اليقظة والتوبة
علم العرفان
أشرنا إلى أنّ المقامات كثيرة عند العرفاء، إلا أنّهم يهتمّون ببعضٍ منها، سنحاول في هذا الدرس الإطلالة على مقامين هامّين: اليقظة والتوبة.
عدد الزوار: 297
أشرنا إلى أنّ المقامات كثيرة عند العرفاء، إلا أنّهم يهتمّون ببعضٍ منها، سنحاول
في هذا الدرس الإطلالة على مقامين هامّين: اليقظة والتوبة.
مقام اليقظة
يعيش الإنسان في حياته الدنيوية حالةً من الغفلة، فينسى أصله وحقيقته، ولا يدرك سبب
هذه الحياة الدنيوية القصيرة ولا يفكّر فيها ولا يستعدّ للانتقال إلى العالم الآخر.
وما دام الإنسان واقعًا في شراك الغفلة، ولم ينهض لنجاته وسعادته، فلن يبدأ الحركة
نحو الله تعالى.
يعتبر العرفاء أن الخطوة الأولى في السير نحو الله تبدأ من اليقظة.
حقيقة اليقظة
اليقظة حالة من العودة إلى الذات، حيث تنهار بواسطتها الحجب الكبيرة التي منعت
الإنسان من التوجّه نحو الله تعالى. واليقظة نور يلقيه الله تعالى على قلب السالك
فتضيء حياته: "اليقظة نور والغفلة غرور"1.
تحدّث الخواجه عبد الله الأنصاري في منازل السائرين، فاعتبرها: "هي أوّل ما يستنير
قلب العبد بالحياة لرؤية نور التنبيه"2، وبناءً عليه عندما يتنبّه العبد إلى ما هو
فيه من غفلة، ويدرك أنّ الحياة الحقيقية ليست فيما يعمل، ويقرّر الانتقال إلى عالم
آخر، يبدأ من التوبة، وبالتالي التوجّه نحو الله تعالى، في هذه الحالة تكون اليقظة،
فهي إذاً التنبّه لما هو موجود، ولما يجب أن يكون عليه الشخص. ويترتّب على هذا
النور الحياة الطيبة في الحياة الدنيا والسلوك نحو الله تعالى. جاء في القرآن
الكريم: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي
بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَ﴾3.
ونور اليقظة، إفاضة ربّانية وجذية إلهية، تحرق أصول الجهل وتزرع المعرفة والشوق نحو
الكمال. جاء عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ الله خلق قلوب المؤمنين مبهمة على
الإيمان، فإذا أراد استنارة ما فيها فتحها بالحكمة وزرعها بالعلم، وزارعها والقيم
عليها ربّ العالمين"4 ثمّ إنّ الجذبة الإلهية عامّة تشتمل على الجميع، وتوجّههم نحو
الحقّ تعالى، أمّا الذين يتأثّرون وينجذبون فهم المستعدّة قلوبهم. العارف يحتاج إلى
اليقظة في كافّة مراحل سلوكه على أساس أنّ لكلّ منزل شروطه وظروفه والانتقال إلى
الآخر يتطلّب الالتفات والانتباه.
آثار اليقظة في وجود السالك
تبعث اليقظة على وجود تحوّلات أساسية عند العارف، من أبرزها:
1- الاهتمام بالنعم الإلهية:
يصبح للنعم الإلهية معنًى جديدًا بعد حصول اليقظة، فعندما ينظر العارف إلى أيّ مكان
فيراه مليئًا بنعم الله تعالى، تلك النعم اللامتناهية التي تشعره بأنّه غارق فيها
وعاجز عن شكره لأجلها. وهذا يعني أن اليقظة تؤدّي إلى إيجاد معرفة عند العارف،
تجعله يدرك مدى تقصيره في ما أسلف في التعامل مع تلك النعم.
يقول الخواجه عبد الله الأنصاري: "واليقظة هي ثلاثة أشياء: الأوّل لحظ القلب إلى
النعمة على الاياس من عدّها... والوقوف على حدّها، والتفرّع لمعرفة المنّة بها..."5.
2- معرفة الحق:
تختلف معرفة الحقّ عند الإنسان بمقدار يقظته، والغفلة عن عظمة الحقّ تعالى يترك
عليه آثارًا مهلكة، من أبرزها: استصغار الذنب، نقصان العبادة والطاعة، عدم رعاية
أدب العبودية، وعدم الخوف من الله...
أمّا السالك فيدرك عظمة الخالق من خلال نور اليقظة، وعند ذلك يكبر الذنب في عينيه،
وينظر إلى عبادته على أنّها ناقصة لا تتناسب مع مقام العظمة والجلال, فيسعى ويعمل
ويبذل جهده ليصل إلى أعلى المراتب.
3- التعرّف إلى الأخطاء:
يتمكّن السالك من خلال اليقظة من الالتفات إلى أخطائه فتكبر في عينيه، ثمّ يتحرّك
لجبران الخطأ والبحث عن طرق النجاة، يقول الأنصاري: "والثاني مطالعة الجناية،
والوقوف على الخطر فيها... والتشمّر لتداركها، والتخلّف من ربقها... وطلب النجاة
بتمحيصها"6.
4- معرفة النفس الأمارة:
اليقظة تجعل السالك عارفًا بالنفس وأهوائها، وبواسطتها يدرك أنّ أعظم حجاب نُصب
بينه وبين الله هو النفس وأهواؤها. وبذلك يدرك حقيقة الحديث الشريف: "أعدى عدوّك،
نفسك التي بين جنبيك"7.
وإذا عرف ذلك تحرّك نحو النجاة، وفتّش عن طريق محاربة النفس، وكبح جماحها.
طبعاً هناك آثار أخرى تترتّب على اليقظة، من أبرزها: اغتنام فرصة الحياة الدنيا،
والتصديق بالوعيد الإلهي، و...
عوامل قبول نور اليقظة
إذا كان فيض الله تعالى موجّهًا لجميع الخلق، فإنّ الذي يقبله ويتأثّر به هو
المستعدّ قلبه. هناك أسباب عديدة تجعل من القلب مستعدًّا لقبول نور اليقظة، من
أبرزها:8
1- تلاوة القرآن والتدبر فيه، ﴿كِتَابٌ
أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ
أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾9.
2- الارتباط بالمعصومين الذين هم أصحاب الولاية الحقّ،
ومجاري فيض الله تعالى.
3- التفكير في الموت، عن الإمام الصادق عليه
السلام: "ذكر الموت يميت الشهوات في النفس، ويقطع منابت الغفلة، ويقوّي القلب
بمواعد الله..."10.
مقام التوبة
1- حقيقة التوبة:
هو المقام الذي يحصل للعارف بعد اليقظة. والتوبة هي الرجوع الاختياري عن السيئة
والمعصية إلى الطاعة والعبودية11. وفي تعريف آخر هي الرجوع عمّا كان مذموماً في
الشرع إلى ما هو محمود فيه12. والتوبة ضرورية للعارف, إذ بدونها لا يمكن الشروع
بالسير والسلوك، إذا ما دام الشخص مذنبًا أو مصرًّا على الذنب، كان عاجزًا عن البدء
بمسيره السير والسلوك. وعندما نقول التوبة هي الرجوع إلى الله تعالى، يعني ذلك رفض
كل ما هو مرفوض من قبل الله، والعمل بما هو مقبول عنده، وبعبارة أخرى: ترك المعاصي،
والإقبال نحو الطاعات.
2- أركان التوبة وشروطها:
تتحدّث الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام عن شروط وأركان للتوبة، اقتبسها
العرفاء وجعلوها من أساسيات التوبة، ومن أبرز هذه الشروط:
أ- الندم على ما مضى من الذنوب والمعاصي.
ب- والعزم على عدم العودة إليها لاحقًا.
ج- ترك الذلّة في الحال.
أما أركان التوبة: أداء الفرائض، قضاء ما فات، طلب الحلال، ردّ المظالم ومجاهدة
النفس13.
جاء في حديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام لقائل قال بحضرته: "أستغفر الله":
"ثكلتك أمك، أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة
معانٍ:
أولها: الندم على ما مضى.
والثاني: العزم على ترك العودة إليه أبدًا.
والثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم، حتّى
تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.
والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على
السحت، فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد.
والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة، كما أذقته
حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله"14.
آثار التوبة في وجود السالك
تحمل التوبة العديد من الآثار للسالك، من أبرزها:
1- التائب, حبيب الله تعالى:
إنّ التائب هو الذي بدأ الخطوة الأولى في مسير القرب إلى الله، فهو محبوب عنده. جاء
في القرآن الكريم: ﴿اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾15، وفي الحديث الشريف:
"التائب
حبيب الله"16. ومحبّة الله تعالى ليست كمحبّة العباد، فهي ليست من الحالات
النفسانية، بل بمعنى جذب الحقّ العبدَ إليه، ورفع الحجب من أمام عينيه.
2- طهارة الباطن:
وعد الله تعالى التائبين بالعفو والمغفرة: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ﴾17. وعفو الله ومغفرته تطهّر الباطن،
وتمحو آثار الذنوب والمعاصي, لذلك جاء في الحديث: "التائب من الذنب كمن لا ذنب
له"18.
3- زيادة الرزق:
إذا تاب العبد توبة صادقة، وسّع الله تعالى من رزقه له، سواء أكان من الرزق الظاهري
أو الباطني: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ
يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنً﴾19.
4- تبدّل السيئات بالحسنات:
من دواعي لطف الله تعالى على العبد التائب أن يبدّل سيئاته بالحسنات ﴿فَأُوْلَئِكَ
يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾20.
في الختام نقول: إنّ التوبة واجبة على الجميع، ومن غير المقبول تأخيرها، وما دام
الإنسان يرتكب المعاصي والذنوب فعليه أن لا يؤخّر التوبة على الإطلاق حتّى يلقى
الله تعالى وليس في ذمّته شيء من الحرام.
* كتاب علم العرفان، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الخوانساري، جمال الدين محمد، شرح غرر الحكم، ج1، ص 37
2- الأنصاري، الخواجة عبد الله، منازل السائرين، باب اليقظة، ص 24.
3- سورة الأنعام، الآية 122.
4- أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، باب سهو القلب، ج 2، ص 422.
5- منازل السائرين، ص 24.
6- المصدر نفسه، ص 26.
7- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1983،
ج 67، ص 64.
8- راجع: حسيني، قوام الدين، العرفان الإسلامي، ص 131.
9- سورة ص 29.
10- بحار الأنوار، ج 6، ص 133.
11- رزق، خليل، العرفان الشيعي، ص 334.
12- مقدمات تأسيسية، ص 25.
13- مقدمات تأسيسية، ص 26.
14- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، دار الذخائر، قم، ط 1، ج 4، ص 97.
15- سورة البقرة، الآية 222.
16- النراقي، محمد مهدي، جامع السعادات، تحقيق السيد محمد كلانتر، دار النعمان،
النجف، ج 3، ص 65.
17- سورة الشورى، الآية 25.
18- جامع السعادات، ج 3، ص 65.
19- سورة هود، الآية 3.
20- سورة الفرقان، الآية 70.