(1) – (2): ﴿حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾: أيضًا
القرآن عزيز حيث لا مثيل له ولا نظير، ويقهر كل من يتحداه، وهو حكيم بمبادئه
وتعاليمه البالغة النافعة.
(3): ﴿إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: وروعتهما في النظام والإتقان، لدليل
قاطع على وجود القاصد والصانع، والمراد بالمؤمنين كل من يؤمن بما دلَّ عليه الدليل،
وبكلمة من لا يعاند الحق ويجحده.
(4): ﴿وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ﴾: هل من شيء في الإنسان أو
الحيوان أو الحشرة لا حكمة له؟ أليس هذا دلالة واضحة على الإرادة والتصميم.
(5): ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ... ﴾: إلى كل ما في الكون من شيء، هو
خاضع لقانون طبيعي يضبط وجوده واستمراره وحركته أو سكونه وتفاعله، والقانون والنظام
يدل بطبعه على وجود القادر المنظم، وعلى حد ما قال شوقي أمير الشعراء: الطبيعة من
طبعها، وهل من عاقل يجيب عن هذا السؤال بأن الصدفة والفوضى هي التي أحكمت وطبَّعت؟.
(6): ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾: إشارة إلى المشاهد والدلائل الحسية على وجود الخالق
وقدرته ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ﴾: بمنهج العلم القائم على النظر بالحس
والاستنباط بالعقل ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ﴾: من
لا ينتفع ببيان الله، ولا يقتنع بحجته فلا جدوى من تذكيره وتحذيره.
(7): ﴿وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ﴾: في أقواله ﴿أَثِيمٍ﴾: في أفعاله.
(8): ﴿يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ﴾: ترشده إلى الخير وتأمره به، تدله
على الشر وتنهاه عنه ﴿ثُمَّ يُصِرُّ﴾: على شقائه وكبريائه.
(9) – (10): ﴿وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوً﴾: إذا سمع
آية من آيات القرآن سخر وطعن، وهكذا الحسود الحقود على كل فضيلة ومكرمة، ولكن سهمه
يرد إلى نحره. قيل لعالم معاصر لإمام المتقين وسيد الساجدين: ما رأيك بعلي بن
الحسين؟ قال: ما رأيت له صديقًا في الباطن، ولا عدوًا في الظاهر. قيل له: وكيف ذلك؟
فقال: الصديق يحسده على فضله، وحسد الصديق من سقم المودة، والعدو لا يجد فيه ما
يقال كي يتشبث به ﴿مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾: إليها مصيرهم، لا ينجيهم منها مال
ولا بنون ولا ما كانوا يعبدون من دون الله.
(11): ﴿هَذَا هُدًى﴾: إشارة إلى القرآن ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾:
وهي الأدلة الكونية على وجود الله وعظمته ﴿لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ﴾: أي أشد
العذاب.
(12) – (13): ﴿اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ... ﴾: نعم الله على عباده لا يبلغها
عد ولا إحصاء، وأشار سبحانه هنا إلى شيء منها كي نتدبر ونؤمن، ونذكر ونشكر، وتقدم
مرات، منها في الآية 32 وما بعدها من إبراهيم.
(14): ﴿قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ﴾: لا
يتوقعون أن ينتقم الله منهم على بغيهم وضلالهم، نزلت هذه الآية في ابتداء الإسلام
حيث لا قوة رادعة للمسلمين، ولا وسيلة للمستضعف منهم إلا الصمود على العقيدة والصبر
على الأذى في سبيلها حتى يأتي نصر الله والفتح، وقد علمتنا التجارب أن مقاومة
الضعيف تأتي دائمًا لمصلحة القوي، ولذا قيل: من لم يصبر على كلمة سمع كلمات.
(15): ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ... ﴾: واضح، وتقدم في الآية 46 من فصلت
وغيرها.
(16): ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ﴾: التوراة والإنجيل، لأن
عيسى (ع) من بني إسرائيل ﴿وَالْحُكْمَ﴾: أيام داوود وسليمان ﴿وَالنُّبُوَّةَ﴾:
والكثير من أنبياءهم كالعلماء المسلمين ﴿وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾: ولما
ظلموا ولم يشكروا حرمها الله عليهم بنص الآية 160 – 161 من النساء: (فبظلم من الذين
هادوا حرمنا عليهم طيبات أُحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا وأخذهم الربا وقد
نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل) ولذلك لعنهم سبحانه في العديد من الآيات،
منها الآية 47 و52 من النساء ﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾: بإرسال
الأنبياء منهم لإلقاء الحجة عليهم.
(17): ﴿وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ﴾: بيَّن سبحانه لبني إسرائيل كل
ما يحتاجون إليه من أُمور الدين، وأقام عليهم الحجة التي لا تدع وسيلة للاختلاف،
ومع ذلك اختلفوا ﴿مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ﴾: أي حرفوا
وزيَّفوا كلام الله تبعًا لأهوائهم كما في الآية 46 من النساء: (من الذين هادوا
يحرفون الكلم عن مواضعه) ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ... ﴾: واضح، وتقدم في
الآية 93 من يونس.
(18): ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ﴾: يا محمد ﴿عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ﴾: لقد منَّ
الله عليك بالقرآن، وأيضًا منّ به وبك على المؤمنين، وهو بشريعته وأحكامه كاف واف،
فتمسك به أنت ومن اتبعك، ودع من ضلَّ وعاد بعد أن تقيم الحجة عليهم.
(19): ﴿إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيئً﴾: لا خير ترجوه منهم ولا
أمل فيهم ﴿وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ﴾: لا ينصرون أهل الحق
والخير، وينصر بعضهم بعضًا على الشر والضلال، ومآلهم إلى الضياع والوبال ﴿وَاللَّهُ
وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ﴾: ينصرهم دنيا وآخرة.
(20): ﴿هَذَ﴾: القرآن ﴿بَصَائِرُ لِلنَّاسِ﴾: الطيبين يبصرون به ويهتدون إلى كل
خير، ويخصهم الله بفضله ورحمته.
(21): ﴿أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ﴾: عملوها وكسبوها ﴿أّن
نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم
وَمَمَاتُهُمْ﴾: المراد بالمحيا الدنيا، وبالممات الآخرة، وما من شك أن متاع الحياة
الدنيا مباح لكل طالب وراغب سيئًا كان أم محسنًا، أما نعيم الآخرة فهو وقف على من
أخلص إيمانه ومقاصده، وأحسن في أقواله، وأصلح في أعماله حيث لا يستقيم في عدله
تعالى أن يستوي مصير الطيب والخبيث والمحسن والمسيء.
(22): ﴿وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾: وأيضًا يجزي
المحسن والمسيء بالحق والعدل، ويأخذه بعمله.
(23): ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾: دينه ودنياه، وترفه عقله
وهداه، وتقدم في الآية 43 من الفرقان﴿وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾: أمره
سبحانه ونهاه، فعصى وتمرد، فتخلى عنه بعد أن علم إصراره على العمى والضلال، وعبَّر
سبحانه من هذا التخلي والخذلان بالإضلال والختم على السمع والقلب والبصر، وسبق أكثر
من مرة أن الله يشرع الأحكام، ويترك التنفيذ لإرادة الإنسان حرصًا على حريته.
(24): ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا... ﴾: إلا أيام تنطوي
وتمضي، وما فات من العمر لا ترجى رجعته﴿وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾: هم
يعلمون أن من مات فقد فاتته الحياة الدنيا، أما حديثهم عن الآخرة وإنكارهم لها فرجم
بالغيب.
(25): ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَ﴾: الدالة على إمكان البعث ﴿قَالُوا
ائْتُوا بِآبَائِنَ﴾: الأموات، وهذا شرود عن البعث، لأنه في الآخرة، وهم يطلبونه
في الدنيا، وتقدم في الآية 36 من الدخان.
(26): ﴿قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ﴾: كما ترون بالحس والعيان،
فكذلك قادر على أن يحييكم بعد الموت ﴿ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ﴾: وإحياء العظام وهي شيء رميم أهون وأيسر من إيجادها من لا شيء.
(27): ﴿وَلَلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرضِ﴾: تنفذ مشيئته في ملكه إيجادًا
وعدمًا، ثم إعادة للخلق يوم القيامة لينتقم من المبطلين، ويحسن للمحقين بجنات
النعيم.
(28): ﴿وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً﴾: باركة على الركب، تنتظر الحساب والجزاء
﴿كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَ﴾: إلى صحيفة عملها.
(29): ﴿هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ﴾: وما ترك صغيرة ولا كبيرة
إلا أحصاها.
(30): ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فلهم أعلى الدرجات.
(31): ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُو﴾: فلهم الويلات والحسرات، وتقدم مرات، منها في
الآية 56 – 57 من النساء.
(32): ﴿وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾: إذا قال المؤمنون بالساعة
للجاحدين بها: إنها آتية لا محالة – قال الكافرون: ﴿مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ﴾:
لا نعرف عنها شيئًا، ولا نظن أن القيامة قائمة.
(33): ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُو﴾: سخروا من يوم القيامة وعذابه،
فكانوا لجهنم حطبًا.
(34): ﴿وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ﴾: يودعهم سبحانه في جهنم، ويوكل عذابهم إليها
وحدها، ويمهلهم إلى ما شاء وتقدم في الآية 51 من الأعراف.
(35): ﴿ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوً﴾: ذلكم إشارة إلى
العذاب، والمعنى أن السبب الموجب لإهمالنا ومعاملتنا لكم معاملة الناسي هو ركونكم
إلى الأهواء والأغراض، واستخفافكم برسول الله وكتابه وبكل حق أيًا كان مصدره ودليله
﴿وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾: لا يُطلب منهم أن يتوبوا ويسترضوا الله سبحانه بقول
أو فعل، لأن الآخرة للحساب والجزاء لا للعمل والاسترضاء.
(36): ﴿فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ﴾: ذي الجلال
والإنعام، وصلى الله على من لا نبي بعده وآله الكرام.
* التفسير المبين / العلامة الشيخ محمد جواد مغنية.
2015-12-10