(1): ﴿ن﴾: من الحروف التي افتتح سبحانه بأمثالها بعض السور، وتحدثنا عنها في أول
سورة البقرة، وأنها إشارة إلى أن القرآن الكريم الذي أعجز أهل الفصاحة مؤلف من هذه
الحروف الهجائية التي ينطق الناس به﴿وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾: كناية عن
العلم النافع، وأقسم به سبحانه لعلو شأنه حيث لا إنسانية ولا حياة إلا به. والحديث
عن منافعه نافلة وفضول تمامًا كالحديث عن منافع الماء والضياء.
(2): ﴿مَا أَنتَ﴾: يا محمد ﴿بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾: هذا رد على من افترى
عليه بالجنون أولا: لأنه جعل الآلهة إلهًا واحدًا. ثانيًا: لأنه دعا إلى الإيمان
بالبعث بعد الموت. وفوق ذلك جعل الناس كلهم على صعيد واحد في الحقوق والواجبات...
إلى آخر ما نادى وحثَّ عليه من مكارم الأخلاق.
(3): ﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾: غير مقطوع بل دائم ولازم لأن
محمدًا (ص) أدى الرسالة على أكمل وجه، وتحمل في سبيلها أشد الأذى حتى نمت وأثمرت
ولا تزال آثارها وثمارها قائمة إلى اليوم وإلى آخر يوم في شرق الأرض وغربها.
(4): ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾: تحدثت الأجيال عن محمدًا (ص) ووضعت في
سيرته وأخلاقه الأسفار الطوال والقصار، ونختار منها كلمة لابن عربي في الفتوحات حيث
قال ما معناه: إن الله خلق أصنافًا، وجعل من كل صنف أخيارًا، ومن الأخيار الصفوة،
وهم الأنبياء، ومن الأنبياء، الخلاصة، وهم أولو العزم، ومن الخلاصة خلاصتها وهو
محمد الذي لا يكاثر ولا يقاوم.
(5): ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ﴾: ستظهر الحقيقة للناس كل الناس، حين يعلو شأن
الرسول الأعظم (ص) وتظهر كلمة الإسلام على الدين كله.
(6): ﴿بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ﴾: من هو صاحب الأوهام الكاذبة كأوهام المجنون؟.
(7): ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ﴾: بأن محمدًا على الهدى والسداد، وأن خصومه هم
المنحرفون عنه إلى الضلال والفساد.
(8): ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ﴾: هذا إخبار في صورة النهي والإنشاء، ومعناه أن
محمدًا لن يطيع المكذبين إطلاقًا في التنازل عن دعوته مهما ساوموه وعرضوا عليه من
المغريات والدليل على إرادة هذا قوله تعالى بلا فاصل.
(9): ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾: من المداهنة والمرضاة المصانعة
المدارية أي لو تسكت عن دعوتك إرضاء لهم لسكتوا عن الخصومة إرضاء لك.
(10): ﴿وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ﴾: كثير الحلف بلا ضرورة، لأنه يشعر من
أعماقه باتهام الناس له وارتيابهم بأقواله.
(11): ﴿هَمَّازٍ﴾: يكثر الطعن في أعراض الناس ﴿مَّشَّاء بِنَمِيمٍ﴾: يمشي بالنميمة
ليفسد بين الأخوان والجيران من صلات.
(12): ﴿مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ﴾: يكرهه بالطبع لا يفعله ويصد الناس عن فعله ﴿مُعْتَدٍ
أَثِيمٍ﴾: يفتري على الأبرياء حقدًا وطغيانًا.
(13): ﴿عُتُلٍّ﴾: فظ غليظ ﴿بَعْدَ ذَلِكَ﴾: وفوق هذه القبائح والرذائل هو ﴿زَنِيمٍ﴾:
دعي لصيق، وكافر زنديق، وقيل: المراد بهذه الصفات الوليد بن المغيرة، وقيل غيره،
ومهما كان فإن هذه اللطخات والنجاسات يتصف بها العديد من الإفراد في كل زمان ومكان،
وقد أمر سبحانه رسوله الكريم بالإبتعاد عنهم، فعلينا نحن أيضًا أن نفر منهم.
(14) - (15): ﴿أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ﴾: كان هذا الأثيم المهين في سعة من
الأموال وقوة من الأولاد، وكان لغيه وبغيه إذا سمع آي القرآن العظيم يقول:
﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾: خرافات وأساطير لأنها تلعنه وأمثاله من الطغاة.
(16): ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ﴾: سنميزه بعلامة على أنفه ووجهه تعرف بها
قبائحه ومآثمه ورذائله وجرائمه.
(17): ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ﴾: هذا الضمير للمشركين من أهل مكة، ومنهم الأثيم
المهين، وكانوا في نعمة من الله، ولكن جحدوها ولم يشكروها، فانتقم الله منهم تمامًا
كأصحاب البستان الذين أشار سبحانه إليهم بقوله: ﴿كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ
الْجَنَّةِ﴾: وخلاصة أمرهم أنهم كانوا أخوة يملكون بستانًا كثير الثمار، فحلفوا أن
لا يتصدقوا منها على مسكين، وباتوا على هذا العزم مصَّرين، فأرسل سبحانه بالليل على
البستان آفة قضت عليه بالكامل، ولما أصبحوا أسرعوا إلى البستان فإذا به حطام،
فندموا وأيقنوا أن الله أخذهم بجرمهم، فقال لهم أخوهم الأعقل والأفضل: نصحت لكم فلم
تستبينوا النصح حتى وقعت الواقعة، فتوبوا إلى الله عسى أن يرحمكم. وبعد هذا التلخيص
السريع لمعنى الآيات نعود إلى مفرداتها ﴿لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ﴾: يقطفون
ثمار الجنة صباحًا.
(18): ﴿وَلَا يَسْتَثْنُونَ﴾: لا يتركون شيئٍا للجائعين.
(19): ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ﴾: نزلت عليها آفة من السماء.
(20): ﴿فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ﴾: سوداء فحمًا أو كالفحم.
(21): ﴿فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ﴾: نادى بعضهم بعضًا في الصباح الباكر.
(22): ﴿أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ﴾: بكروا إلى البستان
إن كنتم قاطفين.
(23): ﴿فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ﴾: يتساورون.
(24): ﴿أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَ﴾: يدخل الحديقة مسكين.
(25): ﴿وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ﴾: منع قادرين.
(26) - (27): ﴿فَلَمَّا رَأَوْهَ﴾: حطامًا ندموا ﴿قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ
نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾: من ثمار حديقتنا ومن رحمة الله وثوابه ومستحقون لغضبه وعذابه.
(28) - (29): ﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ﴾: أفضلهم رأيًا: ﴿أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا
تُسَبِّحُونَ﴾: هلا تطيعون الله وتتوبون إليه.
(30) - (31): ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ﴾: يلقي كل منهما
المسؤولية على صاحبه.
(32): ﴿عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَ﴾: اعترفوا بالخطأ والخطيئة
وطلبوا منه تعالى ان يعود عليهم بالصفح والفضل دنيا وآخرة.
(33): ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ﴾: هكذا تأتي الآفات المخبآت في الدنيا، ولعذاب الآخرة
أشد وأنكى.
(34): ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ... ﴾: كما هدد المجرمين بالجحيم وعد المتقين بالنعيم
كدأبه، جل جلاله.
(35): ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾: المراد بالمسلمين هنا
المجاهدون المحسنون وإلا فكم من مصلِّ وصائم هو عند الله أشد جرمًا من كافر أمن
الناس من شره، وكف عنهم أذى الأشرار.
(36): ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾: فيه رد على كل مسيء يرى نفسه محسنًا، وكل
جاهل يرى نفسه عالمًا، أو يرى له الفضل على سواه بمال أو نسب أو جاه.
(37) - (38): ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا
تَخَيَّرُونَ﴾: هل نزل وحي من السماء يقول: ان أصحاب الجاه والمال لهم عند الله
غدًا ما يحبون ويشتهون؟.
(39): ﴿أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ
لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾: هل حلف الله لكم أيمانًا مغلظة ومؤكدة ان يجعل الأمر
بيدكم يوم القيامة في كل ما تختارونه لأنفسكم من خير وكرامة.
(40): ﴿سَلْهُم أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ﴾: سل يا محمد الذين يدعون شيئًا من ذلك:
من الذي ضمن لهم تنفيذ ما يدعون؟.
(41): ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء﴾: أو أصنامهم هي الكفيل بتنفيذ كل ما يدعون، فإن تك
للأصنام هذه المكانة فليأتوا بها، وتفعل لهم ما يشتهون.
(42): ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ﴾: كناية عن أهوال القيامة وشدائدها وفي الأشعار:
(شالت الحرب عن ساقها) أي أن نساء المغلوب تشمر عن ساقها للهرب. وفي الجزء السادس
من صحيح البخاري بعنوان: (ن والقلم) حديث عن النبي (ص): (يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد
له كل مؤمن ومؤمنة) وفي الآية 30 من ق ذكرنا أن البخاري نقل عن النبي أن الله يضع
قدمه في جهنم فتقول قط قط وأشرنا إشارة خاطفة إلى معارضة هذا الحديث للعقل والوحي
﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾: كناية عن ان الذي لم يك قد
آمن بالله وسجد له في دار الدنيا- لا يملك شيئًا يوم القيامة يدفع عنه غضب الله
وعذابه.
(43): ﴿خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ﴾: الخشوع للقلب لا للبصر. وكنى به سبحانه عن الذلّ
والهوان الذي تظهر دلائله في الأبصار بدليل قوله بلا فاصل: ﴿تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ
وَقَدْ كَانُو﴾: في الدنيا ﴿يُدْعَوْنَ﴾: إلى الإيمان بالله والعبادة له، فيمتنعون
في تمام الصحة والأمن والأمان، فاستحقوا من الله أليم العذاب.
(44) - (45): ﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ﴾: يقول سبحانه لنبِّه
الكريم: لا تشغل قلبك بمن كذب بك وبالقرآن، فقد أعلنت عليه الحرب وسأتولى أنا بنفسي
الإنتقام منه ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾: المراد بالإستدراج
هنا المد والإمهال، ثم العقاب بما يستحقون، قال سبحانه: (أيحسبون ان ما نمدهم به من
مال وبنين نسارع لهم في الخيرات 55 -56 المؤمنون) والقرآن يفسِّر بعضه بعضًا ﴿إِنّ
َكَيْدِي مَتِينٌ﴾: أي تدبيره تعالى محكم وعظيم.
(46): ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ﴾: المغَرم
بالغين وفتح الراء: الغرامة، والمعنى لو طلبت أجرًا على التبليغ لاستثقلوا منك هذا
الطلب، وتقدم في الآية 40 من الطور.
(47): ﴿أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ﴾: هل أطلعوا على علمه تعالى،
فنقلوا منه أنهم في حصن حصين من عذابه، وتقدم في الآية 41 من الطور.
(48): ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾: يا محمد، ولا يضيق صدرك بقومك كما ضاق صدر
يونس ﴿إِذْ نَادَى﴾: في بطن الحوت، ﴿وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾: مملوء غيظًا.
(49): ﴿لَوْلَا أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾: تدارك يونس نفسه ونظر
إليها، فتداركه سبحانه ونظر إليه، فأمده بتوفيقه وعنايته، ولولا ذلك لقذفه الحوت من
بطنه في العراء ملومًا.
(50): ﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾: رده إلى قومه نبيًا كما كان من قبل وتقدمت قصة يونس
في 98 وما بعدها من يونس والآية 138 وما يتبعها من الصافات.
(51): ﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ﴾: من الزلق في الموضع
الذي تزل به الرجل، والمراد به هنا النظر بغيظ وحنق ﴿بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا
سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾: يخبر سبحانه نبيه الكريم عن
أعداء الله وأعدائه أنه حين يقرأ القرآن ينظرون إليه بنظرات حادة حمراء، وبعيون
العداوة والبغضاء حتى تكاد تلك النظرات الخبيثة الحاقدة تزل قدم الرسول من مكانها
فيقع على الأرض. أما ألسنتهم فإنها لا تنطق إلا بالكفر والهجر كقولهم: هو مجنون وما
أشبه.
(52): ﴿وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾: ان القرآن عظة وهداية لمن سعى
لها سعيها بجد وإخلاص.
* التفسير المبين / العلامة الشيخ محمد جواد مغنية.
2015-12-10