المدارس الفقهيـّة الشيعيـّة (4) الحلّة
علم الفقه
برزت مدرسة الحلّة الفقهيّة بعد احتلال بغداد على يد هولاكو التتار، عندها أوفد أهل الحلّة وفداً إلى قيادة الجيش المغوليّ يلتمسون الأمان لبلدهم، فاستجاب لهم هولاكو، وآمنهم على بلدهم بعد أن اختبر صدقهم.
عدد الزوار: 289
نشأة المدرسة
برزت مدرسة الحلّة الفقهيّة بعد احتلال بغداد على يد هولاكو التتار، عندها أوفد أهل
الحلّة وفداً إلى قيادة الجيش المغوليّ يلتمسون الأمان لبلدهم، فاستجاب لهم هولاكو،
وآمنهم على بلدهم بعد أن اختبر صدقهم. وبذلك ظلّت الحلّة مأمونةً من النكبة التي
حلّت بسائر البلاد في محنة الاحتلال المغولي، وأخذت تستقطب الشاردين من بغداد من
الطلاب والأساتذة والفقهاء، فاجتمع فيها عددٌ كبيرٌ من الطلاب والعلماء، وانتقل
معهم النشاط العلميّ، واحتفلت بما كانت تحتفل به بغداد من وجوه النشاط الفكريّ، من
ندوات البحث والجدل، وحلقات الدراسة والمكتبات والمدارس، وغيرها، وظهر في هذه
المدرسة فقهاءٌ كبارٌ كان لهم الأثر الكبير في تطوير مناهج الفقه والأصول الإماميّة،
وتجديد صياغة عمليّة الاجتهاد، وتنظيم أبواب الفقه، نذكر منهم:
أبرز علماء مدرسة الحلّة
1- المحقّق الحلّي: نجم الدين أبو القاسم جعفر بن سعيد الحلّيّ (ت: 678هـ)،
رائد مدرسة الحلّة الفقهيّة، ومن كبار فقهاء الشيعة قال عنه تلميذه ابن داود: "الإمام
العلامة واحد عصره، كان ألسن أهل زمانه، وأقومهم بالحجّة وأسرعهم استحضاراً،... كان
مجلسه يزدحم بالعلماء والفضلاء ممن كانوا يقصدونه للاستفادة من حديثه، والاستزادة
من علمه"1.
قدّر للمحقّق الحلّيّ أن يجدّد كثيراً في مناهج البحث الفقهيّ والأصوليّ، وأن يكون
رائد هذه المدرسة. ويكفي في فضله على المدرسة الفقهيّة أنّه ربّى تلميذاً بمستوى
العلامة الحلّيّ، وخلّف كتباً قيّمةً في الفقه لا يزال الفقهاء يتناولونها،
ويتعاطونها باعتزازٍ ككتاب: شرايع الإسلام، وكتاب المختصر النافع، وكتاب المعتبر في
شرح المختصر، وكتاب نكت النهاية، وكتاب المعارج في أصول الفقه وغيرها.
2- العلامة الحلّيّ: جمال الدين حسن بن يوسف بن علي بن المطهّر، (648- 726
هـ). تتلمذ في الفقه على خاله المحقّق الحلّي، وفي الفلسفة والرياضيّات على
المحقّق الطوسيّ، فنشأ كما أراد أستاذاه، وظهر على أترابه وزملائه وعرف بالنبوغ وهو
بعد لم يتجاوز سنّ المراهقة، وانتقلت الزعامة في التدريس والفتيا إليه بعد وفاة
خاله المحقّق.
قدّر للعلامة الحلّيّ بفضل ما أوتي من نبوغ، وبفضل أستاذيه الكبيرين المحقّق
والشيخ، وجهوده الخاصّة، أن يساهم مساهمةً فعّالةً في تطوير مناهج الفقه والأصول،
وأن يوسع دراسة الفقه. وتعدّ موسوعته الفقهيّة التذكرة أوّل موسوعةٍ فقهيٍّة من
نوعها في تاريخ تطوير الفقه الشيعيّ، من حيث السعة والمقارنة والشمول، وتطور مناهج
البحث.
وبلغت مدرسة الحلّة كمالها في حياة العلامة، وذلك بفضل جهوده القيّمة، كما قدّر له
لأوّل مرّة أن يتفرغ لدراسة المسائل الخلافيّة بين فقهاء الشيعة بصورةٍ مستقلّةٍ في
كتابه الكبير المختلف.
3- فخر المحقّقين: أبو طالب محمّد بن الحسن بن يوسف بن المطهّر، من وجوه
الطائفة وأعيانها، تتلمذ على أبيه العلامة الحلّي، ونشأ برعايته وعنايته، وقرأ عليه
مختلف العلوم النقليّة والعقليّة، وبرز في ذلك كلّه. أكمل بعض تآليف والده العلامة
ككتاب الألفين وغيره، وشرح بعضها الآخر ككتاب القواعد. قال فيه الشيخ الحرّ
العامليّ : "كان فاضلاً محقّقاً فقيهاً ثقةً جليلاً"2، قام
بتربية تلامذةٍ كبار في الفقه كان منهم الشهيد الأوّل رضوان الله عليه.
4- الشهيد الأوّل: أبو عبد الله محمّد بن الشيخ جمال الدين مكّي بن شمس
الدين محمّد الدمشقيّ الجزينيّ (734- 786 هـ).
ولد في جزين من بلدان جبل عامل، وهاجر إلى الحلّة طلباً للعلم، تتلمذ على فخر
المحقّقين بالحلّة ولازمه، وتتلمذ على آخرين من تلاميذ العلامة الحلّيّ في الفقه
والفلسفة. زار مكّة المكرّمة، والمدينة المنوّرة، وبغداد، ومصر، ودمشق، وبيت
المقدس، ومقام الخليل إبراهيم، واجتمع فيها بمشايخ العامّة، وأتاحت له هذه الأسفار
نوعاً من التلاقح الفكريّ بين مناهج البحث الفقهيّ والأصوليّ عند الشيعة والسنة.
وقرأ كثيراً من كتب السنّة في الفقه والحديث، وروى عنهم حتّى قال في إجازته لابن
الخازن: "إنّي أروي عن نحو أربعين شيخاً من علمائهم بمكّة والمدينة ودار السلام
بغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس ومقام الخليل إبراهيم"3. وهذا النص
يدل على أنّ الشهيد الأوّل جمع بين ثقافتي الشيعة والسنّة في الفقه والحديث، ولاقح
بين المنهجين في حدود ما تسمح به طبيعة المنهجين.
خلف كتباً كثيرة ًتمتاز بروعة البيان، ودقّة الملاحظة، وعمق الفكرة وسعة الأفق،
منها: الذكرى، والدروس الشرعيّة في فقه الإماميّة، وغاية المراد في شرح نكت
الإرشاد، واللمعة الدمشقيّة، والألفية والنفلية، وغير ذلك.
قتل بالسيف بدمشق، ثمّ صلب، ثمّ رجم ثمّ أحرق بفتوى القاضي برهان الدين المالكيّ،
وعباد بن جماعة الشافعيّ بعد ما حبس سنةً كاملةً في قلعة الشام في محنةٍ أليمةٍ
نعرض عن ذكرها.ويذكر من علماء هذه المدرسة: يحي بن سعيد الحلّي وابن إدريس الحلّي
وابن أبي الفوارس وابن طاووس وابن ورام.
ملامح المدرسة
كانت مدرسة الحلّة استمراراً لمدرسة بغداد، ولم يقدّر للمدرسة، رغم ضخامة العمل
الذي قامت بأعبائه في مجال تطوير مناهج الدراسة الفقهيّة، أن تهزّ مرّة أخرى مناهج
الاستنباط، كما فعل الشيخ الطوسيّ من قبل، لكن لا يعني ذلك أن ننكر ما حققته هذه
المدرسة في مجال تطوير البحث الفقهيّ بعد مدرسة بغداد. ويمكن تلخيص أهم ملامح هذه
المدرسة بما يلي:
1- تنظيم أبواب الفقه: رغم الجهد الذي بذله الشيخ الطوسيّ في تبويب الفقه
وإكثار الفروع، واستحداثه فروعاً جديدة، إلا أنّ الباحث يلحظ في كتب الشيخ وجميع
المتقدّمين عليه نوعاً من التشويش في التبويب، بينما في مدرسة الحلّة لأوّل مرّة
نلتقي بكتاب الشرايع للمحقّق الحلّيّ رضوان الله عليه بتنظيمٍ فريدٍ لأبواب الفقه،
استمرّ عليه فقهاء الشيعة إلى العصر الحاضر: قسّم المحقّق كتابه الشرايع إلى أقسام
أربعة: العبادات، العقود، الإيقاعات، الأحكام 4. وهذا تقسيمٌ رائع يجمع
مختلف أبواب الفقه.
2- ظهور الموسوعات الفقهيّة: حيث ألّف العلامة الحلّيّ تذكرة الفقهاء في
الفقه المقارن، وهو عملٌ فقهيٌّ لم يؤلّف مثله في السعة والاستيعاب، وجمع آراء
مختلف المذاهب الإسلاميّة، وناقش بموضوعيّةٍ وهدوءٍ لم يوجد مثله في الدراسات
المقارنة الأخرى.
3- كثر الاختلاف بين فقهاء الإماميّة أنفسهم: لابتعادهم عن عصر الإمام،
واختلافهم في سلامة الروايات من حيث السند والدلالة، فتشعّبت الآراء، ممّا دعا
العلماء إلى أن يجمعوا المسائل الخلافيّة بين علماء الشيعة، واستعراض وجوه الاختلاف
عندهم، كي يتاح للفقيه التعرّف إلى وجوه الاختلاف في المسألة، ومعرفة المسألة
المتّفق عليها بين علماء الإماميّة.
لكن ظلّت مدرسة الحلّة بشكلٍ عامٍّ امتداداً لمدرسة بغداد، وتطويراً لمناهجها،
وأساليبها.
4- قدّر لمدرسة الحلّة: نتيجة لممارسة هذا اللون الجديد من التفكير والاستنباط- أن
تمسح عن مدرسة بغداد مظاهر البدائيّة، وأن تسوّي من مسالكها وأن توسّع الطريق
للسالكين وتمهّدها لهم.
الخلاصة
مدرسة الحلّة: بعد احتلال بغداد على يد هولاكو التتار، ظلّت الحلّة مأمونةً،
وأخذت تستقطب الشاردين من بغداد من الطلاب والأساتذة والفقهاء، وانتقل معهم النشاط
العلميّ.
ملامح المدرسة
1- تنظيم أبواب الفقه بتنظيمٍ فريدٍ، استمرّ عليه فقهاء الشيعة إلى العصر الحاضر.
2- ظهور الموسوعات الفقهيّة.
3- كثرة الاختلاف بين فقهاء الإماميّة أنفسهم، وظهور كتب تجمع المسائل الخلافيّة
بين علماء الشيعة.
* علم الفقه, سلسلة مداخل العلوم , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- الحليّ ـ ابن
داوود: رجال ابن داوود، تحقيق وتقديم: محمد صادق آل بحر العلوم، منشورات: مطبعة
الحيدريّة ـ النجف الأشرف، ط. 1972 م. الرقم 304 ص 62.
2- الحرّ العامليّ (ت: 1104 هـ): أمل الآمل، تحقيق: أحمد الحسينيّ، منشورات: دار
الكتاب الإسلاميّ، ط. 1362 هـ ش. الرقم 768 ج 2 ص 261.
3- الشهيد الثاني زين الدين بن علي(ت:965 هـ): شرح اللمعة، منشورات مكتبة الداوري،
قم ـ إيران، ط. 1410 هـ، مقدّمة التحقيق ج 1 ص 76.
4- يبتنى هذا التقسيم على القسمة الثنائيّة الدائرة بين السلب والإيجاب: فالحكم
الشرعيّ إمّا أن يتقوّم بقصد القربة أم لا، والأوّل العبادات، والثاني إمّا أن
يحتاج إلى اللفظ من الجانبين الموجب والقابل أو من جانب واحد، أو لا يحتاج إلى
اللفظ فالأول العقود، والثاني الإيقاعات، والثالث الأحكام، وبذلك تندرج جميع أبواب
الفقه في أقسام أربعة.