يتم التحميل...

سورة الفتح

تفسير الكتاب المبين

سورة الفتح

عدد الزوار: 101

(1): ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينً: نصرناك يا محمد نصرًا ظاهرًا، ونزلت هذه السورة في ذي القعدة سنة 6هـ حين انصرف النبي من الحديبية إلى المدينة.

(2) - (3): ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ... : كان محمد (ص) مذنبًا في زعم المشركين حيث جعل الآلهة إلهًا واحدًا، ونبيًا عند الموحدين المؤمنين تمامًا كأي مجاهد مخلص عند المخلصين والخائنين، ومع الأيام والأحداث. ومنها الفتح والنصر الذي أشار إليه سبحانه بفتحنا لك – اكتشف المشركون أن محمدًا هو المحِقّ، وإنهم كانوا هم المخطئون والمذنبون بعبادة الأصنام وإساءتهم لمحمد (ص)، فندموا لدعوته وعليه يكون معنى الآية أن الله سبحانه هيّأ السبب الموجب لدخول المشركين في دين الله أفواجًا، وكان عاقبة ذلك براءة النبي عند المشركين من كل ذنب، وعبَّر سبحانه عن هذه البراءة بالمغفرة تمامًا كما لو اعتقدت أن فلان الفلاني هو أعدى أعدائك، وأنه لو تمكن منك لأخذك أخذ سفاح جبار، ودارت الأيام، فصار هذا الفلان حاكمًا وذا سلطان، وإذا به يكرَّم مثواك ويحسن إليك، وما من شك أنك تشعر من أعماقك أنك أنت المذنب، وهو النزيه البريء.

(4): ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ: كل عقيدة صحيحة وسليمة تنتهي بصاحبها إلى زيادة الإيمان وقوته، وراحة الضمير وغبطته، وتقدم في الآية 26 من التوبة وغيرها ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ: كل الموجودات ملك لله وحده لا شريك له.

(5): ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ: جاء في التفاسير أن الله سبحانه حين قال لنبيه: إنّا فتحنا لك فتحًا مبينًا قال له المؤمنون: هنيئًا لك يا رسول الله، هذا ما فعل الله بك، فماذا يفعل بنا نحن؟ فنزلت هذه الآية: (ليدخل المؤمنين...).
(6): ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ: بحكم البديهة والعدالة الإلهية ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ: وهو أن الله سيخذل النبي والصحابة ﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ: جاءت النتيجة بعكس ما ظنوا حيث نصر الله سبحانه الحق وأهله، ونزلت دائرة السوء على المجرمين دنيا وآخرة.

(7): ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... : ذكر سبحانه هذه الآية حين أشار إلى المؤمنين وثوابهم، وذكرها هنا وهو يشير إلى المنافقين والمشركين وعذابهم، لمجرد التنبيه إلى أن الإنعام والانتقام في قبضته.

(8): ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدً: على الخلق بأنك قد بلغت ﴿وَمُبَشِّرً: من أطاع بمرضاة الله وثوابه ﴿وَنَذِيرً: لمن عصى بغضب الله وعذابه، وتقدم في الأية 45 من الأحزاب.

(9): ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلً: تعزروه: تعظموه وتوقروه: تحترموه، والضمير لرسول الله، والضمير في تسبِّحوه لله، وبكرة: صباحًا، وأصيلاً: مساء، والمعنى أن الله سبحانه أرسل محمدًا لتكونوا أيها المسلمون، فيما تفعلون وتتصرفون، المثل الأعلى إيمانًا وإخلاصًا وعلمًا وعملاً، وبهذا وحده تعظِّمون رسول الله، وتسبحون بحمد الله على الدوام وفي كل آن.

(10): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ: تنص هذه الآية أن يد محمد (ص) في قداستها يد الله، ومبايعته على وجه العموم مبايعة الله، أما سبب نزولها فهو أن النبي (ص) خرج من المدينة مع 1400 من المسلمين قاصدين مكة للعمرة في ذي القعدة سنة 6هـ ولما وصلوا إلى الحديبية علموا أن قريشًا صممت أن تصدهم عن بيت الله الحرام بقوة السلاح، فأسرع المسلمون إلى رسول الله، وكان جالسًا تحت شجرة هناك وبايعوه على الطاعة والموت، فبارك سبحانه هذه البيعة وأبرمها، بل جعل مبايعة له، وتوعد الناكثين بالعقاب وقال: ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ: ووعد الأوفياء بالأجر والثواب بقوله: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمً: وتفاصيل هذه العمرة وصلح الحديبية في كتب السيرة والتاريخ ومطولات التفاسير، ومنها التفسير الكاشف.

(11): ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَ: حرص النبي (ص) أن يكون معه في هذه العمرة أكبر عدد من المسلمين، فتخلف عنه قوم من الأعراب وآخرون من المنافقين، وتعللوا كذًبا ونفاقًا بتدبير الأهل والأموال، ولما عاد النبي (ص) إلى المدينة طلبوا الصفح ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ: لا شيء في قلوبهم كي يعبِّروا عنه، بل يتقلبون تبعًا للمنافع والمطامع ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا... : من الذي يرد أمره تعالى خيرًا كان أم شرًا.

(12) – (13): ﴿بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدً: ما تخلفتم عن النبي لعذر أيها المنافقون، بل اعتقدتم أنه والصحابة مغلوبون بقوة المشركين لا محالة ﴿وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ: بأن الله لن ينجز وعده وينصر جنده ﴿وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورً: هلكى.

(14): ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء: بمقتضى حكمته وعلمه بأنه مستحق وأهل للمغفرة﴿وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء: تمامًا كما أنه لا يعذب إلا من هو أهل ومستحق للعذاب.

(15): ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ: المراد بالمخلفين هنا نفس المنافقين والأعراب الذين تخلفوا عن النبي حين دعاهم إلى الذهاب معه لعمرة الحديبية، وتعللوا بالأكاذيب، وسمعوا الآن أن النبي (ص) يريد الخروج غازيًا إلى خيبر، وكان فيها مغانم كثيرة، فأسرعوا إليه يريدون الخروج معه! رفضوا الحديبية فرارًا من الغرم، وتهافتوا على خيبر طمعًا في الغنم، فأمر سبحانه نبيه أن يرفضهم كما رفضوا الذهاب إلى عمرة الحديبية، واحدة بواحدة ﴿يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ: وهو حكمه تعالى بأن تكون مغانم خيبر للذين بايعوا النبي (ص) في الحديبية وحدهم بلا شريك ﴿قُل: يا محمد للمخلفين الذين فروا من المغرم وطلبوا المغنم: ﴿لَّن تَتَّبِعُونَ: إلى خيبر ﴿كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ: بأن مغانم خيبر لأهل الحديبية دون غيرهم ﴿فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَ: كلا، إن الله لم يحرمنا من المغانم، ولكن أنتم حرمتمونا إياها حسدًا لنا وبغيًا ﴿بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلً: ليس الأمر حسدًا من المؤمنين بل جهلاً وسوء ظن من المخلفين.

(16): ﴿قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ: وهم الذين تخلفوا عن الحديبية ﴿سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ: وهم هوازن وثقيف كما في جوامع الجامع ﴿تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ: يخيرون بين السيف والإسلام، فهل تلبون الدعوة أو تنكصون على أعقابكم كما فعلتم من قبل؟ ﴿فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنً: الغنيمة في الدنيا والجنة في الآخرة ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمً: من قبل إشارة إلى أن تخلفهم عن الرسول حين خرج إلى الحديبية.

(17): ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ: لا إثم في التخلف مع هذه الأعذار الثلاثة: العمى والعرج والمرض إذا كان الجهاد لنشر الإسلام، أما الجهاد لردع العدوان فهو حتم على الأصحاء وغيرهم كبارًا و صغارًا نساءً ورجالاً من كل حسب طاقته.

(18): ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ: يا محمد ﴿تَحْتَ الشَّجَرَةِ: يشير سبحانه إلى ما سبق في الآية العاشرة من هذه السورة، وسميت بيعة الحديبية ببيعة الرضوان وأيضًا بيعة الشجرة بهذه الآية ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ: من الطاعة له، والخوف منه، والتوكل عليه ﴿فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ: وهي الشعور بالغبطة والراحة والاطمئنان ﴿وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبً: ومستمرًا من صلح الحديبية إلى خيبر، ومنها إلى مكة، ومنها إلى حنين، إلى شرق الأرض وغربها.

(19): ﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً: المراد بها مغانم خيبر فقط التي خص بها سبحانه أهل بيعة الرضوان.

(20): ﴿وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً: المراد بها كل ما غنمه المسلمون في عهد النبي (ص) وبعده، وهي لمصالح الإسلام والمسلمين على العموم، وبهذا يتضح الفرق بين مغانم الآية السابقة ومغانم هذه الآية﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ: إشارة إلى مغانم خيبر الخاصة بأهل بيعة الرضوان ﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ: قال الشيخ الطبرسي: يعني أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان ﴿وَلِتَكُونَ: هذه الفعلة، وهي كف أيدي الناس عن المؤمنين الذين صنعوا العجائب مع قلة العدد ﴿آيَةً: ظاهرة ﴿لِّلْمُؤْمِنِينَ: وللأجيال أيضًا بأن الله مع الذي يدافع عن الحق ويحارب الباطل بصدق وإخلاص.

(21): ﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَ: أيضًا يعدكم الله مغانم أُخرى وفتوحًا كثيرة، تعجزون الآن عن أخذها ﴿قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَ: حفظها لكم، ولا بد أن تأخذوها في المستقبل القريب أو البعيد.

(22): ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرً: هذا وعد من الله سبحانه للذين آمنوا بأنهم إذا ناجزوا الكافرين لكان النصر للمؤمنين على الذين كفروا لا محالة، لأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وفي الآية 47 من الروم: (وكان حقًا علينا نصر المؤمنين) ولا تبديل لوعد الله وكلماته، وما رأيت لهذه الآية تفسيرًا يُقنعني فيما لديَّ من التفاسير، والذي أفهمه أن المراد بالمؤمنين هنا الصحابة بقيادة الرسول الأعظم (ص) أو الذين هم كالصحابة في إيمانهم بقيادة من يرتضيه الله والرسول للقيادة، والذي يؤكد هذا المعنى قوله تعالى بلا فاصل:

(23): ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلً: وسنن الله تعالى أن تجري المسببات على أسبابها والنتائج على مقدماتها، والسبب الإلهي والطبيعي لنصر المقاتلين هو الإخلاص والصبر والبذل بقيادة من يختاره للقيادة الله ورسوله وصالح المؤمنين، لا من يغتصب مركز القيادة بالوراثة أو الرشوة أو الخداع أو بالقهر والغلبة.

(24): ﴿وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ... : دخل النبي (ص) فاتحًا، فأذعن له عتاتها واستسلموا، وفي طليعتهم رأس الشرك أبو سفيان الذي جيَّش الجيوش وقادها مرات ضد الرسول، فامتن سبحانه على النبي والصحابة بهذا النصر من غير قتال حيث كف أيدي المشركين بإلقاء الرعب في قلوبهم، وكفَّ أيدي المسلمين بالنهي عن القتال.

(25): ﴿هُمُ الَّذِينَ كَفَرُو: هؤلاء العتاة من مشركي مكة الذين أذعنوا لكم أيها المسلمون واستسلموا صاغرين هم بالذات الذين ﴿وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: عام الحديبية ﴿وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ: الهدي: ما يُهدى إلى بيت الله من الأنعام، وكان مع المسلمين عام الحديبية سبعون ناقة، والمعكوف: المحبوس، ومحله: موضع الذبح أو النحر، وهو مكة، وسبقت الإشارة إلى أن المشركين منعوا المسلمين من الإحرام في ذلك العام﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ: أن تقتلوهم، يقول سبحانه للمسلمين الذين دخلوا مكة، إنما نهاكم الله عن القتل، لأن في مكة جماعة من المسلمين رجالاً ونساء، كتموا إيمانهم خوفًا من المشركين، ولو دارت رحى الحرب لقتلهم بعض إخوانكم في الدين جهلاً وخطأ ﴿فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ: مساءة ومشقة ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ: أي تقتلونهم بغير علم بإسلامهم، فيشق عليكم ذلك وتتألمون ﴿لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء: المراد بالرحمة هنا الإسلام، والمعنى أن الله سبحانه هيأ أسباب الأمن والسلام في مكة لتدخل قريش في الإسلام طوعًا أو كرهًا، وهكذا كان ﴿لَوْ تَزَيَّلُو: لو تميَّز المؤمنون عن الكافرين ﴿لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ: ولا يُرجى دخولهم في الإسلام إطلاقًا، وبعض هؤلاء فرَّ من مكة في اللحظة التي دخلها المسلمون.

(26): ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ: يشير سبحانه إلى عتاة الشرك وجبروتهم وتعصبهم وما تحمله النبي والصحابة من عداوتهم وإيذائهم ﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ: المراد بالسكينة القناعة بحلال الله، والصبر على حرامه ﴿وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَ: من آمن بالعليم الحكيم، وبالنبي الذي بُعث ليتمم مكارم الأخلاق، وبالقرآن الذي يهدي للتي هي أقوم – فهو أولى الناس في أن يتقي معاصي الله وحرامه.

(27): ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَ: أي في الرؤيا، قبل أن يخرج النبي (ص) إلى الحديبية رأى في منامه أنه دخل مكة هو والصحابة معتمرين، وطافوا في البيت العتيق بسلام آمنين، وقد حلق بعضهم وقصَّر آخرون، فأخبر النبي الصحابة بما رأى، وحين سار بهم متجهًا إلى مكة ظنوا أن هذا تفسير رؤياه، ولما حدث ما حدث من صلح الحديبية وعاد المسلمون قال المنافقون: أين هي الرؤيا؟ فأجاب النبي (ص): (لم أقل في هذا العام) ويأتي تأويل الرؤيا لا محالة، وفي العام التالي بلا فاصل دخل الرسول مكة هو والصحابة معتمرين، ومكثوا ثلاثة أيام وظهر صدق الرؤيا كما قال سبحانه: لقد صدق الله رسوله الرؤيا... وتسمى هذة العمرة عمرة القضاء ﴿فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُو: علم الله أن في تأجيل العمرة إلى ما بعد صلح الحديبية خيرات ومنافع للإسلام والمسلمين، منها حقن الدماء، ومنها دخول العديد من المشركين في الإسلام ﴿فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبً: ذلك إشارة إلى صدق الرؤيا بدخول المسلمين المسجد الحرام، والفتح القريب صلح الحديبية بدليل أن عمر قال لرسول الله (ص): أفتح هذا؟ فأجابه: بل هو أعظم الفتوح. وبعد هذا الفتح الأعظم السنة السادسة من الهجرة كما سبقت الإشارة، جاء الفتح الثاني بعمرة القضاء السنة السابعة، وبعدها الفتح الثالث بدخول مكة والسيطرة عليها السنة الثامنة، ثم حجة الوداع السنة العاشرة، وفي ربيع الأول من الحادية عشر انتقل الرسول (ص) إلى الرفيق الأعلى.

(28): ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ: محمد ﴿بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ: لا بقوة الجيش والسلاح، ولا بالمال والدعايات الخادعة، بل بعقيدته التي تخاطب العقل والفطرة وتستنهض الفكر، وتقدس العلم، وبشريعته الخالدة بمبادئها، ومقاصدها وتوجهها إلى الإنسان كهدف أسمى وقيمة عظمى، ومن تتبع الآيات القرآنية والسنة النبوية وكتب الفقه الإسلامي ينتهي إلى العلم بهذا المبدأ: (حيثما يكون خير الإنسان يكون شرع الإسلام). (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا – 30 النحل) أنزل ربنا قرآنًا كله خير فما استمل عليه من عقيدة وشريعة وأخلاق تدفع الإنسان إلى الكفاح والنضال من أجل حياة أكمل وأفضل.

(29): ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ: جنود للحق وأهله، وحرب على الباطل وحزبه، وضرب طه حسين مثلاً للصحابة بعمار بن ياسر في كتاب مرآة الإسلام، وقال: كان شيخًا بلغ التسعين أو تجاوزها، ومع ذلك قاتل مع عليّ في صفين عن إيمان أي إيمان بأنه يدافع عن الحق... وكان قتله تثبيتًا لعليّ والصالحين وتشكيكًا في معاوية ومن معه لأن كثيرًا من الصحابة رأوا النبي يمسح رأس عمار ويقول له: تقتلك الفئة الباغية ﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ: شطأ الزرع: ما يتفرع عنه من أغصان وورق وثمر، فاستغلظ: صار غليظًا، واستوى: استقام، وعلى سوقه: على أُصوله، والهدف الأول والأساس من هذه الآية هو الثناء الجميل على من أسرع في الاستجابة لدعوة محمد (ص) وجاهد لتثبيت نبوته، وإظهار دينه وكلمته، يرجو به الأجر من الله دون سواه. وهو سبحانه المسئول أن يفرج عنا كل كرب بالنبي وآله صلوات الله عليه وعليهم.


* التفسير المبين / العلامة الشيخ محمد جواد مغنية.

2015-12-10