(1) - (2): ﴿حم عسق﴾: تقدم في أول البقرة.
(3) - (4): ﴿كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾: الله سبحانه قادر وحكيم، وبقدرته وحكمته بعث الأنبياء
بالحق إلى الخلق، وجعلهم حجة له على عباده لئلا تجب الحجة لهم بترك الأعذار إليهم.
(5): ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ﴾: وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدًا من قول
المشركين: اتخذ الرحمن ولدًا كما أشارت الآية 91 من مريم ﴿مِن فَوْقِهِنَّ﴾: أي
يحدث انشقاق السموات من أعلاهن ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾:
ينزهونه عن الشريك والولد ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ﴾: من أهل التوحيد،
ويطلبون الهداية لمن جحد أو أشرك.
(6): ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ﴾:
الله يعلم المؤمن والكافر والبر والفاجر، ويجزي كلاَّ بما يعمل ويدين ﴿وَمَا أَنتَ﴾:
يا محمد ﴿عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾: بل أنت بشير ونذير، وتردد هذا في العديد من الآيات،
منها الآية 108 من يونس.
(7): ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّ﴾: واضحًا جليًا. أُنظر
الآية من يوسف و3 من فصلت ﴿لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى﴾: مكة المكرمة ﴿وَمَنْ
حَوْلَهَ﴾: أي والعرب، ومنهم تنطلق الدعوة وتنتشر في أرجاء العالم كما حدث بالفعل
﴿وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ﴾: تدعو الناس إلى الإيمان بيوم القيامة والخوف من
حسابه وعذابه.
(8): ﴿وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾: لو كان الناس مسيَّرون
لا مخيَّرون لم يكن هناك كفر وإيمان ولا خير وشر، وتقدم مرات، ومنها الآية 48 من
المائدة ﴿وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ﴾: وهم المؤمنون المطيعون
لقوله تعالى: (ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله-71 التوبة).
(9): ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ﴾: الله
ولي العبد الناصر له والمتولي لأموره، والعبد ولي الله بمعنى المطيع له والموالي
لمن والاه والمعادي لمن عاداه.
(10): ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾: هذه حكاية
لكلام الرسول الأعظم(ص) بدليل قوله بلا فاصل: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ
تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾: كل شيء يختلف الناس فيه فمرجعه إلى كتاب الله
وسنة نبيه، وتقدم في الآية 59 من النساء: فغن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله
والرسول.
(11): ﴿فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: خلق الكون بأرضه وسمائه ﴿جَعَلَ لَكُم
مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجً﴾: كي تتعاطفوا وتتبادلوا الرحمة والمودة ﴿وَمِنَ
الْأَنْعَامِ أَزْوَاجً﴾: أصنافًا وذكورًا وإناثًا، وتقدم في الآية 143 من
الأنعام﴿يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ﴾: يكثركم في هذا التدبير نسلا بعد نسل وجيلا بعد جيل
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾: ذاتًا ووصفًا، لأنه خالق كل شيء وفوق كل شيء.
(12): ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: أُمور الكون كلها في قبضته
﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ... ﴾: تقدم في الآية 26 من الرعد.
(13): ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا... ﴾: الخطاب في (لكم)
للمسلمين، والمعنى أن الذي جاء به محمد هو امتداد لما جاء به نوح وإبراهيم وموسى
وعيسى، وإنما خصَّ سبحانه هؤلاء بالذكر لأن لكل واحد منهم شريعة تتفق مع شريعة
الآخرين بعقيدتها كالتوحيد والبعث، وبمبادئها وأحكامها كوجوب الواجبات وتحريم
المحرمات، وتدعيم القيم الأخلاقية ومحاربة الإنحراف والرذيلة وتفترق عن الأخرى في
بعض الفروع الإجتماعية والإقتصادية التي تصلح لزمان دون زمان ﴿أَنْ أَقِيمُوا
الدِّينَ﴾: الإسلام، والمصدر من أن أقيموا بدل من(ما وصى) ﴿وَلَا تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ﴾: شيعًا ومذاهب، إن كنتم حقًا من أهل الإسلام والقرآن، والذين لا يجمعهم
الإيمان بالله الرحمن الرحيم وبمحمد نبي الرحمة والإنسانية- محال أن يجمعهم شيء إلا
جيفة يتكالبون عليها تمامًا كوحوش الغاب ﴿كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا
تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ﴾: يا محمد، أولا لأنك لا تملك مالا ولا سلطانًا، ثانيًا لأنك
تدعو إلى الحق، وما هم من أهله ولا في معدنه ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن
يَشَاء﴾: كُبر وثقُل على العتاة أن تكون رسولًا يا محمد، ولكن الله أعلم بشمائلك
وفضائلك، ولذا اختارك سيدًا للرسل وخاتمًا للأنبياء ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن
يُنِيبُ﴾: من يلجأ إليه بصدق وإخلاص، وفي الآية 11 من التغابن: (ومن يؤمن الله يهد
قلبه).
(14): ﴿وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا
بَيْنَهُمْ﴾: اختلفنا في الحق ونحن أعلم الناس به، وإذن لا سبب موجب للخلاف إلا خبث
السرائر، وتقدم في الآية213 من البقرة ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن
رَّبِّكَ... ﴾:شاءت حكمته أن يرجئ العذاب ليوم المعاد وإلا لأخذ به الطغاة في هذه
الحياة، وتقدم في الآية19 من يونس﴿وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ﴾: اليهود
والنصارى المعاصرون لمحمد (ص) ﴿مِن بَعْدِهِمْ﴾: من بعد الأنبياء أو الأجيال
السابقة ﴿لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ﴾: من محمد.
(15): ﴿فَلِذَلِكَ﴾: إشارة إلى دين محمد وإقامته ﴿فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا
أُمِرْتَ﴾: اثبت على الدين الحنيف والدعوة إليه ﴿وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ﴾: أي
أهواء المشركين، والخطاب لمحمد (ص) وتسأل: قال سبحانه في الآية 80 من النساء (من
يطع الرسول فقد أطاع الله) ومعنى هذا أن الرسول معصوم، وقال سبحانه هنا للرسول
نفسه: لا تتبع أهواء المشركين، وتكرر هذا النهي في العديد من الآيات، منها قوله
تعالى: (ياأيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين-1 الأحزاب) فكيف ساغ
النهي عن المعصية مع وجود العصمة؟ الجواب: ذكرنا فيما سبق الوجه المسوغ لهذا النهي،
والآن نعطف عليه: جعل سبحانه الرسول طاعة الله لأن الرسول لا ينطق إلا بأمر الله،
وكل من ينطق به تجب طاعته، ونهى سبحانه الرسول عن المعصية تقريرًا وتوكيدًا لشعور
الرسول بأنه عبد من عباد الله، وتنبيهًا لنا نحن بأنه عبدٌ لله كيلا نتخذه شريكًا
لله، كما فعل غيرنا من الطوائف، ويؤكد هذا قوله تعالى لرسوله: ﴿وَقُلْ آمَنتُ بِمَا
أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا
وَرَبُّكُمْ﴾: أعلن يا محمد إيمانك بالكتب المنزلة من السماء وعدلك بالحكم بين
الناس بإذن الله رب العالمين ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾: لا
تسألون عما أجرمنا، ولا نسأل عما تعملون ﴿لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ﴾: لا
جدال ولا مناظرة ﴿اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَ﴾: يوم القيامة، ويحكم وهو خير
الحاكمين.
(16): ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ﴾: أي
لله سبحانه، والمعنى أن الذين ناصبوا العداء لله والإسلام لما رأوا الناس يدخلون
فيه، ويستجيبون له، أخذوا يجادلوهم فيه بالتهويش والباطل الذي لا يسعفهم بشيء، ولذا
قال سبحانه: ﴿حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ﴾: زائفة باطلة.
(17): ﴿اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ﴾: القرآن ﴿بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ﴾:
العدل أي إن كل ما فيه حق، ويفصل بين الناس بالعدل ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ
السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾: ومن مات فقد قامت قيامته، لأن الموت آخر ساعة من ساعات الدنيا
وأول ساعة من آخرة المَّيت.
(18): ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَ﴾: وعليه يكون هذا
الإستعجال لمجرد التهكم والسخرية، وكثير من الناس يسخفون بأنفسهم، ويخوضون بها
المهالك من حيث لا يشعرون ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ
أَنَّهَا الْحَقُّ﴾: من يؤمن بالبعث والحساب يشعر بأنه مسؤول عن عمله، فيُقبل على
الخير طمعًا بالنجاة وحسن الثواب، ويبتعد عن الشر خوفًا من شر المآب، ومن يكفر
بالبعث والحساب يرى الحياة الدنيا فرصته الوحيدة للإستماع بكل ما لذَّ وطاب من حلال
أو حرام، لا يصده خلق أو قانون إذا ضمن السلامة وأمن العقاب ﴿أَلَا إِنَّ الَّذِينَ
يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ﴾: يجادلون في وجودها ﴿لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾: أوغلوا في
الغواية والجهالة.
(19): ﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾: يرفق بهم ﴿يَرْزُقُ﴾: يخلق الأرزاق كلها،
وأعظمها سلامة العقول وصدق العقيدة وصحة الأبدان ﴿مَن يَشَاء﴾: أي ما شاء كان، وما
لم يشأ لم يكن.
(20): ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾: المراد
بالحرث هنا العمل، والمعنى من كافح وناضل صامدًا محتسبًا لإقامة العدل وإحقاق الحق
لا يرهب طاغيًا وباغيًا- أمده الله بعونه وتوفيقه، وزاد في حسناته أضعافًا مضاعفة
﴿وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ
مِن نَّصِيبٍ﴾: أما من عمل لنفسه وكفى، وقاس الحق والعظمة بسيارته والعدل والخير
كله بمعاشه (وبدلته)- فإنه ينال ما أراد كله أو بعضه، ولكنه عند الله والناس يقدّر
بما قاس به الحق والعدل، (ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون-19
الأحقاف) وتقدم في الآية 145 من آل عمران وغيرها.
(21): ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ
اللَّهُ﴾: على أي شيء يعتمد ويستند الذين لا يعملون إلا لأنفسهم وذويهم منكرين
البعث والحساب؟ هل لهم قرناء مضللون وضعوا لهم دينًا يأمرهم بالنكر ونهاهم عن
المعروف؟ ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ﴾: وهي (اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا
عمل) ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾: بتعجيل النقمة والعذاب.
(22): ﴿تَرَى الظَّالِمِينَ﴾: يوم القيامة ﴿مُشْفِقِينَ﴾: خائفين ترتعد فرائصهم
لسوء أعمالهم ﴿وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ: العذاب الذي خافوا منه بعد النشر والحشر
﴿وَالَّذِينَ آمَنُو﴾: بالله واليوم الآخر، وعملوا له، في ملاذ مما لا عين رأت ولا
أُذن سمعت.
(23): ﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ﴾: ذلك إشارة إلى نعيم الآخرة، أعده سبحانه للمتقين، وبشرهم به
ليفرحوا ويعملوا جاهدين.
﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾: قال
ابن كثير من شرح وكلام طويل لهذه الآية ما نصه بالحرف الواحد: (ثبت في الصحيح أن
رسول الله قال في خطبته بغدير خم: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل
بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) وفي تفسير البحر المحيط لأبي حيان
الأندلسي وروح البيان لإسماعيل حقي: (لما نزلت هذه الآية قيل يا رسول الله من هم
قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: عليّ وفاطمة والحسن والحسين) وفي الجزء الأول
من كتاب فضائل الخمسة: أن الطبري والسيوطي والزمخشري فسروا القربى في هذه الآية
بقرابة الرسول الأعظم (ص).
(24): ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبً﴾: قال المفترون: محمد مفتر
بدعوى النبوة! فردّ سبحانه على هؤلاء بقوله: ﴿فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى
قَلْبِكَ﴾: لو حاول محمد الإفتراء على الله لطمس على قلبه وسلبه الوعي والشعور
ولكنه منزَّه عن الكذب بعصمته بل بطبعه ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ
الْحَقَّ﴾: محمد على حق وأعداؤه على باطل، ولذا جعل سبحانه كلمتهم هي السفلى، وكلمة
محمد هي العليا.
(25): ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ
السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾: أي يعلم سبحانه هل صدق التائبون ما
عاهدوا الله عليه من ترك المعاصي أو نقضوا العهد من بعد ميثاقه؟ وفي الحديث: المقيم
على المذنب وهو يستغفر كالمستهزئ. أي يضيف إلى ذنبه ذنبًا آخر أخطر وأكبر.
(26): ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا... ﴾: يدعو سبحانه إلى سبيل الحق، فيستجيب
الطيبون، وينفر المجرمون، فيعاقب هؤلاء، ويثيب أولئك.
(27): ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ﴾:
أناط سبحانه أرزاق الناس بالأعمال لينصرف الفلاح إلى حقله والعامل إلى معمله،
والتاجر إلى متجره... ولو أنه تعالى رزقهم من غير عمل لملوا الحياة، واشتغل بعضهم
ببعض، وتلهوا بالفسق وقضاء الشهوات، وبأعمال لا جدوى منها ولا هدف لها ﴿وَلَكِن
يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء﴾: أي بقدر عمل الإنسان، لأنه تعالى أبى أن يجري
الأمور إلا على أسبابها أما الثراء الحرام بالغش والإحتكار والسلب والنهب فهو من
رزق الشيطان لا من عطاء الرحمن.
(28): ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُو﴾: للمطر أسبابه
الطبيعية، ولكن كل سبب طبيعي هو سبب إلهي، لأنه تعالى هو خالق كل شيء، وإذا تأخر
المطر لسبب أو لآخر قنط الناس، فيتداركهم سبحانه برحمته التي وسعت كل شيء.
(29): ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾: تعالى الدالة على قدرته وعظمته ﴿خَلْقُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ﴾: المراد بالسموات هنا الأشياء العالية المترفعة سواء أكانت من الكواكب
أم غيرها ﴿وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ﴾: أي كل ما فيه حياة أيًا كان نوعه،
وكلها تنطبق بوجود باريها ومصورها ﴿وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاء قَدِيرٌ﴾:
تمامًا كما قدر على خلقهم وبثهم في الأرض والسماء.
(30): ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾: تدل هذه
الآية بوضوح أن الظلم والبؤس والضعف والإنحطاط من الأنظمة الجائرة والأوضاع الفاسدة
لا من صنع الله العادل ولا من شريعته الحنيفة السمحة التي لا حرج فيها ولا ضرر.
(31): ﴿وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾: لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من
هرب، وتقدم في الآية 22 من العنكبوت.
(32): ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ﴾: السفن ﴿فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ﴾: جمع
علم وهو الجبل، وإذا كانت السفينة من تركيب الإنسان فإن ربانها وموادها من صنع
الرحمن، معطوفًا عليه وعليها الماء والهواء، حتى السيارة وسفينة الفضاء والكهرباء
كانت موجودة في الطبيعة، واكتشفها الإنسان واستخدمها في مصلحته.
(33): ﴿إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ﴾: أو يجمد الماء ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ﴾:
باهرة واضحة على أن وراء الكون مدبرًا مقتدرًا.
(34): ﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُو﴾: يهلك أصحاب السفينة بذنوبهم، ولكنه يمهل
ولا يهمل.
(35): ﴿وَيَعْلَمَ﴾: بالنصب على حذف اللام أي ليعلم ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي
آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ﴾: أي أنه تعالى أشار إلى السفينة وقدرته على
هلاكها بمن فيها ليذكر الجاحدين بأنهم يكفرون بالله وهم آمنون، وإذا أحدقت بهم
المخاطر ولم يجدوا بدًا منها ولا محيصَا عنها، اعترفوا بالله ولجأوا إليه تلقائيًا.
(36): ﴿فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ﴾: كالجاه والمال والصحة ﴿فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَ﴾: وزينتها، وهو حلال طيب، تمتعوا به هنيئًا مريئًا بشرط واحد وهو أن لا
يؤدي إلى الحرام قال سبحانه: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من
الرزق-32 الأعراف) ﴿وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾: وليس معناه أن عدم
المتاع خير من وجوده، بل معناه انفق منه في سبيل الله والصالح العام لتنتفع به عند
الله يوم تلقاه ﴿لِلَّذِينَ آمَنُو﴾: بالله، أما الذين كفروا به فأجرهم عند من
عملوا له.
(37): ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ﴾: كالظلم
والزنا والفساد في الأرض، وتقدم في الآية31 من النساء ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ
يَغْفِرُونَ﴾: يردون جهل الجاهل بتجاهله.
(38): ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾: يؤدون
العبادات، ويتورعون عن المحرمات، أما من يتقي الله في طهارته وصلاته ويتبع الهوى في
ملذاته فهو من حزب الشيطان ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾: طال الكلام وكثر حول
هذه الآية، ولكن القرآن ينطق بعضه ببعض، وتقول الآية 159 من آل عمران لرسول الله
(ص): (وشاورهم في الأمر) وعليه يكون المراد بالأمر في قوله: (وأمرهم شورى) عين
الأمر الذي شاور فيه النبي الصحابة، وثبت أنه شاورهم في الحرب وما جرى مجراها،
فينبغي تفسير أمر الشورى بذلك ولا يتعداه.
(39): ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾: ليسوا أكلة
لكل راغب ولا مطية لكل راكب، بل يستميتون من أجل حريتهم وكرامتهم والذود عن حياضهم
وبلادهم.
(40): ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَ﴾: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
بمثل ما اعتدى عليكم 194 البقرة﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ﴾: وإن تعفوا أقرب للتقوى 237 البقرة.
(41): ﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ... ﴾: فلا عتاب ولا عقاب، لأن البادي هو
الظالم.
(42) - (43): ﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ
وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾: لا كفارة إطلاقًا لمن اعتدى على
واحد من عيال الله، فكيف بالذين زلزلوا الأمن بأسلحتهم الجهنمية، وأرهبوا الدنيا
بطغيانهم وجبروتهم، وأساءوا إلى الأُمم بدسائسهم ومطامعهم؟ ﴿أُوْلَئِكَ لَهُم
عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: وهذا التهديد والوعيد نوع من الكفاح القرآني لعتاة البغي
والفساد، ودرس لنا نحن الناهين عن المنكر أن نجتبه بكلمة الله والحق كل جائر ومفسد،
ولا نخاف لومة لائم.
(44): ﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ﴾: من سلك طريق
الضلال بفعل محرم أو ترك واجب بسوء اختياره- حقت عليه كلمة الله بأنه من الضالين،
وعاقبه على ضلاله، ولا يجد له ناصرًا ﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا
الْعَذَابَ﴾: يوم القيامة تمنوا الخلاص منه وقالوا: ﴿هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن
سَبِيلٍ﴾: ؟ الجواب: هل يعود ما فات من العمر؟.
(45): ﴿وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَ﴾: على النار ﴿خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ﴾:
بما قدمت أيديهم ﴿يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ﴾: يسترقون النظر إلى جهنم وفرائصهم
ترتعد من شدة الخوف، ومن قبل كانوا بها يستهزئون ﴿وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُو﴾: لما
رأوا المجرمين يساقون إلى جهنم: هؤلاء أخسر الناس صفقة، وأخيبهم سعيًا، وتقدم في
الآية 15 من الزمر.
(46): ﴿وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم﴾: ينقدونهم من النكال
والوبال ﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ﴾: المراد بالضلال هنا العذاب بقرينة السياق ﴿فَمَا
لَهُ مِن سَبِيلٍ﴾: إلى الخلاص.
(47): ﴿اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم﴾: تزودوا من طاعة الله سبحانه ليوم لا مناص منه ولا
مفر ﴿مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ﴾: تلوذون به ﴿وَمَا لَكُم مِّن
نَّكِيرٍ﴾: لا تنكرون ذنوبكم، بل تعترفون بها كاملة.
(48): ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظً﴾: مهيمنًا تحفظ
أعمالهم وتحاسبهم عليها، وتقدم في الآية 80 من النساء، وغيرها ﴿وَإِنَّا إِذَا
أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً﴾: رخاء ونعمة ﴿فَرِحَ بِهَا وَإِن
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾: بلاء ونقمة ﴿فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ﴾: بنعمة الله
عليه، وهي لا تُعد ولا تحصى وتقدم في الآية 9 من هود وغيرها.
(49): ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: هو مبدع الكون ومالكه ﴿يَخْلُقُ
مَا يَشَاء﴾: ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا
وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ﴾.
(50): ﴿أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثً﴾: ليس المراد بيزوجهم الزواج
المعروف، بل المراد العطاء من صنف الإناث وصنف الذكور، ومعنى الآية بجملتها أنه لا
اختيار للإنسان في أن يجعل كل أولاده ذكورًا أو إناثًا أو هما معًا ولكنه تعالى هو
الذي قسم عباده أربعة أقسام: منهم له البنون فقط، ومنهم البنات وكفى ومنهم هما
معًا، ومنهم لا شيء.
(51): ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا... ﴾: ذكر
سبحانه في هذه الآية ثلاثة طرق للوحي: القذف في القلب أو الرؤيا في المنام كما حدث
لإبراهيم (ع) في ذبح ولده إسماعيل (ع) وهذا هو المراد بقوله: (الا وحيًا) الثاني أن
يخلق الكلام كما يخلق غيره من الكائنات، فيسمع النبي الكلام ولا يرى المتكلم لأنه
تعالى في ذاته غير مرئي كما كلم موسى (ع) وهذا هو المقصود بقوله: (من وراء حجاب)
الثالث أن يرسل إلى النبي ملكًا يبلِّغه رسالات ربه، كما أوحى سبحانه القرآن إلى
رسوله محمد (ص) بلسان جبريل (ع)، وهذا هو المراد بقوله: (يرسل رسولَا).
(52): ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾: يا محمد ﴿رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَ﴾:
المراد بالروح هنا القرآن لأنه حياة للأزواج والعقول ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا
الْكِتَابُ﴾: القرآن ﴿وَلَا الْإِيمَانُ﴾: بكل ما جاء في القرآن وشريعة الإسلام
وآدابه وأخلاقه ﴿وَلَكِن جَعَلْنَاهُ﴾: القرآن ﴿نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء
مِنْ عِبَادِنَ﴾: وهم الذين طلبوا الهداية بإخلاص ومعرفة الحق للعمل به
﴿وَإِنَّكَ﴾: يا محمد ﴿لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾: وفي الخطبة 114 من
نهج البلاغة: (أرسله داعيًا إلى الحق وشاهدًا على الخلق، فبلغ رسالات ربه غير وان
ولا مقصر، وجاهد في الله أعداءه غير واهن ولا معذر. أمام من اتقى وبصر من اهتدى).
* التفسير المبين / العلامة الشيخ محمد جواد مغنية.
2015-12-10