يتم التحميل...

سورة المجادلة

تفسير الكتاب المبين

سورة المجادلة

عدد الزوار: 119

(1): ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ: تحاورك وتراجعك يا محمد ﴿فِي زَوْجِهَ: قال رجل من الصحابة لزوجته: أنت عليَّ كظهر أميَّ. وكان هذا طلقًا في الجاهلية، فندمت الزوجة وندم الزوج فقال لها: اذهبي إلى النبي وأخبريه بأمرنا فذهبت إليه وقصت عليه، وإلى هذا أشار سبحانه بقوله: قد سمع الله ﴿وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ: حيث كانت تقول في معرض كلامها: اللهم إليك المشتكى ﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَ: لأن النبي (ص) قال لها: ما عندي في هذا شيء، وأنزل تعالى حكمه في الظهار بقوله:

(2): ﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ: إنزال الزوجة منزلة الأم مخالف للواقع ﴿إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ: الأم من ولدتك وأرضعتك لا من تزوجت وافترشت ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورً: الظهار كذب وقبيح ينكره الشرع وأهل العقاب ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ: كثير المصالح والصفح لمن تاب وأناب.

(3): ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُو: أي يندمون ويرجعون عن الظهار، فعلى المظاهر منهم أن يكفِّر بواحدة من ثلاث على هذا الترتيب: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّ: أولا أن يمنح المظاهر الحرية لعبد مملوك قبل أن يتصل بأهله اتصالا جنسيًا ﴿ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ: أي أوجب سبحانه الكفارة تأديبًا وزجرًا عن الظهار.

(4): ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّ: فإن عجز المظاهر عن تحرير رقبة صام شهرين متوالية لا يفصل بالفطر بين أيام الشهر الأول ولا بينه وبين الشهر الثاني- بيوم، أيضًا قبل أن يتصل بأهله ﴿فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينً: مرة واحدة لكل منهم، أيضًا قبل الإتصال حملا للإطعام على التحريم والصيام خلافًا لأبي حنيفة ﴿ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ: لا تؤمنون بالله والرسول إلا إذا نبذتم حكم الجاهلية، وعملتم بأحكام الله التي بيّنها سبحانه في كتابه وسنَّة نبيِّه ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ: وفرائضه فلا تضيِّعوها وتتعدوها.

(5): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ: يخالفون ويشاقون ﴿اللَّهَ وَرَسُولَهُ: وهم أصحاب الثورة المضادة لكل إصلاح وتصحيح أولئك ﴿كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ: أصابهم الخزي والهوان تمامًا كما أصاب السابقين من أمثالهم ﴿وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ: واضحات الدلالة على الفرائض والأحكام، ولمن جحد بها وكفر عذاب مهين ومقيم.

(6): ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعً: يقفون بين يديه للحساب فيعلمهم بما كانوا يفعلون وهم قد نسوا ما اقترفوا، فيتذكرون موقف الحسير الكسير، وقد أحصى عليهم أخبارهم وآثارهم وينهارون... ونتساءل: هل من احد على يقين مئة بالمئة أنه بمنجاة من هذا الموقف؟ اللهم إلا من مات قلبه وغاب لبَّه، ثم أية خسارة من الإيمان بالبعث سوى فوات بعض الملذات الآنية الفانية؟.

(7): ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ: كل شأن من شؤون خلقه ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى: المكالمة السرية الا ويعلمها سبحانه سواء أكانت بين ثلاثة أم أقل، بين خمسة أم أكثر ﴿أَيْنَ مَا كَانُو: في السماء أو على وجه الأرض أو تحتها، وفوق ذلك يعلم كل خاطر يمر بالخيال، وكل عزيمة يعقدها القلب، وكل نظرة تسترقها العين ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: فأما الذين أصلحوا فيوفيهم أُجورهم وزيادة، وأما الذين سعوا في الأرض فعليهم غضب من الله وعذاب عظيم.

(8): ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى: تناجى فريق بالإثم والعدوان، فنهاهم الرسول بالحسنى، فعصوا ولم ينتهوا ﴿وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ: ومع إصرارهم على معصية الرسول كانوا يبدأونه بالتحية ﴿بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ: روي أن أناسًا من اليهود دخلوا على النبي (ص) وقالوا: بدل السلام عليك السام عليك يا أبا القاسم، والسام هو الموت. فقال: وعليكم . فنزلت الآية ﴿وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ: لو كان محمد نبيًا ونحن نعامله بهذه المعاملة لعاجلنا الله بنقمته، فرد سبحانه عليهم بقوله: ﴿حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَونَهَ: لا تعجلوا فالنار أمامكم هي مأواكم وبئس مثوى الظالمين.

(9): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ: المؤمن حقًا وواقعًا يتقي معصية الله والرسول، ولا ينطق بكلمة الإثم والظلم، أما الذين يصومون ويصلُّون ويتنجسون من الكلب والخنزير، ثم يحقدون ويجسدون ويستغيبون ويفترون- فما هم من الإيمان في شيء إلا في الإسم والإدعاء، وهم المقصودون بالنداء في هذه الآية، والمعنى يا أيها الذين يدعون الإيمان... ﴿وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى:هذي هي صفة المؤمنين: يتواصون بالحق والخير لا بالباطل والشر.

(10): ﴿إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ: أي نجوى الحقد والحسد، والخدش والنهش ﴿لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُو:يتناجى اخوان الشياطين بالإثم، ليسيئوا إلى ذوي الصدق والفضل ومن الحكم البالغة: الحسد موكل بأهل الفضل ﴿وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئً: أقاويل تذهب مع الريح، ويبقى إثمها على قائلها.

(11): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ: هذه الآية في آداب الجلوس، ومعناها واضح، وهو أن يحسن أهل المجلس بعضهم إلى بعض، ويحترم الصغير منهم الكبير ولا يتنافسوا على الصدر﴿فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ: لأن الجزاء من جنس العمل، وفي نهج البلاغة: كان رسول الله (ص) يجلس جلسة العبيد، ويخصف نعله بيده ﴿وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُو: كان النبي (ص) يقيم نفرًا من مقاعدهم ليجلس الأفضل إيمانًا وعلمًا، ويوحي بذلك قوله تعالى بلا فاصل: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ: فثقل ذلك على بعض من كان يأمرهم النبي(ص) بالقيام والنشوز، ولما نزلت هذه الآية تأدب الصحابة بآدابها عن طيب نفس.

(12): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً: روي أن الصحابة كانوا يسألون النبي (ص) ويكثرون حتى شق ذلك عليه، فأمرهم سبحانه أن يتصدقوا قبل أن يسألوا الرسول تخفيفًا عليه، وتزكية لهم ﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُو: أي فمن لم يجد ما يتصدق به واضطَّر إلى السؤال فلا حجة عليه، لأن الله يحتج على عبده بما أعطاه، فأحجموا بالكامل عن الصدقة والسؤال إلا الإمام عليّ (ع) فإنه تصدق وسأل كما جاء في العديد من التفاسير، منها تفسير الطبري والرازي وابن كثير، وبعد أن عمل الإمام وحده بهذه الآية رخَّص سبحانه بإسقاط وجوب الصدقة، وعاتب الصحابة بقوله:

(13): ﴿أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ: هل خفتم أيها الأغنياء النقص في الأموال؟ كيف وهي تربو وتزكو بالصدقات ﴿فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُو: ما أُمرتم به من الصدقة قبل المناجاة وعفى الله- فاحرصوا على سائر الواجبات ولا تفرطوا فيها ﴿فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ: في ترك المحرمات ولا عذر إطلاقًا لمن يستهين ويهمل شيئًا من هذه الطاعات والواجبات.

(14) - (15): ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم: نزلت هذه الآية في المنافقين المذبذبين حيث كانوا يقابلون المسلمين بوجه ويحلفون لهم أنهم منهم، ويقابلون اليهود بوجه، وأيضًا يحلفون الأيمان المغلظة أنهم على دينهم، وما هم من هؤلاء ولا أولئك ﴿وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ: أنهم كاذبون في كل ما يقولون، وهكذا كل من لا يؤمن بقيمة ودين لا يرى فرقًا بين الصدق والكذب والفضيلة والرذيلة.

(16): ﴿اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّة: سترًا ووقاية يدفعون بها عن أنفسهم وأموالهم ﴿فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ: ظن بهم الصدق والإخلاص من يجهل حقيقة أمرهم فخدعوه بالأكاذيب وتاه عن الحق.

(17): ﴿لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم: كل القوى مجتمعة لا تدفع عنهم شيئًا حين يجدّ الجد وتأتي ساعة الفصل.

(18): ﴿يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ: في يوم القيامة مواقف، منها ما يعجز الإنسان فيها عن الكذب ومحاولة التمويه والخداع، ومنها ما يرجع فيها إلى طبيعته وعادته في الحياة الدنيا، وفي هذا الموقف يحلف المنافقون كاذبين كما كانوا يفعلون في دار البوار والأقذار ﴿وَيَحْسَبُونَ: أن أيمانهم الفاجرة تمنع عنهم العذاب، ذلك ظن الذين كفروا بالله، وما لهم من عذابه وليّ ولا واق.

(19): ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ: أعمتهم الأهواء عن الهدى والخير فانصرفوا بكلهم إلى الشر والضلال﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ: دعاهم إلى النار فاستجابوا وأقبلوا. ودعاهم الرحمن إلى الجنة فنفروا وولُّوا، وهكذا الجاهل والضال يمكن عدوه من نفسه بنفسه.

(20): ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ: يحادون الله: يخالفون أحكامه، ويتجاوزون حدوده عنادًا وشقاقًا، ومن يفعل ذلك فمصيره الخزي والهوان.

(21): ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي: الغلبة لأهل الحق من غير شك، أما في الدنيا فهم الغالبون بالحجة والبرهان في شتى الأحوال، وكذلك في خلود الأحدوثة، وكثيرًا ما تكون الغلبة على الطغاة بالإنتفاضات التحررية، وتقدم في الآية 38 من الحج وغيرها.

(22): ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ... : تنص هذه الآية بصراحة لا تقبل التأويل أن الإيمان بالله واليوم الآخر يستحيل أن يجتمع مع محبة الطغاة الكفرة وقوى الشر الفجرة وتقدم في الآية 28 من آل عمران ﴿كَتَبَ: الله ﴿فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ: ثبته فيها حتى كأنه طبعت عليه ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ: أي بالتوفيق لكل خير، وبالحجج البالغة والبراهين القاطعة ﴿أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: ومرضاة الله وحدها هي الصلاح والفلاح، كما قال الرسول الأعظم (ص): إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أُبالي. وقال سيد الشهداء وإمام الأتقياء الحسين (ع): ماذا فقد من وجدك وماذا وجد من فقدك؟.


* التفسير المبين / العلامة الشيخ محمد جواد مغنية.

2015-12-10