يتم التحميل...

سورة الممتحنة

تفسير الكتاب المبين

سورة الممتحنة

عدد الزوار: 119

(1): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ: حذَّر سبحانه المؤمنين من موالاة أعداء الدين، وكرر ذلك في العديد من الآيات، منها الآية 28 من آل عمران، ولكن لنزول الآية التي نحن بصددها سبب، وهو أن رسول الله (ص) حين عزم على فتح مكة كتب واحد من الصحابة إلى قريش بذلك، فأوحى سبحانه إلى نبيه بما كان من هذا الكاتب، فبعث النبي (ص) في طلب الكتاب ولما اطلع عليه سأل المرسل فاعتذر بأن له أهلا في مكة يخاف عليهم من المشركين، فصانعهم وهو على دينه، فنهى سبحانه عن مثل هذه المصانعة لأنها تضر بمصلحة المسلمين، وهذه الآية حجة قاطعة على من يتخذ يدًا عند أعداء الدين جلبًا لمصلحة أو دفعًا لمضرة عن نفسه أو عن غيره ﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ:كيف تثقون بهم، ولا يرونكم على شيء، ويرون أنفسهم كل شيء؟ ﴿أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ: المصدر من أن تؤمنوا مفعول من أجله ليخرجون، والمعنى ما انتقموا منكم تنكيلا وتشريدًا إلا لأنكم عبدتم الله مخلصين له الدين ﴿إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي: جواب الشرط محذوف، والمعنى إن كنتم مسلمين حقًا مجاهدين في سبيل الله وراغبين في ثوابه ومرضاته- فلا تركنوا إلى المشركين أعداء الله وأعداءكم﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ: أتوادّون الله سرًا وهو العليم بما تكنّ الصدور؟.

(2): ﴿إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم: لو ظفر أعداء الحق بأنصاره لمزقوهم بالسنان واللسان، والتاريخ متخم بالشواهد على ذلك، وأنصار الحق على العكس، والسر سمو المبدأ ونزاهة القصد عند هؤلاء دون أولئك، فإذا عاد الحق إلى نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه فلا شيء وراءه ومن الأمثلة على ذلك ما فعله النبي بأعدى أعدائه حين عاد إلى مكة فاتحًا.

(3): ﴿لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: ولا مصانعكم ومصارفكم وأسلحتكم الجهنمية... أبدًا لا شيء بنافع إلا العمل الصالح.

(4): ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ: يقول سبحانه لرجال الصحابة تآسوا بمن آمن مع خليل الرحمن (ع) فقد لاقوا من الجهد والمشقة ما لاقيتم حتى الهجرة من الأوطان، فصبروا صبر الأحرار، وهو سبحانه يوفي الصابرين أُجورهم بغير حساب ﴿إِذْ قَالُو: إبراهيم والضعفاء الذين معه ﴿لِقَوْمِهِمْ: الأقوياء عدة وعددًا: ﴿إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ: أنتم على ضلال، ونحن المحقون. وهكذا إذا كانت القلة القليلة تجابه أُمة بكاملها شعبًا وحكومة، ولا تملك من شيء إلا كلمة الحق ﴿وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ: ومعنى هذا بصراحة أن دين المرء لن يستقيم حتى يكره في الله، ويحب في الله. وفي الحديث: المؤمن لا يخون أخاه المؤمن ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يغتابه. فهل يتعظ بهذا من يدعي الإيمان وهو يظلم أخاه المؤمن بالحقد والحسد؟ ﴿إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ... : كأن سائلًا يسأل: كيف تبرأ إبراهيم (ع) من المشركين علمًا بأنه قال لأبيه آزر: سأستغفر لك ربي كما في الآية 47 من مريم؟ فأجاب سبحانه بأن آزر كان قد وعد إبراهيم بأن يؤمن كما في الآية 114 من التوبة (فلما تبيَّن له انه عدو الله تبرأ منه).

(5): ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُو: لا تسلط علينا شرار خلقك، فيبتلونا بمحنٍ لا نقوى على حملها.

(6): ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ: الخطاب للصحابة، وضمير الغائب لإبراهيم ومن معه، عاد سبحانه يؤكد الأخذ بما كان عليه إبراهيم الخليل ومن معه من الإخلاص في الإيمان والصبر في الجهاد ﴿وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ: عن العالمين ﴿الْحَمِيدُ: بحمده لنفسه أزلا وبحمد عباده له أبدًا.

(7): ﴿عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً: وذلك بأن يدخل الأعداء المشركون في دين الله، ويتبادلوا مع المسلمين الإلفة والمودة، والله على كل شيء قدير.

(8): ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ:لصلة المسلم بغير المسلم ثلاثة أحكام في القرآن الكريم: الحرمة والوجوب والإباحة تبعًا لنوع الصلة وكنهها 1) يحرم على المسلم أن يوالي من نصب العداء لدين الإسلام، ويلقي إليه بالمودة بنص العديد من الآيات المتقدمة، لن هذه الموالاة والمودة تشجيعٌ أو رضىً بالعداء لدين الله، وفي الآية 140 من النساء (إنكم إذًا مثلهم) 2) يجب على الحاكم المسلم أن يحكم بالعدل بين أعداء الدين تمامًا كما يحكم بين أبنائه، لأن الهدف من العدل حماية الإنسان وحقوقه من الظلم من حيث هو إنسان بصرف النظر عما يدين، وعلى هذا الأساسقال سبحانه لنبيه: (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين- 42 المائدة) 3) يسوغ للمسلم أن يبر ويحسن نصير المسلمين الذين لم يسبق أن قاتلوهم أو اضطروهم للهجرة والتشريد كما تنص الآية التي نحن بصددها.

(9): ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ: ناصبوكم العداء، وحاربوكم على الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، وتعاونوا على تشريدكم من الأوطان والديار، فهؤلاء هم الذين تجب معاداتهم، ومن يتولهم فقد ظلم نفسه، وعصى ربه.

(10): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ: إذا فرت زوجة الكافر منه إلى المسلمين وقالت: أتيت مؤمنة بالله ورسوله- فعلى المسلمين أن يتثبتوا في أمرها ويبحثوا، فإن تبيَّن أنها تركت الزوج سخطًا عليه ونشوزًا منه أرجعوها إليه، أو تركوها وشأنها- على الأقل- وإلا اخذوا بظاهر الحال، على أن تشهد علانية لله بالوحدانية ولمحمد (ص) بالرسالة ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ: الظاهر للناس، والباطن لله ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ: أي نطقن بالشهادتين ﴿فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ: لانقطاع العصمة بإيمان الزوجة وبقاء الزوج على الكفر ﴿وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُو: ردوا أيها المسلمون للأزواج الكفار مثل ما كانوا قد أعطوا الزوجات من المهر، ويختص هذا بحال الهدنة بين الرسول (ص) والمشركين فقط، وفيما عداها لا شيء للزوج لأن المهر يثبت للزوجة بمجرد الدخول، والتفصيل في كتب الفقه﴿وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ: للمسلم أن يتزوج المؤمنة المهاجرة التي حرمت على زوجها المشرك، ولكن بشرط انقضاء العدة وفرض المهر ﴿وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ: إذا كان الزوجان مشركين، وأسلم أحدهما دون الآخر انقطعت العصمة بينهما، وكذلك لو كانا مسلمين وارتد أحدهما عن الإسلام دون الآخر ﴿وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُو: إذا فرت زوجة المشرك مؤمنة إلى المسلمين فله كل الحق أن يطالب بمهرها، وإذا فرت زوجة المسلم مشركة إلى المشركين فأيضًا للزوج أن يطالب بمهرها ويختص هذا الحكم بحال الهدنة بين النبي (ص) والمشركين كما سبقت الإشارة.

(11): ﴿وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ... : امتثل المسلمون ما أمر الله به، وأعطوا للمشرك مهر زوجته التي نفرت منه مؤمنة إلى المسلمين، ورفض المشركون أن يعطوا للمسلم مهر زوجته التي نفرت منه مرتدة إلى المشركين، فأمر سبحانه المسلمين أن يعَّوضوا على هذا المسلم ويعطوه من غنائم الحرب مع الكفار ما يعادل مهر زوجته الفارة منه، ومعنى قوله تعالى ﴿فَعَاقَبْتُمْ: ظفرتم بالكفار وكانت العقبى لكم عليهم، وغنمتم منهم الأموال، فأعطوه منها مثل ما أعطى لزوجته المرتدة.

(12): ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ: لما فتح رسول الله (ص) مكة بايعه الرجال على الطاعة والجهاد، وبايعه النساء بالكلام لا باليد 1) ﴿عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئً: لا صنمٍا ولا غيره 2) ﴿وَلَا يَسْرِقْنَ: وعند هذا الشرط قالت هند أُم معاوية: إن أبا سفيان شحيح وقد أصبت من ماله. فأقرها النبي على أن لا تزيد عن الحاجة 3) ﴿وَلَا يَزْنِينَ: تقدم في الآية 2 من النور 4) ﴿وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ: كما كانت الحال في الجاهلية، وتقدم في الآية 31 من الإسراء 5) ﴿وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ: أي البطن لأن مكانها وسط بين اليدين والرجلين، والمعنى لا ينسبن لقيطًا إلى الأزواج، ولا يكذبن في الحمل والطهر والحيض 6) ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ: يعملن بشريعة الله حلالها وحرامها ﴿فَبَايِعْهُنَّ: إذا أقررن بكل ما ذكر.

(13): ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْ: ختم سبحانه هذه السورة بما بدأها من التحذير والنهي عن موالاة أعداء الله وأعداء المسلمين، وفي طليعتهم اليهود المعنيون بقوله تعالى: ﴿قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: ولعنهم بحقدهم على الإنسان والإنسانية جمعاء ﴿قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ: على حذف مضاف أي من خير الآخرة وثوابها ﴿كَمَا يَئِسَ الْكُفَّار: المكذبون بالبعث من عودة أصحاب القبور إلى الحياة الثانية.

 

2015-12-10