الرضا والتسليم والتوحيد
علم العرفان
الرضا هو موافقة النفس لفعل من الأفعال، دون وجود تعارض بينهما، يقال: رضي بكذا، أي وافقه، ولم يمتنع منه. ويتحقّق بعدم كراهته إياه سواء أحبّه أم لم يحبّه ولم يكرهه، فرضى العبد عن الله هو أن لا يكره بعض ما يريده الله،
عدد الزوار: 287
مقام الرضا
1- تعريف الرضا وحقيقته:
الرضا هو موافقة النفس لفعل من الأفعال، دون وجود تعارض بينهما، يقال: رضي بكذا، أي
وافقه، ولم يمتنع منه. ويتحقّق بعدم كراهته إياه سواء أحبّه أم لم يحبّه ولم يكرهه،
فرضى العبد عن الله هو أن لا يكره بعض ما يريده الله، ولا يحبّ بعض ما يبغضه، ولا
يتحقّق إلا إذا رضي بقضائه تعالى، وما يظهر من أفعاله التكوينية وما أراده منه
تشريعًا1.
يعتبر الرضا المحور الذي تدور حوله أخلاق العرفاني، إذ منه ينبع التوكّل والزهد،
وهو يورث السكينة في القلوب والاطمئنان إلى أحكام قضاء الله، وهو ثمرة المحبّة,
لأنّ شأن المحبّ أن يرضى بكلّ ما يفعله المحبوب, لأنّه منّة من الله على العبد.
الرضا من المقامات التي يصل إليها السالك بعد أن تصفو نفسه عن طريق التوبة والطاعة
والإخلاص، وترتقي من حال النفس الأمارة إلى مقام النفس اللوامة، ثمّ إلى مقام النفس
الملهمة، حتّى تصل إلى مقام النفس المطمئنّة، فالمرضية2.
يعتقد بعضهم أنّ الرضا مقام مختصّ بمن وصلوا، وليس من هم في طريق السلوك, لأنّ الذي
رضي بما أراده الله له، وأصبحت نفسه مطمئنّة لذلك، فهو في أعلى مقام المعرفة
والعرفان، ويترتّب على ذلك تغيير في نظرة العارف لكل شيء إذ يراه على أنّه من الله
تعالى، وهو الذي أراد له أن يمون على هذا الحال3.
2- درجات الرضا:
للرضا درجات ثلاث كما ذكرها العرفاء:
الدرجة الأولى: الرضا بربوبية الله تعالى، وهو رضا العامّة به يطهِّر الإنسان
السالك من الشرك الأكبر. وشروطه ثلاثة:أن يكون رضا الله عزّ وجلّ أحبّ الأشياء إلى
العبد، وأولى الأشياء بالتعظيم، وأحقّ الأشياء بالطاعة4.
الدرجة الثانية: الرضا بقضاء الله تعالى وقدره، فهو راضٍ عن كلّ ما يحصل له، سواء
أكان حسنًا أو غير حسن، ويكون ذلك عنده سيّان، حيث يعتبرها جميعها نِعم من الله
تعالى. وشروطه ثلاثة: أن لا تختلف حالات العبد عند أي شيء، وترك مخاصمة الخلق،
والإخلاص من المسألة والإلحاح5.
الدرجة الثالثة: الرضا برضا الله تعالى، وهي خاصّة بأهل المحبّة, هؤلاء الذين لا
ينظرون إلى رضاهم، بل همّهم الأساس رضا الله تعالى.
أمّا الذي يوصل السالك إلى مقام الرضا، الاعتقاد بلطف الله تعالى وخيره، واعتبار
كافّة أفعاله جميلة، ومن ثمّ محبّته. ويترك الرضا آثارًا عديدة، من أبرزها: حسن
الظن، وشرح الصدر، والتخلية من الحرص والحسد، ومن ثمّ مناعة الطبع، وعلوّ الهمة6.
مقام التسليم
التسليم أعلى درجات سلوك الإنسان في مرحلة البدايات وقبل دخوله الأخلاقيات. وهو
عبارة عن القبول المطلق بما يريده الحق سواء أوافق أغراض الشخص أو خالفها7.
عند توضيح العرفاء لمقام التسليم، يذكرون الآية الشريفة: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ
يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ
فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمً﴾8. فقالوا:
إنّ درجة الإيمان لا تكتمل إلا بالتسليم. فيما حكم به الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم بينهم، ولا يخالفون ما أراد، ولا يجدون في أنفسهم حرجًا في قبول ذلك9.
وللتسليم درجات ثلاث:
الدرجة الأولى: التسليم أمام الأمور التي تعجز العقول عن إدراكها وأرادوا بذلك عدم
البحث عن الأسباب, لأنّ العقول تدرك الأمور بأسباب معينة، وأما إذا كان هناك من
الأمور ما هو فوق العقل، فلا يجب إنكاره، بل يجب التسليم به، بالأخصّ إذا كان
صادرًا من مكان ثقة يعلو العقول بقدرته على كشف حقائق الوجود, لذلك قال التلمساني:
"فمن حقّق مقام التسليم حتّى صحّ له وكمُل عنده، فهو تسليم إلى الله تعالى مما هو
غيب عنه ممّا يزاحم العقول والأوهام، فلا يلتفت إلى السبب في كلّ ما غاب عنه من
أمور الدنيا والآخرة"10.
وهذا من جهة التسليم بما هو غائب، ولكن للتسليم وجه آخر، وهو التسليم مقابل الأمور
غير الغائبة والتي تتعارض مع العقول. يعتقد العرفاء أنّ السالك تحصل له حالات أثناء
حركته السلوكية تجعله يرى من المعاني الغيبية ما لا يمكن فهمه
والإذعان له في عالم العقول، فهل ينكر العارف ما رآه، أم يسلّم؟ الواضح أن التسليم
يقتضي القبول والرضوخ.
الدرجة الثانية: التسليم للحال التي تحصل للسالك11. والمقصود منها التسليم لوجود
المعاني الباطنية عند السالك، والتي لا يدل العلم عليها، وهذا أعلى درجة من الأول
والانتقال من الحجاب إلى الكشف ومن الخبر إلى العيان. وهذا يعني أنّ الحال التي
تسيطر على العارف أثناء سيره وسلوكه يجعله يسلّم، ويقبل الحقائق التي لا يمكن
قبولها من دونه, لأنّ ظاهرها مخالف للعلم.
والانتقال من الرسم إلى الحقيقة عبارة عن أن يسلّم السالك نفسه ليفنى في شهود
الحقيقة.
الدرجة الثالثة: تسليم ما دون الحقّ إلى الحقّ. إنّ هذه الدرجة تكمّل الدرجة
السابقة، وبناءً عليها فإنّ كلّ ما سوى الحقّ ليست سوى مظاهر وظِلال، وإذا أدرك
السالك أنّ كل ما سوى الله تعالى ليس إلا هذه الرسوم الظاهرية، وأنّ الحقيقة هي لله
تعالى وحده، فقد سلّم به.
والخلاصة: أنّ من وصل إلى مقام التسليم فقد وجد نفسه مسلمة إلى الحقّ.
مقام التوحيد
مقام التوحيد هو المقام الأخير عند العرفاء، وهو عبارة عن تنزيه الله تعالى من
الحدث12.
وللتوحيد أوجه ثلاثة:
1- توحيد العامة: وهو عبارة عن استخدام الأدلّة والبراهين والعقول لإثبات وحدانية
الصانع.
2- توحيد الخاصة: وهو عبارة عن التوحيد الذي يحصل من خلال الحقائق للمتوسطين من أهل
السلوك. والحقائق عندهم عشر، هي: المكاشفة، المشاهدة، المعاينة، الحياة، القبض،
البسط، السكر، الصحو، الاتّصال، والانفصال13.
3- توحيد خاصّة الخاصّة: وهو توحيد اختصّه الله تعالى لنفسه، لا يدركه إلا خواصّ
الخواصّ الذين أراد الله لهم الاطّلاع على الأسرار، وأخرس ألسنتهم عن النطق بما
يشاهدونه ويعيشونه في حالات سلوكهم. وهذا يعني أنّ السالك يصل إلى درجة من التوحيد
تعجز عباراته عن الإفصاح بشيء، فلا دليل ولا شهود، بل فناء كامل، وأمّا إذا تمكّن
العارف من وصفه، فهو لم يصل إليه14.
* كتاب علم العرفان، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- رزق، خليل، العرفان الشيعي، ص 380 ـ 381.
2- نقلا عن مقدمات تاسيسية، ص34.
3- المصدر نفسه، ص 35.
4- رزق، خليل، العرفان الشيعي، ص 384.
5- المصدر نفسه، ص 384.
6- حسيني، قوام الدين، العرفان الإسلامي، ص 320.
7- التلمساني، عفيف الدين، شرح منازل السائرين، انتشارات بيدار، قم، ط 1، 1413هـ.،
ص 211.
8- سورة النساء، الآية 65.
9- شرح منازل السائرين، ص 211.
10- المصدر نفسه، ص 212.
11- المصدر نفسه، ص 214.
12- المصدر نفسه، ص 601.
13- المصدر نفسه، ص 602 ـ 603.
14- المصدر نفسه، ص 608.