يتم التحميل...

المدارس الفقهيـّة الشيعيـّة (5) جبل عامل

علم الفقه

عندما انتقل الفقه من بغداد إلى الحلّة، بعد سقوط الدولة العباسيّة، أقبل طلبة جبل عامل إلى الحلّة لتلقّي العلم من فقهائها. ومن هؤلاء الشيخ نجم الدين طمان بن أحمد العاملي، والشيخ صالح بن مشرف جدّ الشهيد الثاني،

عدد الزوار: 292

 عندما انتقل الفقه من بغداد إلى الحلّة، بعد سقوط الدولة العباسيّة، أقبل طلبة جبل عامل إلى الحلّة لتلقّي العلم من فقهائها. ومن هؤلاء الشيخ نجم الدين طمان بن أحمد العاملي، والشيخ صالح بن مشرف جدّ الشهيد الثاني، وجمال الدين يوسف بن حاتم العامليّ، والشيخ محمّد بن جمال الدين مكّي العامليّ الشهيد الأوّل، وغيرهم من علماء جبل عامل وفقهائه. وازدهرت بهم مدرسة جبل عامل وحفلت بالعلماء والفقهاء والمعاهد العلميّة، وانتقل إليها تراث مدرسة الحلّة، واجتمع فيها جمع غفير من علماء الشيعة حتّى أن الحرّ العاملي رضوان الله عليه يقول: "إنّ علماء الشيعة في جبل عامل يبلغون نحو الخمس من علماء الشيعة في جميع الأقطار مع أن بلادهم أقلّ من عشر عشر بلاد الشيعة"1. وقد تأسّست في هذه المنطقة مجموعة من المعاهد والمدارس العلميّة، استقطبت طلبة العلم، وخرّجت جمعاً كبيراً من الفقهاء والعلماء. ونشير إلى جملة من هذه المدارس.

أ- مدرسة جزين
من أبرز معاهد هذه المنطقة العامرة والحافلة بالفقهاء والعلماء. وقد تأسّست وازدهرت هذه المدرسة على يد الشهيد الأوّل. إلا أنّ جزين كانت قبل الشهيد معروفة بمن فيها من العلماء، منهم والد الشهيد جمال الدين مكّي بن محمّد العاملي الجزّيني. يقول عنه الحرّ في ( الأمل): "كان من فضلاء المشايخ في زمانه ومن أجلّاء مشايخ الإجازة"2.

ازدهرت المدرسة على يد الشهيد رضوان الله عليهوكان الشهيد يمارس التدريس فيها بنفسه، ويعطيها من اهتمامه وجهده ووقته الكثير. كما عمل الشهيد رضوان الله عليهفي هذه الفترة على تنظيم علاقة الأمّة بالفقهاء من خلال شبكة الوكلاء الذين ينوبون عن الفقهاء في تنظيم شؤون الناس في دينهم ودنياهم، كما يقومون بجمع الحقوق المالية الشرعية لتوزيعها على مستحقّيها بنظر الفقيه 3.

ونمت وتطوّرت مدرسة جزين بعد شهادة الشهيد رضوان الله عليه، واستقطبت طلبة العلم من مناطق مختلفة. وأصبح جبل عامل بفضل هذه المدرسة وجهود الشهيد مركزاً للإشعاع الفكريّ في بلاد الشام خاصّةً، والعالم الإسلاميّ عامّة 4ً.

ب-مدرسة جباع
من المدارس الفقهيّة المعروفة في جبل عامل. درس فيها الشيخ صالح بن مشرف العامليّ الجبعيّ، وهو جدّ الشهيد الثاني، والشيخ نور الدين علي بن أحمد بن محمّد العامليّ الجبعيّ، والد الشهيد الثاني المعروف بابن الحاجّة، والشهيد الثاني 911- 966 ه‍ـ، حضر فيها المقدّمات على والده الشيخ نور الدين، ثمّ هاجر بعد وفاة والده جباع إلى ميس وحضر فيها على الشيخ الجليل علي بن عبد العالي الميسيّ سنة 925 هـ،‍ واستمرّ في الحضور عنده إلى سنة 933 هـ‍ ثم هاجر إلى كرك نوح وحضر فيها على السيّد حسن ابن السيّد جعفر صاحب كتاب المحجّة البيضاء، وقرأ عليه الفقه والأصول والحديث والكلام والأدب، ثمّ عاد إلى جباع في سنة 934 هـ‍، وبقي فيها يتعاطى العلم إلى سنة 937 ه‍ حيث هاجر منها إلى دمشق ليكمل دراسته فيها.

وعاد إلى جباع مرّة أخرى سنة 938 هـ‍ وأقام فيها إلى سنة 941 ه‍ـ يمارس التدريس والتوجيه والتأليف، وفي هذه السنة غادر جباع إلى دمشق حيث حضر فيها على علماء أهل السنّة، فاجتمع بالشيخ شمس الدين بن طولون الدمشقيّ الحنفيّ وقرأ عليه جملةً من الصحيحين، وأجازه روايتهما معاً. ثمّ غادر دمشق إلى مصر سنة 943 ه‍، فاجتمع في مصر بجمع من أعلام مصر وفقهائها، قرأ عليهم واستفاد منهم، ثمّ عاد الشهيد إلى جباع في حدوده سنة 935 ه‍ وازدهرت بعودته مدرسة جباع بعد ضمور وخمول.

من أعلام مدرسة جباع
جمال الدين أبو منصور الشيخ حسن بن زين الدين المشهور بالشهيد الثاني (959- 1011 هـ‍)، من كبار فقهاء الشيعة، اشتهر بكتابه القيم (معالم الدين وملاذ المجتهدين)، حضر عند السيّد علي الصائغ والسيّد علي نور الدين الكبير- والد السيّد محمّد صاحب (المدارك)، والشيخ حسين بن عبد الصمد والد الشيخ البهائيّ، واختص بالسيّد علي الصائغ، وكان أكثر دراسته في العلوم العقليّة والنقليّة عليه. واستفاد من إقامة الشيخ عبد الله اليزدي رضوان الله عليهصاحب (حاشية التهذيب) في هذه المنطقة فقرأ عليه هو وابن اخته السيّد محمّد صاحب (المدارك)، ثمّ هاجر هو وصاحب (المدارك) إلى النجف وحضرا عند المولى المقدّس الأردبيليّ في الفقه والأصول، ثمّ رجعا إلى جباع. واستقلّ صاحب (المعالم) الشيخ حسن بعد عودته إلى جباع في التدريس، وألف مجموعةً من الكتب.

ج-مدرسة كرك نوح
كرك نوح مدينةٌ صغيرةٌ تقع في البقاع الأوسط، وفيها قبر ينسب إلى نبيِّ الله نوح عليه السلام، كانت من أكثر المدارس الفقهيّة خصوبةً وعراقةً في جبل عامل ولبنان. نشأ فيها وتخرّج منها في القرن العاشر الهجريّ والقرن الحادي عشر جمعٌ غفيرٌ من الفقهاء والعلماء. ومنها كان الفقهاء من أمثال المحقّق الكركي ينطلقون إلى إيران في العهد الصفويّ ليشاركوا في نشر مذهب أهل البيت عليهم السلام وترسيخه في إيران وتثقيف المسلمين فيها.

معالم مدرسة جبل عامل
حقّقت هذه المدرسة إنجازاتٍ كبيرةٍ وعلى درجةٍ عاليةٍ من التطوّر في عدّة مجالاتٍ.
1- في الحديث: فقد تمّ في هذه المدرسة تنقيح كتب الحديث الأربعة الشهيرة، وأفرزت الصحاح والحسان منها عن الموثقات والضعاف. وقد نهض بهذا المشروع أبو منصور جمال الدين الشيخ حسن المعروف بصاحب المعالم وهو نجل الشهيد الثاني (رحمهما الله)، في كتابه منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان5.

2- في أصول الفقه: فقد ألّف أيضاً الشيخ حسن نجل الشهيد الثاني كتاب (معالم الدين وملاذ المجتهدين) وهو من أفضل ما كتب في الأصول. ويمتاز هذا الكتاب بتحرير المسائل الأصولية وتنظيمها وتبويبها ضمن مقدّمات ومطالب. وقد حظي هذا الكتاب نظراً لاختصاره وتركيزه واحتوائه على أمّهات المسائل الأصوليّة بشروحٍ وتعليقاتٍ كثيرةٍ.

3- في البحث الفقهيّ: كتاب اللمعة الدمشقيّة للشهيد الأوّل، وشرح هذا الكتاب الشهيد الثاني بكتابه (الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية).

4- في مجال تدوين القواعد الفقهيّة: وهي عبارةٌ عن أحكامٍ كليّةٍ تندرج تحت كلّ منها تطبيقاتٌ جزئيّةٌ من أبوابٍ مختلفةٍ من الفقه أو من بابٍ واحدٍ من أبوابه، وهي كثيرةٌ وتعتبر من أهمّ مصادر الاجتهاد.

فقد تمّ في مدرسة جبل عامل تدوين القواعد الفقهيّة لأوّل مرّة في تاريخ مدرسة أهل البيت عليهم السلام. وكان الشهيد الأوّل أوّل من نهض بهذا المشروع الفقهيّ بصورةٍ منهجيّةٍ، وذلك في كتابه القيم الجليل (القواعد والفوائد). وهذا الكتاب يحتوي على ما يقرب من ثلاثمائة وثلاثين قاعدةٍ، وما يقرب من مائة فائدةٍ، ويبحث الشهيد هذه القواعد في كثير من الأحيان بصورة مقارنة بين المذاهب المختلفة، يستعرض فيها الآراء ويخضعها لمناقشة علميّةٍ دقيقةٍ.

الخلاصة
مدرسة جبل عامل: بعد سقوط الدولة العباسيّة، أقبل طلبة جبل عامل إلى الحلّة لتلقّي العلم من فقهائها. فازدهرت مدرسة جبل عامل وانتقل إليها تراث مدرسة الحلّة، ومن معاهدها: جزين، جباع، وكرك نوح.

معالم مدرسة جبل عامل
1- تنقيح كتب الحديث الأربعة، وفرز الصحيح عن الضعيف.
2- ظهور كتاب(معالم الدين وملاذ المجتهدين)..
3- ظهوركتاب اللمعة الدمشقيّة وشرحه.
4- تدوين القواعد الفقهيّة.

* علم الفقه, سلسلة مداخل العلوم , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- راجع: العاملي، محمّد بن علي (ت: 1009 هـ): مدارك الأحكام، مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم ـ إيران، ط. الأولى 1410 هـ، مقدّمة التحقيق ج 1 ص 11.
2- الحرّ العامليّ (ت: 1104 هـ): أمل الآمل، تحقيق: أحمد الحسينيّ، منشورات: دار الكتاب الإسلاميّ، ط. 1362 هـ ش. الرقم 199 ج 1 ص 186.
3- المعروف أنّ الشهيد الأوّل رضوان الله عليه هو أوّل من أسّس هذا التنظيم، الذي يربط الفقيه المتصدّي بالأمة بواسطة شبكة من الوكلاء، واستمرّ هذا التنظيم فيما بعد ونما وتطوّر على أيدي الفقهاء الذين تصدّوا لشؤون الناس إلى اليوم الحاضر.
4- وممّا يذكر في حجم مدرسة جبل عامل الفقهيّة في هذه المرحلة: أنّ فاطمة بنت الشهيد لمّا توفيت في قرية جزين حضر تشييعها سبعون مجتهداً من جبل عامل.
5- هذا الكتاب يعتبر التطبيق العمليّ للنظريّة التي تمّ وضعها في مدرسة الحلّة على يد السيّد ابن طاووس والعلامة الحلّيّ في التقسيم الرباعيّ للحديث إلى الصحيح والحسن والموثّق والضعيف.

2015-11-01