم الطبيعة أم بكلمة (كن) ﴿وَمَا
تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدً﴾: الإنسان كل يوم هو في شأن شاء أم أبى، فكل
شيء حوله يتحرك ويتغيَّر، وهو جزء من كل، ومعنى هذا أن ما يحدث للإنسان في غده فهو
من الغيب المحجوب ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾: ولا بأي زمن أو
سبب، وليس هذا بالشيء المهم، والأهم من كل شيء ماذا يحدث للإنسان بعد الموت في لحده
وموقف العرض وأهواله.
* التفسير المبين / العلامة الشيخ محمد جواد مغنية.
2015-12-10