يتم التحميل...

سورة سبأ

تفسير الكتاب المبين

سورة سبأ

عدد الزوار: 142

(1): ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ...: له الحمد في الدنيا وفي الآخرة، والملك كله، والحكم المطلق، ولا أحد يملك معه شيئًا إلا ملكه مالك الملك.

(2): ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ: من أسرار ومعادن وعناصر، وأكثرها طي الكتمان حتى الآن ﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَ: من أرزاق وخيرات ﴿وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء: أي يصعد ويرتقي من أقمار اصطناعية ومركبات وطيور وطائرات، وتقدم في الآية 59 من الأنعام وغيرها.

(3): ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى... : أنتم تجحدون المعاد، ونحن به مؤمنون، والله يعلم المحقّ من المبطل فإلى اللقاء، وتقدم في الآية 53 من يونس.

(4): ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ: أحسنوا بالحسنى، والذين أساءوا بما كانوا يعملون.

(5): ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ: عملوا بكل وسيلة أن يظهروا أنبياء الله بمظهر العاجزين عن إثبات الحق ومثله تمامًا (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم).

(6): ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ: ما من عالم منصف مسلمًا كان أو غير مسلم يدرس القرآن دراسة واقعية إلا وينتهي إلى أن كل ما فيه من حق وصدق، وأنه يهدي إلى حياة أقوم أجل أن القرآن ليس كتابًا علميًا أو فلسفيًا، لكن هل من عالم يستطيع أن يتجاهل هذه الحقيقة وهي أن العلماء والفلاسفة ما عثروا على شيء في القرآن يصطدم مع العلم والواقع؟ وقد أعلن ذلك الكثير من علماء الغرب، وعلى سبيل المثال نذكر ما قاله الفرنسي (لوازون): ( خلف محمد كتابًا آية في البلاغة وسجلاً في الأخلاق، وليس بينه وبين المسائل العلمية المكتشفة حديثًا أي تعارض. – من مقال بعنوان انتظروا معجزة من السماء نشرته جريدة أخبار اليوم المصرية ت 28/ 10/1972م.

(7): ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُو: بالمعاد: أيها الناس ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ: أي محمد (ص) ﴿يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ: عظام بالية، وأجزاء مبعثرة تعود بشرًا سويًا! لن يكون ذلك أبدًا، ولماذا؟ لا لشيء إلا لشعورهم الذاتي بالمحال، ولا أعجب من أهل الجاهلية أن يقولوا هذا، فنحن في القرن العشرين، وقال أكثر الناس أو الكثير منهم: محال أن يصعد الإنسان إلى القمر حتى صعد.

(8): ﴿أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ: كل من آمن بالمعاد، أو جعل الآلهة إلهًا واحدًا، أو ساوى بين الناس في الحقوق والواجبات وقال: ان للطاغين شر مآب – فهو مجنون أو كذاب! وهذا المنطق يشهد على نفسه بالجهالة والضلالة.

(9): ﴿أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم: وعن يمينهم وشمالهم من عظمة الله في خلقه، ويعلمون أن الله قادر على البعث بعد الموت تمامًا كقدرته على إيجاد الكون وخلقه؟ ﴿إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء: إن الله قادر على البعث، وأيضًا قادر أن يأمر الأرض فتبلعهم والسماء فتمطرهم قطعًا من العذاب ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ: راجع إلى عقله، والمعنى كل ذي لب إذا فكَّر وأمعن الفكر في قدرة الله ينتهي حتمًا إلى الإيمان بالبعث وإمكانه.

(10): ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ... : تقدم في الآية 79 – 80 من الأنبياء.

(11): ﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ: دروعًا كاسية واقية ﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْد: أحكم صنعها لكي تقي المقاتل من الطعن والضرب، ولا تمنعه عن الحركة.

(12): ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ: كانت الريح تحمل سليمان، وتقطع في الصباح مسيرة شهر كامل على الأقدام، وكذلك في المساء ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ: أسلنا: أذبنا، عين: نفس الشيء، تقول: هذا عين كتابي أي هو بالذات، والقطر: النحاس أو الحديد، وقد أذابه سبحانه لسليمان كما ألان الحديد لأبه داوود ﴿وَمَن يَزِغْ: ينحرف ويخرج عن الطاعة.

(13): ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ: جمع محراب وهو المعبد وما أشبه ﴿وَتَمَاثِيلَ: جمع تمثال وهو صورة الشيء ﴿جِفَانٍ: جمع جفنة وهي القصعة ﴿كَالْجَوَابِ: جمع جابية وهي الحوض الكبير ﴿وَقُدُورٍ: جمع قدر ﴿رَّاسِيَاتٍ: ثابتات، وتقدم في الآية 82 من الأنبياء، وتجدر الإشارة أنه قد كان ما كان لسليمان من قصور وجفان وتماثيل وأكاليل ولكن ما كان ذلك أو شيء منه على حساب العراة والجائعين كلا ولا بأيديهم كالأهرام في مصر، وقصر يلدز في القسطنطينية أو قصر الآس في غرناطة أو الحمراء في قرطبة أو قصور الملوك في عصرنا أو عصر البائدين، بل كان من عمل الجن لا من الإنس بنص القرآن الكريم.

(14): ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ: على سليمان ﴿الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ: السوسة التي تأكل الخشب ﴿تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ: وهي العصا، وخلاصة المعنى: مات سليمان متكئًا على عصاه وبقي كذلك إلى ما شاء الله، وكان الإنس والجن ينظرون إليه ويحسبونه حيًا، إلى أن دبت السوسة في عصاه، وأكلت جوفها فانكسرت وسقط سليمان، وعلم الجميع بموته، وقُضي على الخرافة القائلة بأن الجن يعلمون الغيب، ولو علموه ﴿مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ: وأخيرًا فنحن نؤمن ونصدق كل ما دلَّ عليه ظاهر هذه الآيات، وإن كان بعيدًا عن الأفهام، لأنه يتفق مع النقل ولا يخالف العقل.

(15): ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَ: قبيلة من العرب، سميت باسم أبيها، وفي قاموس الكتاب المقدس؛ أن بلاد سبأ في جنوب جزيرة العرب ﴿فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ: آية أي دلالة وعلامة على نِعم الله الوافرة، وعن يمين وشمال كناية عن الخصب والازدهار في كل جزء من أجزاء أرضها ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ: رزقًا وهواء ﴿وَرَبٌّ غَفُورٌ: لمن آمن واتقى، وقد أرسل سبحانه لقوم سبأ رسله وأنبياءه مبشرين ومنذرين.

(16): ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ
: بكسر الراء، ومعناه السد الذي يمسك الماء فيرتفع ويسقي الزرع ﴿وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ: شجر الأراك ﴿وَأَثْلٍ: الطرفاء ﴿وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ: أرسل سبحانه على قوم سبأ عذابًا خرب السد، وأهلك الزرع والضرع، وأبدلهم الحدائق الغناء أشجارًا ضرها أكثر من نفعها كالطرفاء والسدر وما أشبه مما لا تستسيغه إلا الحيوانات.

(17): ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُو: أطغاهم الغنى, وكفروا بأنعم الله، فكان جزاؤهم الذل والهوان بالجوع والفقر﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ: أبدًا لا يجزى جزاء الشر إلا فاعله.

(18): ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ: كان من أنعم الله على قوم سبأ أن قراهم كانت متواصلة متقارب بعضها من بعض مع كثرة الأشجار والثمار، فإذا ما سافر أحدهم لا يحمل طعامًا ولا شرابًا، فحيث نزل وجد الماء والثمر ﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ: وفوق ذلك كله الأمن والأمان للحاضر والمسافر ليلاً ونهارًا.

(19): ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَ: طلبوا من الله سبحانه أن يباعد القرى عن بعضها، ويجعل بينها مفاوز وفلوات كي يركبوا الرواحل ويحملوا، ويبدو من هذا أن للسفر متعة وفوائد على ما فيه من مشاق﴿وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ: بالطغيان وكفران النعم ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّق: شتتهم سبحانه ووزعهم في أقطار شتى حتى صاروا أُحدوثة للأجيال ومضرب الأمثال، ومن ذلك: (تفرقوا أيدي سبأ) وأبناء عاملة - أي أهل جبل عامل المعروف اليوم بجنوب لبنان – جاء ذكرهم في حديث لرسول الله (ص) ذكره ابن كثير في تفسيره ج3 ص531، وهذا نصه: (لسبأ من الولد عشرة: سكن اليمن منهم ستة وأربعة في الشام، أما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير، وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان).

(20): ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ: حيث قال (ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين – 39 الحجر) ﴿فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ: وتومئ كلمة (فريق) أن الكثرة الكاثرة من أهل الأديان وغيرهم من حزب إبليس.

(21): ﴿وَمَا كَانَ لَهُ: لإبليس ﴿عَلَيْهِم: على العباد ﴿مِّن سُلْطَانٍ: من حجة وبرهان أو إكراه وإرغام ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ: لا شيء عند الشيطان إلا التزيين والوسوسة بالباطل، ولا يستجيب له إلا من كان دينه في معدته وهيئته، أما من رسخ دينه في عقله وقلبه فيدعه الشيطان إلى من يستهويه ويغازله.

(22) – (23): ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ: قل يا محمد للمشركين: نادوا واستغيثوا بالذين زعمتموهم شركاء لله أو شفعاء عنده، ثم انظروا هل يسمعون وينفعون أو يضرون؟ كلا إنهم ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ: أي لا يملك آلهة المشركين زنة ذرة من خير و شر أو نفع وضر ولا معين لهم وشفيع، وفي هذا إبطال لقولهم: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى – 3 الزمر) ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ: - بتشديد الزين – أي ذهب الفزع ﴿عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ: للمفسرين في شرح هذه الجملة كلام غامض ومتضارب، ولعل أوضحه ما معناه أن الله سبحانه إذا تكلم وأوحى بشيء خاف أهل السماء والملائكة، فإذا انتهى سبحانه من وحيه وكلامه انكشف عنهم الفزع وذهب، وعندئذ يسأل أهل السماء: ما قال سبحانه؟ فيقول لهم الملائكة المقربون: قال، تقدست كلمته: الحق وهو العلي الكبير.

(24): ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ: جاء السؤال والجواب من رسول الله (ص) حيث لا خلاف بين السائل والمسئولين – أي المشركين – على أن الله وحده هو خالق الأرزاق والمرتزقة، وعليه فيجب أن يكون الإله إلهًا واحدًا في ذاته وصفاته ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ: هذا الأسلوب في الحوار والنقاش من خصائص العالم الواثق من نفسه كل الثقة، وكأنه يقول لخصمه: ابحث ودقق لتتعلم أي الفريقين أهدى سبيلاً.

(25): ﴿قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ: هذا هو الإسلام نصًا وروحًا في دعوته إلى الله وشريعته، يكشف عن الحق، ويدعمه بالأدلة، وبحث المدعوين على النظر وإعمال العقل، ويقول لهم من جملة ما يقول: (إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا – 46 سبأ) وتختاروا لأنفسكم ما تشاءون، فمن اهتدى منكم فلنفسه ومن ضلَّ فعليها.

(26): ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَ: يوم القيامة ﴿ثُمَّ يَفْتَحُ: يحكم ﴿بَيْنَنَا بِالْحَقِّ: ويجزي كل عامل بعمله.

(27): ﴿قُلْ أَرُونِي: الأنداد والأشباه والأضداد لله ﴿كَلَّ: بل أنتم تجهلون وتفترون.

(28): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ: يا محمد ﴿إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ: تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم بأساليب شتى، من ذلك: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعًا – 158 الأعراف... وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين – 107 الأنبياء) والسر أن الإسلام بعقيدته وشريعته يسع الإنسانية في كل زمان ومكان، لأنه يرفع من شأن الإنسان وكرامته وحريته، ويعتمد في أُصوله ومبادئه وأحكامه العقل والعدل، وكل منهما يأبى بطبعه التخصيص والتقييد بالأزمنة والأمكنة أو بأي شيء، وتقدمت الإشارة إلى ذلك في شتى المناسبات.

(29) – (30): ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ... : تقدم في يونس 48 وفي الأنبياء الآية 38 وفي النمل 71.

(31): ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ: لأنه جعل الآلهة إلهًا واحدًا، وفوق ذلك يهدد بالنشر والحشر ﴿وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ: من التوراة والإنجيل، فرد سبحانه مهددًا متوعدًا بقوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ: يوم القيامة في موقف الخزي والهوان والضنك والخذلان ﴿يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ: أي يتداولون الكلام غدًا فيما بينهم، وأوضح سبحانه نوع الحوار بين المستضعفين والمستكبرين بقوله: ﴿يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ: أنتم أيها القادة الطغاة صددتمونا عن الإيمان برسل الله، وأفسدتمونا وضللتمونا.

(32): ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ: دعوناكم إلى الشر، ودعاكم الرسل إلى الخير، فاستجبتم لدعوة الشر لأنكم من أهله ومعدنه.

(33): ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ: مكر فاعل لفعل محذوف أي صدنا عن الحق مكركم بنا في الليل والنهار ﴿إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ: وتمنوننا بالأباطيل والأكاذيب، وهكذا يجسم سبحانه أمام أعيننا: كيف يتعطف ويتعاضد الضال والمضل والفاسد والمفسد في دار الدنيا، ثم كيف يتباغضون ويتلاعنون في دار الحق ﴿ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُو: وهكذا يعرض سبحانه في كتابه صورًا شاخصة مائلة لمصير الدعاة المضللين ومن يثق بهم، وعاقبة المتزعمين وأذنابهم الإنتهازيين، عسى أن نتعظ ونعتبر.

(34): ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ: ليس المراد بالمترفين الأغنياء على وجه العموم، كيف ورسول الله (ص) تعوذ من الفقر وقال: كاد الفقر يكون كفرًا، اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا. المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف. وكان خليل الرحمن كثير المال حتى ضاقت بلدته بمواشيه، وإنما المراد بالمترفين المحتكرون لموارد العباد والمتحكمون بالأسواق والأسعار.

(35): ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ: هذا هو منطق المترفين المحتكرين: العيش الأكثر رفاهية، والمال الأكثر جمعًا وتراكمًا ولو عن طريق النهب والاغتصاب – هو مقياس الحق والعدل، بل ومرضاة الله أيضًا حيث يستحيل من حقه وعدله أن يعطيهم هذا الثراء في الحياة الدنيا ثم يعذبهم عليه في الآخرة! وجهلوا وتجاهلوا أن هذا الثراء من الحرام لا من الحلال، وأن الله سبحانه يحاسب عليه من أين أتى؟ وفيما أُنفق؟ إضافة إلى قوله تعالى: (إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا – 178 آل عمران... يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم – 35 التوبة).

(36): ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي... : تقدم في الآية 26 من الرعد وغيرها.

(37): ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم: ولا شيء على الإطلاق يقربكم من الله إلا العمل الصالح النافع للفرد والجماعة، فهو وحده المقياس لمرضاة الله وجناته.

(38) – (39): ﴿وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ: تقدم في الآية 51 من الحج و 5 من السورة التي نحن بصددها ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ: ويضاعفه أيضًا بنص الآية 261 من البقرة: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء) وجربت بنفسي وقرأت وسمعت كثيرًا أن الصدقة دفعت أعظم البلايا والرزايا، وفي الحديث أن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل، وفي نهج البلاغة الصدقة دواء منجح.

(40): ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ: القصد من هذا السؤال مجرد تقريع المشركين وتوبيخهم، وتدل الآية أن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة.

(41) – (42): ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَ: نحن عبادك، وأعداء لمن عبد سواك ﴿مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ: المراد بالجن هنا من زين الشرك والتعبد لغير الله.

(43): ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا... : كان رسول الله (ص) إذا تلا القرآن على العتاة المعاندين يقولون للناس: إن دين الآباء والتعبد للأصنام هو الحق والصدق، والذي جاء به هذا الرسول سحر وزور، وما يدرينا أن محمدًا (ص) لو بعث في عصرنا الراهن لقالوا عنه مثل هذا القول وزيادة لأنه يرى ما لا يرى أهل الأرض في شرقها وغربها، ويشعر بغير ما يشعرون.

(44): ﴿وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ: يا محمد ﴿مِن نَّذِيرٍ: ما نزل عليهم وحي من السماء بدين الشرك ولا أمرهم رسول بذلك من قبل محمد (ص) والعقل الخالص يحكم بالتوحيد لا بالشرك، وإذن لا أساس لما هم عليه إلا الجهل بالجهل.

(45): ﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ: ما بلغ الذين كذبوا محمدًا (ص) من المال والقوة معشار ما ملك الأولون، ومع هذا لما كذبوا رسل الله أخذهم سبحانه بالهلاك والدمار، فليتعظ بأخبارهم وما حل َّ بهم من كان له قلب وعقل، وتقدم في الآية 69 من التوبة.

(46): ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ: أعظكم: أنصحكم، بواحدة: بخصلة واحدة وهي أن تقوموا: من القيام بالأمر مثل قوله تعالى: (كونوا قوامين بالقسط – 135 النساء) مثنى: يسأل بعضكم بعضًا ويراجعه، فرادى: يرجع كل فرد منكم إلى عقله وضميره، والمعنى قل يا محمد للذين نعتوك بالجنون: ادرسوا وفكروا في أمري من البداية حتى النهاية مجتمعين ومنفردين، هل تجدون في حياتي كلها من قول أو فعل– ما يومئ من قريب أو بعيد إلى الجنون؟ هذا هو العدل ومنطق العقل، ومن كفر به وصدَّ عنه فهو المجنون. وأعجب ما قرأت من الافتراء على سيد البشر وخاتم الرسل ما جاء في مجالة عالم الفكر الكويتية ج8 عدد4 ص138، وهذا نصه بالحرف الواحد: (أكد الكثير من الكتَّاب – المسيحيين – أن محمدًا كان كردينالاً مسيحيًا طموحًا اخترع الإسلام نتيجة عجزه عن الوصول إلى كرسي البابوية)!.

(47): ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ... : تقدم في الآية 72 من يونس وغيرها.

(48): ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقّ: يوحي به إلى رسله وأنبيائه.

(49): ﴿قُلْ جَاء الْحَقُّ: أي دين الحق وهو الإسلام ﴿وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ: أي دين الباطل وهو الكفر والشرك﴿وَمَا يُعِيدُ: لا يتكلم بكلمة بادئة ولا عائدة، بل الشرك ذهب واضمحل.

(50): ﴿قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي: ومن هذه الآية استوحى العالم المتخلق بأخلاق القرآن قوله حين يفتي بمسألة شرعية: إن يكن هذا صوابًا فمن الله وهدايته، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان.

(51): ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ: سترى بعينيك يا محمد كيف نأخذ بسهولة قادة البغي وعتاة الجبروت، إلى أخذ العذاب، ولا مفر لهم من نكاله وضراوته، والمكان القريب كناية عن أنهم في يد الله وقبضته.

(52): ﴿وَقَالُوا آمَنَّا بِه: يقولون حين يرون الطامة الكبرى: آمنا بمحمد ﴿وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ: أي وكيف ينالون الإيمان وهم في الآخرة، والإيمان في الدنيا التي ذهبت كالأمس الدابر.

(53): ﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ: يكفرون بالحق حيث يجب الإيمان به، ويؤمنون به ساعة الحساب عليه﴿وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ: فيقولون: لا نشر وحشر ولا جنة ونار رجمًا بالغيب ﴿مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ: بحيث لا يصل السهم إلى هدفه ومرماه.

(54): ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ: اشتهوا وطلبوا المحال، وهو الخلاص من أليم العذاب تمامًا كالأمم الماضية آمنت وطلبت النجاة حين رأت المهلكات! ما كان أغناها عن الحالين لو آمنت بالتوحيد حين دعاها الرسل إليه وهي في الحياة الدنيا ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ: حيث وضع في تصورهم أن الحياة الثانية محال، كيف وقد صار الإنسان ترابًا وهبابًا؟ وما أبعد هذا التصور من تصور الإمام (ع) حيث قال: عجبت ممن أنكر النشأة الأخرى، وهو يرى النشأة الأولى!.


* التفسير المبين / العلامة الشيخ محمد جواد مغنية.

2015-12-10