يتم التحميل...

سورة فاطر

تفسير الكتاب المبين

سورة فاطر

عدد الزوار: 84

(1): ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: خالق الكون على غير شبيه ومثيل من قبل، ويرادف كلمة الفاطر كلمة المبدع والمخترع ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلً: أي اتخذ مهم رسلاً بينه وبين أنبيائه ﴿أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ... : ومعنى هذا أن للملائكة أجسامًا وليسوا مجرد أرواح، لأن لهم أجنحة، والفرق أن للطير جناحين وبعض الملائكة لهم أكثر من ذلك، ونحن على يقين من هذا لأننا عبيدٌ لظاهر النص إلا إن يتعارض مع العقل والواقع فنلجأ إلى تأويل الظاهر بما يتفق معهما على أساس المحافظة على قوانين اللغة.

(2): ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ: هو وحده المعطي والمانع، ولا مانع لما أعطى، أو معطي لما منع أبدًا ما شاء كان وإن لم يشأ لم يكن، ومعنى هذا أن على المؤمن العاقل أن لا ييأس من روح الله مهما ضاقت الحلقات، وأيضًا عليه أن لا يأمن المخبآت والمفاجآت حتى ولو أقبلت عليه الدنيا بكاملها.

(3): ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ: بالطاعة له وحسن السلوك مع عباده بكف الأذى عنهم ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ: كلا، وإذن علا تبيع دينك للشيطان – أيها الإنسان – طمعًا بالحرام، وتتذلل للأغنياء حتى يتصدقوا عليك بالفتات.

(4): ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ: يا محمد ﴿فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ: واضح وتقدم في الآية 184 من آل عمران.

(5): ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ: الحساب والجزاء بعد الموت واقع لا محالة ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَ: ببهجتها وحلاوتها ﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ: الشيطان ووسوسته وتقدم في الآية 33 من لقمان.

(6) – (7): ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا... : نستفيد من هذه الآية أن علة الوصف بالشيطنة هي عداوة الإنسان، وعليه فكل من أضمر الأذى وأساء لأي فرد من أفراد الإنسان فهو شيطان رجيم ولعين حتى ولو صلى وصام وحج إلى بيت الله الحرام.

(8): ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنً: جواب الشرط محذوف وتقديره كمن لم يزين له؟ والأول ضال عن نهج السبيل، والثاني على الصراط الحميد، وقال العقاد في التعريف بالمغرور: لو قال الإنس والجان جميعًا للمغرور: أنت أجهل الناس وأحقر الناس وشر الناس وأضعف الناس – لكذَّبهم وصدق المغرور، لأن فيه العزاء والسلوى عن جحود الثقلين بخلاله الجلي؛ ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء: هذا تعليل لقوله تعالى: (أفمن زين له سوء عمله) أي أن الله أضله لأنه سلك طريق الضلال تمامًا كما يميت من يشرب السم المميت﴿وَيَهْدِي مَن يَشَاء: لأنه سلك نهج الهداية تمامًا كقوله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا – 69 العنكبوت) وتقدم مرارًا، منها الآية 27- الرعد ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ: النبي بشر يفرح ويحزن، وقد تأسف وتألم لإعراض من أعرض عن دعوته، فقال له سبحانه: هوِّن عليك إن الله عليم بما يصنعون، وسوف يأخذهم بما يستحقون، وتقدم في الآية 6 من الكهف.

(9): ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ... : تقدم في الآية 57 من الأعراف.

(10): ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعً: لأنه غني بالذات عن كل شيء، وإليه يفتقر كل شيء، في كل شيء، ومن اعتز بغير الله وتقواه فما له إلى الذل والهوان ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ: والكلام الطيب الذي يصعد إليه تعالى ويكون مقبولاً ومذخورًا – هو ما أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس أو ترك أي أثر مفيد للفرد والمجتمع كما جاء في الآية 114 من النساء ﴿وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ: وأصلح الأعمال على الإطلاق ما يحرر الحياة من العوز والفقر والمرض والجهل، وينصر الحق والعدل ﴿وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ: يدبرون الأذى والإساءة إلى الأبرياء الطيبين ﴿لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ: لا يجديهم شيئًا حيث يفتضحون، وتنزل عليهم لعنة الله واللاعنين، وكتب الأديب اليوناني الشهير (نقوس كازندزاكي) عن أبيه ما نصه: حين كنت في المدرسة كان أبي يسأل: هل ابني كذب على أحد؟ وهل أساء إلى أحد. هذا ما كان يهمه من تربيتي وما عدا ذلك فأمر ثانوي.

(11): ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ...: تقدم في الآية 5 من الحج ﴿ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجً: أصنافًا أسود وأبيض ذكرًا وأنثى ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ: لأنه محيط بكل شيء ﴿وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ: طويل العمر ﴿وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ: قصير العمر، والهاء في (عمره) يعود لمطلق الإنسان لا لطويل العمر ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ: أي في علم الله.

(12): ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ: ذكر سبحانه في كتابه النجوم والكواكب والإنسان والحيوان والبحار وكل أشياء الكون لننظر ونفكر ونستنتج بأن وراء الكون مهيمن ومدبر، وتقدم في الآية 53 من الفرقان ﴿وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّ: يعني السمك ﴿وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً: تقدم بالنص الحرفي في الآية 14 من النحل.

(13): ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ: كل ذلك وغيره يدل على قدرة الخالق التي صنعت كل شيء، وتقدم في الآية 27 من آل عمران وغيرها ﴿مِن قِطْمِيرٍ: قشر رقيق على نوى التمر.

(14): ﴿إِن تَدْعُوهُمْ: الآلهة من دون الله ﴿لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ: إن كانت الآلهة أحجارًا وكواكب وما أشبه﴿وَلَوْ سَمِعُو: إن كانوا من الإنس أو الملائكة ﴿مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ: لأنهم لا يملكون شيئًا ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ: يبرأون منكم ويوبخونكم على الشرك والضلال.

(15): ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ: افتقار المخلوق إلى خالقه دون العكس قضية ضرورية الصدق واليقين، تستمد هذه الضرورة من صلب تكوينها اللفظي تمامًا كما يقول: للمثلث زوايا ثلاث، وعلى هذا يكون الغرض من الآية أن يتوكل الإنسان في جميع أموره على خالقه ويتضائل أمام عظمته، ويتجرد عن كل كبر وعجب وغطرسة حتى ولو كان أقوى الأقوياء مالاً وسلطانًا وهذا النوع من الفقر محبوب ومطلوب عند الله والعقلاء، لأن الشعور به يدفع إلى الخير، ويمنع عن الشر.

(16) – (17): ﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ: لا تضره تعالى معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه وإلا لأتى بقوم لا يعصون ما أمر، وتقدم في الآية 19 من إبراهيم.

(18): ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى: لكل امرئ عمله، ولا يعذب عذابه أحد، وتقدم بالحرف في الآية 164 من الأنعام ﴿وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَ: كل نفس تحمل أوزارها وأثقالها، وإذا طلب من قريب أو حبيب أن يحمل عنها ويخفف من حملها ﴿لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى: لأن كل إنسان في شغل شاغل بنفسه عن غيره ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ: الدليل الأقوى على الإيمان والتقوى أن يتورع المرء عن الحرام ومعصية الله، والناس كل الناس بعيدون عنه وغائبون، لا يخشى منهم عتاب أو عقاب، وهؤلاء هم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

(19) – (23): ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ... : ليس عند الله وفي الواقع من انحرف عن الحق إلى الباطل وعن العلم إلى الجهل، وعن مرضاة الله ونعيمه إلى غضبه وجحيمه ﴿إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء: وهم الطيبون الذين يبحثون عن السبيل المؤدية إليه كما قال سبحانه: (لو علم فيهم خيرًا لأسمعهم – 23 الأنفال)﴿وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ: المراد بهم هنا الذين لا يدينون بأي دين ولا يفهمون أية لغة إلا لغة (أنا ومن بعدي الطوفان).

(24): ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرً: داعيًا إلى هدي البشر وإسعاده ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ: من نبي مرسل أو كتاب منزل أو حجة من عقل أو سنة فاضلة عادلة، وتقدم في الآية 36 من النحل وغيرها.

(25) – (26): ﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ... : تقدم مرات منها في الآية 184 من آل عمران ﴿وَبِالزُّبُرِ: الكتب أو الحكم والمواعظ ﴿وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ: كتوراة موسى وإنجيل عيسى وصحف إبراهيم الأولى.

(27): ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء: فاهتزت الأرض ونمت وأنبتت أشكالاً وألوانًا وتقدم مرات، منها الآية 5 من الحج ﴿وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ: جمع جُدة بضم الجيم وهي الطريق والجادة ﴿بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ: بعض هذه بيض، وبعضها حمر، وبعضها سود، وإذا وصف العرب الشيء بكثرة السواد قالوا أسود غربيب.

(28): ﴿وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ: أي وكذلك كل ما دب على قوائم، ومنها الأنعام: الإبل والبقر والغنم هي مختلفة في ألوانها، وهذا التفاوت في الألوان دليل على قدرة الله وحكمته ولا أثر له إطلاقًا في الامتياز والتفاضل ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء: وكلمة (يخشى) توحي بأن العلم الخالص من كل شائبة يؤدي حتمًا إلى معرفة الله وخشيته، وما من شك أن نكران الذات والأنانية من لوازم الخوف من الله وآثاره، ومعنى هذا أن من يكفر بالله أو آمن به نظريًا وجحده عمليًا فما هو من العلم الخالص في شيء، واستوحيت تفسيري هذا لعلماء الخشية من قول أمير المؤمنين وإمام المتقين في وصفهم: (عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم).

(29): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ: ويعملون به وإلا فكم قارئ للقرآن والقرآن يلعنه كما جاء في الحديث الشريف، لأن القرآن يلعن الكاذبين في الآية 61 من آل عمران والظالمين في الآية 44 من الأعراف والمفسدين في الآية 25 من الرعد، بل ويلعن كل مجرم وآثم، فإذا قرأ الفاسق والمجرم القرآن فقد لعن نفسه بنفسه إضافة إلى لعنة الله وقرآنه ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا... : تدخل الصلاة والزكاة في العمل بموجب القرآن﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ: لأنها مع الله ولوجهه الكريم.

(30): ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ... : لأنه لا يضيع أجر المحسنين بل ويزيدهم من فضله ورحمته.

(31): ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ: لأنه يقوم على أساس من الواقع، ولا يعو إلا إلى خير، ولا ينهى إلا عن شر ﴿مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ: من كل كتاب ينطق بالصدق والعدل.

(32): ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَ: المراد بالكتاب القرآن، وقد ورثه كدين كل مسلم يقول: الله الذي لا إله إلا هو ربي ومحمد رسول الله نبيي، - القرآن المنزل عليه كتابي، أما الإصطفاء فالمراد به اختياره تعالى لصفوة الخلق الذين تجب طاعتهم تمامًا كطاعة القرآن وهم أهل بيت محمد (ص) بنص حديث الثقلين الذي يقول: (إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله وعترتي أهل بيتي) وهو مروي بالعديد من الطرق، منها ما جاء في صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عليّ بن أبي طالب وصحيح الترمذي ج2 ص308 طبعة بولاق سنة 1292 هـ نقلاً عن كتاب فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ومنها ما قاله الشيخ محمد عبدة في التعليق على الخطبة 85 من خطب نهج البلاغة، وهذا نصه بالحرف: (الثقل هنا بمعنى النفيس من كل شيء، وفي الحديث عن النبي (ص) قال: تركت فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي) ﴿فَمِنْهُمْ: من المسلمين الوارثين للقرآن أبًّا عن جد لا من الصفوة لأن الشيء الواحد لا ينقسم إلى نفسه وغيره ﴿ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ: وهو المتهاون في فعل بعض الواجبات وترك بعض المحرمات ﴿وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ: أي معتدل، وهو الذي زحزح عن النار لخروجه عن عهدة ما كلف به ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ: وهو من جاهد وضحى في سبيل الحق والدين أو ترك أثرًا ينتفع به الفرد والمجتمع.

(33) – (35): ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ...: للسابقين إلى الخيرات، والذين لم يقترفوا السيئات أو اقترفوا شيئًا منها، ولكن حسناتهم أرجح، أما الذين استوت حسناتهم مع سيئاتهم فعسى الله أن يتوب عليهم كما في الآية 102 من التوبة ﴿وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ:وإن سأل سائل: لماذا أحل الله للرجال من أهل الجنة لبس الذهب والحرير، وحرمه عليهم في الدنيا؟ قلنا في جوابه: لأنه تعالى حرمه عليهم في الدنيا.

(36): ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُو: بل (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها 56- النساء) ﴿وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَ: لا كيفًا ولا فترة استراحة.

(37): ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَ: يصيحون مستغيثين ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَ: الآن وكنتم في الدنيا بالعذاب تستعجلون، وتقدم في الآية 100 من (المؤمنون) ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ: ما يتذمر (ما): مصدرية ظرفية، ومن تذكر: العاقل المتذكر، والمعنى أمهلناكم في دار الدنيا أمدًا طويلاً لكي تتذكروا وتتدبرو﴿وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ: يبيَّن لكم الحق ويدعوكم إليه، فأمهلتم وسوفتم ﴿فَذُوقُو: ما كنتم تكسبون، وبه تكفرون، ومنه تضحكون وفي نهج البلاغة: العمر الذي أعذر الله إلى بني آدم ستون سنة.

(38): ﴿إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: وما في السرائر والضمائر، وهو يجازي بموجب علمه تعالى كل عامل بما يستحق.

(39): ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ: يرثها جيل بعد جيل، ومنحكم العقل والحرية والقدرة على التحكم بها وبخيراتها، وساوى بينكم في جميع الحقوق والواجبات، ونهاكم عن البغي والفساد والمشاحنات، فمن أحسن واتقى فله أجر كريم، ومن أعرض ونأى فله عذاب الجحيم.

(40): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ: احتج سبحانه في هذه الآية على المشركين بأمور ثلاثة 1) ﴿أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ: لله آثار تدل على وجوده ونفي الشريك أيضًا، لأن القانون الذي يسيِّر المجرات الكبيرة، فهل للشريك المزعوم من آثار؟ وأين هي؟ 2) ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ: المراد بالشرك هنا النصيب والأثر، والمعنى أيضًا لا أثر للشريك في السماء 3) ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ: أي أم أنزلنا على المشركين ﴿كِتَابً: من السماء يقول: أن لله شركاء ﴿بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورً: كان المستكبرون يقولون للمستضعفين أن الأصنام سوف يشفعون لكم غدًا عند الله، وما من شك أن هذا الوعد زور وغرور.

(41): ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَ: أمسك سبحانه الكواكب بقانون الجاذبية تمامًا كما سيَّر الطائر بجناحيه، وجعل الإنسان بصيرًا بعقله وعينيه، وحركة برجليه وتقدم في الآية 65 من الحج.

(42): ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ: جمع يمين، وكان عتاة قريش قبل محمد (ص) يحلفون بالله ويبالغون في الحلف والأيمان ﴿لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ: رسول من الله ﴿لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى: وأطوع له ﴿مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ: أي من أُمة من الأُمم أي من كل الأُمم وأكثر منها انقيادًا لأنبيائها ﴿فَلَمَّا جَاءهُمْ: محمد رسولاً من ربهم يتلو عليهم آياته – نفروا واستكبروا وبالغوا في حربه وإيذائه.

(43): ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ: من سلَّ سيف البغي قتل به، ومن حفر حفرة لأخيه وقع فيها، والحقيقة النابعة من الحق والواقع لا تموت، وإنما تموت الخرافات والأكاذيب، ولذا نصر سبحانه عبده محمدًا، وأظهر دينه على الشرك كله ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ: وهم أعداء محمد (ص) والإسلام ﴿إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ: وهي هلاك من كذب أنبياء الله ورسله أو يخذل سبحانه المكذبين كما خذل عتاة الشرك حين استسلموا في النهاية لرسول الله صاغرين.

(44): ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ:البغي والباغين وقرأت من جملة ما قرأت (أن قانون الفعل يقابله رد الفعل، وأن هذا الرد يعم ويشمل الأشياء الطبيعية والحياة الاجتماعية) وهذا صحيح من غير شك، لأن العلم رد فعل للجهل، والإصلاح رد فعل للفساد تمامًا كالدواء بالنسبة إلى الداء، وتقدم مرارًا، منها في الآية 109 من يوسف ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ: لأنه قادر على كل شيء، وإذا قدر غيره على شيء فإنه يعجز عن أكثر الأشياء.

(45): ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا... : جاء في الكتب الخاصة بأسمائه تعالى اسم الصبور وهو غير وارد في القرآن، والفرق بينه وبين الحليم أن الصبور لا تؤمن العقوبة منه، وصفة الحلم وحي بالعفو، ومعنى صبره تعالى أن لا يعجل لأنه لا يخشى الفوت، وإنه يحدد للعقوبة أجلاً معيَّنًا لا تتقدم عليه ولا تتأخر عنه. وفي نهج البلاغة: الحذر الحذر، فو الله لقد ستر حتى كأنه قد غفر، وتقدم في الآية 61 من النحل.


* التفسير المبين / العلامة الشيخ محمد جواد مغنية.

2015-12-10