كلمة سماحة السيد حسن نصرالله في إحياء الليلة الثالثة من محرم 1437هـ
2015
منذ عقود، منذ عشرات السنين، هناك جهود فكرية، وثقافية، وإعلامية مركّزة على أجيالنا وعلى عقولنا - خصوصاً على مستوى العالمين العربي والإسلامي ومن ضمنهم لبنان - في سياق الحرب الناعمة التي تُخاض منذ ذلك الوقت،
عدد الزوار: 195كلمة سماحة السيد حسن نصر الله (حفظه الله) في الليلة الثالثة من محرم 16/10/2015
أعوذ بالله
من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة
والسلام على سيدنا ونبينا خاتم النبيين أبا القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله
الطيبين الطاهرين وصحبه الأخيار المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
السلام عليك يا سيدي ومولاي يا أبا عبد الله الحسين يا ابن رسول الله وعلى الأرواح
التي حلّت بفنائك عليكم مني جميعاً سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار ولا
جعله الله آخر العهد مني لزيارتكم السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد
الحسين وعلى أصحاب الحسين.
السادة العلماء، الإخوة والأخوات السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
منذ عقود، منذ عشرات السنين، هناك جهود فكرية، وثقافية، وإعلامية مركّزة على
أجيالنا وعلى عقولنا - خصوصاً على مستوى العالمين العربي والإسلامي ومن ضمنهم لبنان
- في سياق الحرب الناعمة التي تُخاض منذ ذلك الوقت، وهي تركّز على فكرة محدّدة –
والتي سأتحدث عنها الليلة – والتي تتعلق بتحمّل المسؤولية تجاه الشأن العام،؛
الأمور العامّة، والأوضاع العامّة، سواء الأوضاع العامة أو الشأن العام في البلد،
بمعنى إذا أخذناها جغرافياً؛ في البلد. الذي نعيش فيه، مثلاً أنا كلبناني تجاه بلدي
لبنان، العراقي تجاه العراق مثلاً، المصري تجاه مصر، الفلسطيني تجاه فلسطين وهكذا...
أو باتجاه بقية البلدان وبقية الشعوب في المنطقة أو في العالم، هذا بالجغرافيا.
وكذلك على المستويات كافة سواء كان هذا الشأن العام، شأناً سياسياً أو إعلامياً أو
ثقافياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو معيشياً أو تربوياً أو أمنياً أو أي شأن من
الشؤون العامة. نقول الشأن العام بمعنى أنه يرجع إلى الناس جميعاً أو إلى شريحة
كبيرة من الناس. هذا الشأن العام.
هذا الجهد الذي كان يُعمل عليه منذ عشرات السنين إلى الآن. ولكن في السنوات الأخيرة
أصبح هناك تركيز أكبر وجهد أعظم بسبب، تطوّر وسائل الاتصال، فاليوم لدينا تلفزيونات،
فضائيات، إذاعات، مواقع إنترنت، وتواصل اجتماعي ومجلات وصحف ووو... التطوّر أعطى
فرصة لهذه الهجمة أكثر من أيّ وقت مضى.
هذه الفكرة ماذا تقول؟ الفكرة – هذه الفكرة التي تشتغل عليها الحرب الناعمة –تشتغل
على مراحل فيما يعني بالمسؤولية العامة؛ حيث أنه لا أحد يستطيع مناقشة أحد
بالمسؤولية الشخصية؛ أي عليك أن تهتم بصحتك، أن تهتم بعلمك، أن تحصّل المال مثلاً،
أن تعيش حياة طيبة، حتى بالشأن الديني أنك تهتم بدينك الشخصي، صلاتك، صومك...
احتمال أن لا تُناقش في هذا الموضوع كثيراً. النقاش له علاقة بالمسؤولية تجاه
الأوضاع العامة.
المرحلة الأولى، بدأوا العمل على الموضوع الجغرافي. سأسميه جغرافي. تستطيعون تسميته
قومي، قطري مثلما تريدون. فأنت أيها اللبناني احمل مسؤولية بلدك، ناسك، أهلك، شعبك،
وطنك، ما علاقتك بفلسطين والفلسطينيين؛ بسوريا والسوريين، بالعراق والعراقيين؛
باليمن واليمنيين، بمصر والمصريين، بباكستان والباكستانيين وهكذا... هل لأنه هناك
قاسم مشترك بينك وبينهم، أنكم منطقة واحدة مثلاً تتأثر ببعضها البعض، أو تنتمي إلى
عرقٍ واحد أو لغةٍ واحدة، أو دينٍ واحد، أو حضارة واحدة... ما لك ولهذه القصص كلها.
فليكن تركيزك على بلدك. طبعاً، هذا ما تسمعونه في الليل والنهار، اليوم في لبنان
وفي غير لبنان وفي العالم العربي يجري العمل بشكل كبير على هذا الموضوع. هكذا بدأت
المرحلة الأولى. أنك، بناءً عليه، تهتم لما يجري بالشعوب الأخرى والدول الأخرى؟
أولاً هذه ليست مسؤوليتك، أرح أعصابك، احمل خفيف، نزّل عن اكتافك (مش هيك بيحكو عنا
بلبنان)، فليس هناك من داعٍ لأن تسأل وتتابع وتهتم. لا تحمل همّ. لأن (تهتم هي
العناية مع الهمّ هذه باللغة العربية الأصلية)، أن تفكر كيف ستساعد وكيف يمكن أن
تعين، طبعاً هذا يسمونه تدخّل، طالما أن هذه الأمور ليست من مسؤوليتك. ثم يرقى
الأمر إلى مستوى الإدانة. وهذا أسوأ. بمعنى إذا اهتم أحد ما بشعوب المنطقة ودول
المنطقة، ومصير المنطقة فهذا يصبح (منقسرطانية)، وهذا عيب، وهذا شيء يُدان عليه
الإنسان ويُهاجم ويُشتم ويُساء له ولجماعته، ما ذنبهم؟ ذنبهم أنهم مهتمين بوضع
المنطقة وشؤون المنطقة ومصير المنطقة وما شاكل. هذه المرحلة الأولى.
أتت المرحلة الثانية، طبعاً هذا يُتنظّر له كما المرحلتين التاليتين، وصلوا الآن
لعمل مراكز دراسات والتي تقوم بوضع نظريات لهذه الفكرة. يجدون لها سياق قانونية،
عبارات حقوقية، ويتحدثون بالمصالح والحسابات، الأسوأ أنه في المدة الأخيرة بدأ
الكلام بالمعايير الدينية: أن الإسلام يقول هكذا. وهذا فيه أكبر تزوير تاريخي؛ أن
الإسلام يقول هكذا، والدين يقول هكذا، والأنبياء يقولون هكذا. أين الإسلام والدين
والأنبياء الذين يقولون هكذا؟ وصل الأمر بالبعض أن يعتبر نفسه مفكر عظيم ويقول
بالأساس لم أجد في الإسلام وفي الدين أي أساس لتحمّل المسؤولية تجاه شعوب المنطقة
ودول المنطقة والأمة وما تسمونه الأمة. فإلى هذه المرحلة وصل الجهل والتجهيل
والتزوير!
ما ساعد على الموضوع- أي على نجاح المرحلة الأولى- أنا أعتبر أن المرحلة الأولى
نجحت بنسبة كبيرة على المستويين العربي والإسلامي وبدرجة عالية، ما ساعد عليه
الصعوبات، التحديات، الأخطار، لأنه في كل بلد توجد صعوبات كافية لأن تشغل أهل البلد
هذا أولاً، وثانياً الإحباطات، اليأس، عدم الثقة بالنفس، عدم الثقة بالآخر، الفشل،
الإحساس بعدم القدرة على الإنجاز، على صنع الانتصار. وهذا تمّ العمل عليه ضمن الحرب
الناعمة. مع هذه وصلوا إلى محل أن كل بلد يفكر ببلده، وكل شعب يفكر بشعبه، وهذا ما
قد سبق وتحدثت عنه وقلت بأنه خطأ فكري وإنساني وديني.
أتوا إلى المرحلة الثانية في نفس البلد. في نفس البلد وفي كل بلد توجد المشاكل
والخصومات وأيضاً يوجد تنوّع، أكيد في كل بلد يوجد تنوّع، مثل ما لدينا في لبنان،
هناك جهوية، ومناطقية، وشمال وجنوب، وشرق وغرب، وهناك انتماءات عرقية قد تكون
متفاوتة. وانتماءات دينية قد تكون متفاوتة، دخلوا على نفس البلد قسّموا هذه الهموم
وهذه المسؤوليات، وكي لا نأخذ أمثلة من بلدان أخرى سنتحدث عن بلدنا لبنان.
على أساس أننا كلبنانيين نريد أن يكون الهمّ اللبناني هو همّنا وليس لنا عمل
بالمنطقة كلها. عظيم. وعلى على أساس أن يصبح الهمّ اللبناني الهمّ الوطني فنجد أن
الهمّ الوطني أصبح هموم: هذا شأن شيعي ممنوع لأحد أن يتدخل به فبقية اللبنانيين لا
علاقة لهم به، هذا شأن سنيّ، هذا شأن درزي، هذا شأن مسيحي؛ لماذا على المسلمين أن
يتدخلوا. فإذا كان شأن للمسلمين لماذا على المسيحيين أن يتدخلوا.
في لبنان، المسؤوليات الوطنية، المسوؤليات تجاه الشأن العام اللبناني، قاموا
بتقسيمها وتمزيقها وتقزيمها. وبعد الطوائف، أخذونا أو يأخذوننا على المناطقية. فغداً؛
أهل الشمال يقولون ما لي ولأهل بيروت وهذا ما يحصل الآن، أهل البقاع ما لي ولأهل
الشمال، أهل الجنوب ما لي ولأهل البقاع. مثل ما على مستوى المنطقة كل شعب (يقلع
شوكه بيده) هو هذا التعبير عن الثقافة الاستعمارية بالحقيقة. الشعب السوري، الشعب
العراقي، الشعب اليمني، الشعب الإيراني، شعب فلسطين، كل شعب (يقلع شوكه بيده).
نحن كشعب لبناني رضينا، وأردنا أن (نقلع شوكنا بيدنا)، وعندما أتينا للشعب اللبناني،
أصبحنا شعوب، الشعب الشيعي عليه أن (يقلع شوكه بيده)، والشعب السنّي عليه أن (يقلع
شوكه بيده)، وكل شعب وكل طائفة عليها أن (تقلع شوكها بيدها). ووصلنا إلى المناطق؛
على أساس أننا وطن وبلد، أصبحنا مناطق. كل منطقة عليها أن (تقلع شوكها بيدها). أبشع
تصوير لهذا المستوى من الانحطاط الفكري والثقافي والأخلاقي الذي وصل إليه البلد. لا
تؤاخذوني ولكنني مضطر أن أضرب هذا المثل؛ هو ما وصلنا إليه في موضوع النفايات. الآن
تقرأون في الجرائد، لماذا خطة النفايات متوقفة أيها اللبنانيون؟ لأننا بانتظار مطمر
شيعي. الآن البلد هكذا؛ فنحن أمّنا مطمر سنّي بعكار، ومطمر درزي مثلاً لسبعة أيام
في الناعمة، ومطمر مسيحي لا أعرف أين، لا زلنا بحاجة إلى مطمر شيعي. فإذا أنتم يا
حزب الله وأمل لن تقدموا لنا مطمر شيعي فخطة النفايات لن تسير. أرأيتم أين أصبحت
البلد؟ لكنها لم تبدأ من هنا، بل أول الوهن. بدأ عندما قبلنا تقسيم المسؤوليات تجاه
الأمة وتجاه المسلمين وشعوب المنطقة وناس هذه الأمة بمعزل عن انتمائهم الديني أو
الوطني أو العرقي. يبدأ من الكبير أول الوهن وتصل إلى أن المطامر أصبحت طائفية في
لبنان. والزبالة أصبحت طائفية في لبنان. بعدها سيكون حتى في داخل الطائفة الواحدة،
لماذا على أهل المنطقة الفلانية عليهم حمل زبالة أولاد طائفتهم من منطقة أخرى،
فلتحمل كل منطقة زبالتها، وبعدها سنتجزّأ: المنطقة تصبح أقضية، والأقضية تصبح قرى،
والقرى تصبح أحياء وعائلات، ونصل إلى مرحلة في البلد أنه لا أحد يتحمل مسؤولية تجاه
بلده. الآن تجاه أمّـته انتهت. تجاه أمّته، من يتحمل مسؤولية في لبنان تجاه أمّـته
أو قضايا أمته محكومٌ عليه، مُدان، متهم بوطنيته ولبنانيته، وهناك بعض الأشخاص
المطلوب أن يتم تقديم الشهادة له بوطنيتهم ولبنانيتهم. هذا هو الانحطاط.
فلنترك قضايا الأمّة جانباً. لبنان البلد؛ لم تعد هناك قضية وطنية بل أصبحت قضية
طوائف، قضية مناطق لنصل بعدها إلى قضية عائلات، وقضية عشائر، والعشيرة أيضاً أجباب:
جبّ العائلة وجبّ العشيرة، هذه هي المرحلة الثالثة التي يريدون منّا الوصول إليها.
قريباً سنصل إليها. بمعنى وصلنا إلى بعضها على المستوى المناطقي.
المرحلة الرابعة، التي هي بالأصل هدف إبليس منذ البداية. وكل شياطين الجن والإنس
الذين يعملون لديه، هو أن يصلوا إلى الفرد منّا ويقولون له أنت لا مسؤولية عندك
تجاه أي شيء سوى تجاه نفسك. وتجاه نفسك أي تجاه شهواتك وأهوائك، وأكلك وشربك، ومتعك
وحياتك الناعمة. لا مسؤولية عندك: أين يصبح أهلك، عائلتك أين تصبح في الدنيا
والآخرة لا مسؤولية عندك. أهل ضيعتك أين سيصبحون؟ لا مسؤولية عندك. أهل مدينتك، أهل
منطقتك، طائفتك، بلدك، أمّتك؟! المهم أن يغرق كل واحد منّا بهمومه الشخصية وبشهواته
ومصالحه ومشاعره وأحقاده، وما يحب هو لنفسه، وما يبغض هو لنفسه. وهذه هي الكارثة
الكبرى التي يمكن أن تحلّ بأي أمّة وبأي إنسان على مستوى الدنيا وعلى مستوى الآخرة.
هذا الموضوع، طبعاً هو موضوع يجري العمل عليه كما سبق أن قلت في الليل والنهار، بكل
وسائل الاتصال على المستوى الثقافي، ليتمكنوا من إقناعنا وإقناع شبابنا والناس،
الصبايا والشباب، الكبار والصغار، فهذه هي الثقافة السائدة. والآن هذه الثقافة جزء
كبير منها سائد. فأنا لا أتكلم عن شيء وأقول لكم أيها الناس هذا ما سيحدث بل هذا قد
حدث ونحن الآن في قلبه، وهو يتقدم أيضاً لذلك نحن معنيين بمواجهته. رغم أن هذه
المسألة، كما سأذكر بعد قليل، من أوضح الواضحات، من أبده البديهيات العقلية
والفطرية والدينية. لكننا في زمن، التغوّل الإعلامي، وتغوّل مراكز دراسات وقوى
الاستكبار، وصلت لمكان أن تلعب بعقولنا حتى بالبديهيات، حتى بأوضح الواضحات العقلية
والفطرية والدينية.
لكن هنا، ما هي أهمية هذا المرض؟ انظروا إلى جسد الإنسان، أحياناً تأتي باليدين
والرجلين والرأس والعيون مقطعين، تجمعهم فتحصل على جسد، لكن بلا روح، هذا الجسد لا
قيمة له. في الجماعة، أفراد، تجمعهم في إطار معين، دولة، مجتمع، قرية، بلدة، مدينة،
عشيرة، عائلة، كيفما تريد، يصبحوا جماعة، إذا لم توجد الروح في الجماعة؛ هذه ليست
جماعة، هذه منظر جماعة. كالجسد منظر إنسان، لكنه ليس بإنسان لأنه بلا روح، روح
الجماعة هي تحمل المسؤولية. من أبرز عناوين أو تجليات الروح في الجماعة هو تحمل
المسؤولية تجاه الآخرين؛ اتجاه بقية أفراد الجماعة، وإلا إذا كان البناء في هذه
الجماعة على أن يتحمل كل فرد مسؤولية نفسه ولا مسؤولية عنده تجاه الآخرين، هي ليست
جماعة هي شكل كجسد الإنسان. هنا نحن نُمسّ بروحنا لأن المطلوب هو تفتيت هذه الجماعة
البشرية، تفتيتها، الأمّة تُفتت إلى قوميات، القوميات تُفتت إلى أقطار، الأقطار
تُفتت إلى مناطقيات، والمناطقيات تُفتت إلى عشائريات وعائليات وقبليات، وحتى
العائلة تُفتت على المستوى الفردي. هذا أخطر مرض يمكن أن نشهده ونشهده اليوم.
عندما يصل أحدنا إلى مستوى أنه يعاين ويشاهد كل ما يجري على أهله وعلى شعبه وعلى
أمته وعلى المقدّسات؛ وكل ذلك لا يعني له شيئاً، لا يهتم، حتى لا يتألم. بعض الناس
قد وصلوا لمرحلة لا يتألمون، لا يحزنون، لا يهتمون، لا يسألون، على قاعدة أنا وبعدي
الطوفان. أنا وليذهب الجميع إلى الجحيم. الآن هذه الأنا ممكن أن تكبرها قليلاً
لتصيرها عائلة، عشيرة، قرية، تصيرها تنظيم سياسي، تصيرها جمعية، مؤسسة، ممكن تصيرها
طائفة أو كما تريد. ولكن هذا خطر.
لنأتي إلى الجواب والمناقشة. قبل أن نسأل الدين والإسلام، بشكل محدد، فلنسأل عقولنا:
فالآن كل واحد منا لديه عقل، ونسأل فطرتنا الإنسانية التي فطرنا الله عليها معاً،
فالناس جميعاً لديهم فطرة واحدة فطرة إنسانية -أبيض، أسود، أحمر، أخضر- هذا العقل
الإنساني والفطرة الإنسانية من أعظم مواهب الله سبحانه وتعالى للإنسان، نسألهم.
فلنأخذ مثلاً عادياً؛ ولن أذهب إلى قضايا وطنية والأمة وما شابه. جنابك تتمشى على
شاطئ البحر أو جالس على ضفة نهر رأيت أحدهم يغرق ويصرخ، عقلك ماذا يقول؟ عليك
مساعدته أم لا؟ عقلك، فطرتك، قلبك، مشاعرك، روحك من الداخل ماذا تقول؟ عليك
بمساعدته. بشكل غريزي تبدأ بالصراخ وإذا لم تعرف السباحة تصرخ للموجودين على الشاطئ
أو على الضفة، ممكن أحد ما لا يعرف السباحة ومن وهلته يعني عقله وفطرته وعاطفته
تجعله ينزل إلى الماء معه عسى أن يستطيع أن يفعل له شيئاً. أوليس هكذا العقل
والفطرة؟ هذا مثل عادي. الآن، إذا كنا متواجدين في مكان ما ويقولون لنا، هناك عائلة
الآن تموت جوعاً، إذا أخذنا لها رغيفاً من الخبز ننقذها من الموت. عقلنا ماذا يقول
لنا، هل نذهب لمساعدتها أم لا؟ فطرتنا ماذا تقول، نفس الأمر. إذا قيل لنا أن هناك
عائلة محاصرة في هذا البيت، والنار تحيط به من كل جانب، وليسوا بقادرين على الخروج،
لذلك نريد مجموعة شباب لتكسر الباب والجدار لتخرج العائلة، العقل ماذا يقول والفطرة
ماذا تقول، أي هل توجد مسؤولية من هذا النوع تجاه الآخرين أم لا؟ هذا إذا أخذنا
بالأمثلة الشخصية الصغيرة المتواضعة. فإذاً، هذا حكم العقل وهذا حكم الفطرة، والذي
يتكلمون هم عنه مناقض للعقل ومناقض للفطرة. وحتى العقل والفطرة يتوجه إلى الإنسان
كإنسان. بمعنى وأنا أمشي على شاطئ البحر، هذا الذي يغرق عليّ أن أسأله: أنت لبناني
يا أخي، أو سوري، أو عراقي، أو شرقي، أو غربي؟! أنت ماذا مسلم أم مسيحي، أو سني أو
شيعي؟! أنت معنا بالحزب أم لست معنا بالحزب؟!. العقل ماذا يقول والفطرة ماذا تقول؟
يوجد موضوع اسمه ناس، وموضوع اسمه إنسان، ويوجد موضوع اسمه حكم العقل والفطرة تجاه
الآخرين.
العقل والفطرة، إذاً، يقولان لك أنه لديك مسؤوليات تجاه الآخرين بمعزل عن لونهم، عن
لغتهم، حتى عن انتمائهم الديني، عن الجغرافيا التي ينتمون إليها، عن عائلتهم، عن
عرقهم، عن نسبهم، هناك مسؤولية اتجاه الآخرين تتسع وتضيق، نعم. ولكن بالمبدأ توجد
مسؤولية كبيرة تجاه الآخرين بمعزل عن كل الاعتبارات.
نأتي إلى المستوى الديني، الأمر من أوضح الواضحات الدينية والإسلامية ولكن لأننا في
زمن التضليل والتزوير والتجهيل والاستحمار، كما كان يقال، (حقاً هناك استحمار). هذه
الكلمة لم تكن تعجبني سابقاً، اعتبرها بشكل أو بآخر، (انو لا عم يستحمرونا الجماعة
يعني) يأتي ويتكلم معك منطق ومصطلحات ولغة أكاديمية ودراسات؛ كلام فارغ. والآن قد
وصل الأمر إلى الدين، إلى الإسلام، إلى استخدام المصطلحات الإسلامية لتقديم هذه
الفكرة.
بالرغم من هذا الأمر واضح، سنتكلم عنه قليلاً، على المستوى الديني. أولاً، الإسلام
هو دين العقل والفطرة، وسبق أن تحدثنا عن العقل والفطرة. ثانياً، سيرة الأنبياء (عليهم
السلام)، كل الأنبياء من آدم، إلى نوح، إلى إبراهيم، إلى موسى، إلى عيسى، إلى محمد
(صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، كل أنبياء الله، كل أوصياء الأنبياء، كل الرجال
الصالحين عبر التاريخ، هكذا كانوا يتحملون المسؤوليات تجاه الناس، كل الناس. كم
جاهدوا وعملوا وضحوا من أجل إخراج الناس من الظلمات إلى النور، من أجل إنقاذ الناس
من الظلم، من أجل الأخذ بيد الناس إلى الخير وإلى السعادة، وإلى الأمن، وكم عملوا
لكي يقيموا العدل في الأرض. هذا شأن عام، وهذه المسؤولية العامة. فهذا جزء مكوّن من
مكوّنات الدين، والهوية الدينية. كم تحملوا من مخاطر، وكم قتل من أنبياء ومن أوصياء
ومن صالحين. لماذا قُتلوا؟ قُتلوا لأنهم كانوا يتحملون – أحد الأسباب المهمة، من
أعظم الأسباب لا كل السبب الوحيد – من أعظم الأسباب أنهم كانوا يتحملون هذه
المسؤوليات العظام تجاه البشرية وتجاه الخلق وتجاه الناس.
عندما نأتي للقرآن الكريم، ولسنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وآل رسول
الله، سواء وصلتنا عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) أو عن طريق الصحابة (رضوان
الله تعالى عليهم)، أيضاً هذا الأمر من أوضح الواضحات. انظروا، عندما نقرأ النصوص
الإسلامية، سواء كانت قرآنية أو سنّة. في الأدبيات الموجودة، لدينا عبارة المسلمون،
المؤمنون، الذين آمنوا، أيضاً لدينا عبارة الناس، يا أيها الناس، والخلق، وخلق الله،
والعباد، وعباد الله، وعيال الله، والمستضعفون من الرجال والنساء والولدان، يعني
المخاطَب، هو الناس، البشر، الإنسان، خلق الله، عيال الله، عباد الله.
عندما نأتي للعناوين، فقط إذا عملنا فهرس، يعني من الواضح أن الإسلام هو دين من
جملة مكوّناته الحقيقية أنّ على أتباعه أن يتحمّلوا المسؤوليات العامّة اتجاه الناس
واتجاه المسلمين. عندما نضع العناوين، الفهرس – طبعاً سأذكر بعض العناوين وإلا
فالفهرس طويل – مثلاً، الهداية إلى الحق، مسؤلية هداية الناس إلى الحق. الدعوة إلى
الله. نصرة المظلومين. إغاثة الملهوفين. مساعدة الفقراء والمساكين والأيتام
والمعوزين. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الدفاع عن المستضعفين من الرجال
والنساء والولدان. الإصلاح بين الناس (الإصلاح بين الناس فقط أن رجل وزوجته اختلفوا
علينا أن نصلح بينهما أو عشرتين تقاتلوا علينا أن نصلح بينهما)؟ الإصلاح بين الناس
أعمّ من هذا بكثير، إصلاح على مستوى الوطن، إصلاح على مستوى الشعب، إصلاح على مستوى
المنطقة، إصلاح على مستوى الأمة هذا هو الإصلاح بين الناس. النصيحة في الناس، كما
في الشأن الشخصي أيضاً في الشأن العام. كل ما يرتبط بحياة الناس، بخيرهم، بصلاحهم،
بمصالحهم، بسعادتهم، بأمنهم، بسلامهم، بسلامتهم، في الدنيا وفي الآخرة هو هذا الخير
والنفع الذي يجب أن يعمل له كل من ينتمي إلى الإسلام.
يكفي أن نذكر ولو أحاديث سريعة. في حديث بعض فقهائنا بالحد الأدنى بعضهم يقول هذا
حديث مشهور بين المسلمين بل متواتر - يعني لا أحد يناقش بسنده. عن رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم): من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم. ونصّ آخر يقول:
من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم. يعني لا يوجد (من أصبح). حديث آخر: من أصبح
لا يهتم بأمور المسلمين – أيضاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) – فليس
منهم ومن سمع رجلاً – ولم يقل من سمع مسلماً – من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم
يجبه فليس بمسلم. هذا إغاثة الملهوف.
هذا ديننا وهذا إسلامنا. والذي يُقدَّم اليوم بالعالم من خلال داعش وماعش وأمثالها
بأبشع صورة يمكن أن يفترضها إنسان.
وأيضاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنّ أعظم الناس منزلة عند الله يوم
القيامة – مَنْ؟ اسمعوا – إن أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه
بالنصيحة لخلقه. النصيحة في كلّ شيء، بكل ما له خيرهم وفيه خيرهم وصلاحهم، هذا
للناس عند الله يوم القيامة. فهو ما عمله، في ضيعته، في مدينته، في منطقته، في
طائفته، بشعبه، بأمّته، هو أن يمشي بالنصيحة، ينصح، يوجّه، يرشد، يدلّ على الحق،
على الصلاح، على الخير، على حلّ الأزمات. عليكم بالنصح لله في خلقه فلن تلقاه بعمل
أفضل منه - أيضاً عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - الخلق عيال الله فأحبّ
الخلق إلى الله أنفعهم لعيال الله. سُئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، من
أحبّ الناس إلى الله؟ قال: أنفع الناس للناس.
سأقرأ لكم حديثاً ملفتاً، أنه حتى ولو لم تكن قادراً على فعل شيء، فقط أن تهتم،
تحمل همّ. إنّ المؤمن لترد عليه الحاجة لأخيه – أي يَخبَر أو يُطلب منه أن أخاك أو
فلان له حاجة – ولا تكون عنده – لا يستطيع عمل شيء له، إذا أراد المال فليس لديه
المال، يريد حل لمشكلة ما ليس بقادر على حل هذه المشكلة، يريد الدفاع عنه ليس بقادر
كذلك... إلى آخره – ولكن فيهتمّ بها قلبه – فكّر في الليل، اغتمّ فهذا أخي، محتاج
وليس باستطاعتي عمل شيء له فيا رب كيف لي بمساعدته. بمعنى حمَلت همّه – فيدخله الله
تبارك وتعالى بهمّه الجنّة.
انظروا هنا ممّا يريدون حرماننا، هؤلاء المستكبرين، وجماعة الحرب الناعمة، وخدم
شياطين الجن والإنس، والمستحمرين لنا، عندما يريدون حرماننا من أن نهتم بأمور
المسلمين وبأمور المؤمنين وبأمور المستضعفين، هم يحرموننا من طريق الجنة في الحقيقة
أيضاً.
الله سبحانه وتعالى في القرآن يقول: ﴿وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين
من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها
واجعل لنا من لدنك ذرية واجعل لنا من لدنك نصيرا﴾.
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من ردَّ عن قوم من المسلمين عاديةً – أي
شيء يعتدي عليه – أو ناراً وجبت له الجنة. ليس فقط الصلاة والصوم والحج، هذا الدين،
هذا دين الإسلام. دين الأنبياء، كل دين الأنبياء هذا دينهم. هذا دين محمد بن عبد
الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
عندما نأتي لهذا الخطاب الديني، هل رأيتم –في أي مكان– لبناني، عراقي، سوري،
فلسطيني، إيراني، أفغاني، هندي، بحراني، كويتي، موريتاني، نيجيري...؟ لا يوجد. يوجد
ناس، يوجد عيال الله، يوجد خلق الله، يوجد مسلمون، مؤمنون، يوجد بشر.. هذا هو، هذا
هو الدين.
هذه بدعة؛ أن قصة لبنان، ليس لديك مسؤولية أنت اتجاه الناس خارج لبنان، هذه بدعة.
هذه بدعة أتوا بها إلى لبنان. أنت اليوم مسؤوليتك تجاه طائفتك فقط. بقية الطوائف في
لبنان تعيش، تموت، تأمن، تنفجر، تأكل، تشرب، تجوع، لا دخل لك، لا مسؤولية لديك.
فهذا سيوصل إلى هنا وقد وصل إلى هنا، نحن الآن في لبنان للأسف الشديد، جزء كبير
منّا يعيش في هذه الثقافة وهذه العقلية. كأننا نحن مجموعة أوطان ومجموعة شعوب والذي
يجري على أحدنا لا يعني الآخر على الإطلاق. وأنا صادق في ما أقول ولا أبالغ وأسميه
زمن الانحطاط.
إذاً، في الخطاب الديني، في الخطاب الإسلامي، في الخطاب النبوي توجد مسؤوليات
عامّة، هناك مسؤوليات يجب أن نتحمّل مسؤوليتها.
أنا الليلة أردت أن أعرض هذا الموضوع أمامكم. ايها الإخوة والأخوات: أولاً، انتبهوا
لهذا التضليل ولهذا التزييف ولهذا التزوير الذي لا يمت إلى العقل بصلة ولا إلى
الفطرة البشرية الإنسانية بصلة ولا إلى الله وأنبياء الله بصلة.
نحن كمسلمين، أتكلم عن المسلمين بشكل خاص، لأنهم يخاطبوننا بخطاب ديني الآن باسم
الإسلام، من واجبنا أن نصلي، من واجبنا أن نصوم، من واجبنا أن نحجّ، من واجبنا أن
ندفع زكاة أموالنا، من واجبنا أن نعمل لخير الناس، ونفع الناس، وأن نعمل لأمن
الناس، وسلام الناس، وعزّة الناس، وكرامة الناس في بلدنا وفي كل مكان يمكن أن نصل
إليه ونستطيع أن نقدم فيه العون والمساعدة. هذا هو الدين، وغير هكذا فهو ليس بدين
بل شيء آخر. هذا هو الدين.
وعليك أن تتحمل، فمن الممكن أن يستهزئ بك أحد ما، في صلاتك، وفي حجك، وصومك وطبعاً
ودينك، سيستهزئ بك لأنك تتحمل مسؤولية تجاه الأمّة واتجاه المنطقة واتجاه المقدّسات
واتجاه شعوب المنطقة.
الجزء الآخر الذي سأتحدث عنه وأختم به، أن هذه المسؤولية العامة أيضاً – علينا أن
ننتبه جيداً لنضع الأمور في ضوابطها لا نذهب بين الإفراط والتفريط؛ يعني بعض الناس
كالذين تحدثنا عنهم في البدء، يقول لك ليس لديك مسؤولية عامة بالأصل، ويأتي آخر
يريد تحميلك مسؤولية الكرة الأرضية والبشرية جمعاء، وكل المنطقة، وكل شعوب المنطقة،
وعليك أن تفعل كل شيء وأن تقوم بكل شيء وأن تقاتل بالنيابة عن الجميع، وأن...
وأن... وأن.... هذا اسمه إفراط وتفريط، أليس كذلك، عندما أتحدث عن المسؤولية العامة
لا نريد الذهاب لا على الإفراط ولا على التفريط.
يوجد مجموعة قواعد هي التي تتحكم بتحديد التكليف الشرعي، أي أنا لدي مسؤولية اتجاه
ما يحدث في هذا البلد. نعم بالأصل عندي مسؤولية، ولكن ما هي هذه المسؤولية، ما هي
حدود هذه المسؤولية. الأمور هنا بالمبدأ سليمة، لكن عندما نصل على الإجراء
والتدابير والتفاصيل، هنا لا يوجد مطلقات، هنا توجد ضوابط وحدود.
سأكتفي هنا بقاعدتين أو ضابطتين. القاعدة الأولى والتي هي أيضاً قاعدة عقلية. شرط
القدرة. أي لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها. هذا شرط عقلي. الشرع أرشد إليه كما
يقولون. الله لا يكلّف أحد ولا يحمّل مسؤولية لأحد تفوق طاقته. في يوم القيامة،
الله لن يسألنا، مثلاً، نحن الذين في الضاحية الجنوبية، أنتم لم تفعلوا شيئاً
بالزلزال الذي حدث في اليابان. (لم نفعل شيئاً – تمام.) القدرة هنا هي شرط في
التكليف عندما نذهب للإجراءات.
أولاً، إذاً، القدرة شرط. الله سبحانه وتعالى يكلّفنا بمقدار ما نقدر عليه. هنا
القدرة متفاوتة. قدرة الأشخاص متفاوتة. قدرة الجماعات متفاوتة. قدرة البلدان
والشعوب متفاوتة. قدرة الحكومات والدول متفاوتة. وبتفاوت القدرة قد يختلف التكليف
من شخص لشخص، ومن جماعة إلى جماعة، ومن دولة إلى دولة، ومن شعب إلى شعب، هذا طبيعي،
ومن منطقة إلى منطقة، لأنه على حدود القدرة يأتي التكليف. من الممكن أن لا يكون
تكليفنا جميعاً واحد. سأضرب مثلاً، بعض الأشخاص ليسوا بقادرين على فعل شيء؛ مثلاً،
شخص مريض غير قادر على أي عمل، ليس لديه المال، ومستلق في بيته. هذا ما تكليفه؟ فقط
يحمل همّ، يتعاطف، يدعو، يستطيع التألّم لألم هؤلاء فليألم، يفرح لفرحهم فليفرح،
يستطيع التحدث عن قصصهم مع زواره فليتحدّث، قادر على الدعاء لهم فليدعو. هذه قدرته،
هذا تكليفه.
شخص آخر، لديه المال، قادر على المساعدة بالمال. وثالث، لديه القوة البدنية
والسلاح، فهو قادر على أن يقاتل بالسلاح. أحدهم لديه علم وثقافة، وآخر منبر، وآخر
تلفزيون يتكلم به ليلاً ونهاراً. يتفاوت التكليف بتفاوت القدرة، بالأفراد
والجماعات...
طبعاً، هنا تصبح مسؤولية حتى في الموضوع. مثلاً في الصلاة، الصلاة عامود الدين، لكن
الصلاة التي لا تُترك بحال، بكل الأحوال، لكن الله سبحانه وتعالى يقول لك أريدك أن
تصلي وقوفاً، لا تستطيع أن تصلي وقوفاً عليك أن تصلي جلوساً، لست بقادر على الصلاة
جلوساً فلتصلي وأنت مضطجع، لست بقادر على تحريك يديك بشفتيك، برموشك عينيك. هنا
القدرة حتى في عامود الدين هي ملحوظة للصلاة. الصوم، ربما بعضهم غير قادر على
الصيام لمرض، لعجز، يوجد حرج شديد عليه، الله لا يكلّفه بالصوم وهكذا...
طبعاً، هنا عندما نقول القدرة شرط، هنا تأتي الدقّة، لازم وجود المعرفة، والأمانة،
والثقة، لأنني عندما أقول أنا قادر ولست قادراً، أو نحن قادرون أو لسنا قادرون، هنا
واجب الصدق، ويوجد تشخيص دقيق ومعرفة دقيقة إذا كانت لدينا القدرة أم لم تكن لدينا
القدرة.
أحياناً ومن أجل التهرّب من المسؤولية -وهذا ما هو موجود اليوم في العالم، بالعالم
العربي والإسلامي وفي لبنان وغير لبنان- الكثير من الناس يتهربون من المسؤولية
بحجّة أنهم ليسوا بقادرين. ماذا تقول. لكنه لا يكون صادقاً، بل كاذب، يكذب على شعبه
وعلى أهله، وعلى نفسه ولكنه لا يستطيع أن يكذب على ربّه الذي يعلم السر وأخفى.
هنا تتأكد الحاجة -في القضايا الكبرى- إلى القيادات العارفة، الأمينة، الموثوقة،
الصادقة، المخلصة، التي لا تتهرب من المسؤولية، لأن عليها أن تقول نقدر أو لا نقدر،
وعلى ضوءه يتحدد التكليف.
ننتقل للقاعدة الثانية، وهي التالي: لن أقول الآن مصطلحها. مثلاً، يوجد 10 أعمال،
أنا قادر على انجازهم في وقت واحد، جيد اتكل على الله واعملهم. لكن هناك 10 أعمال
وأنا قادر على القيام بـ6 منهم، أريد أن أختار 6 من هؤلاء الـ10. العشرة كلهم
ممتازين وجيدين وفيهم خدمة للناس وفيهم نفع للناس، ويقرّبون إلى الله، لكنني لست
بقادر على فعلهم بوقت واحد أو وقت متقارب. هنا العقل ماذا يقول، والدين ماذا يقول،
العقل والشرع يقول الاثنان: انظر إلى الأهم فالأهم، يُقدّم الأهم على غيره، تختار
الأهمّ وتقوم بالعمل. هذا ما يسمونه بالمصطلح التزاحم. هنا يوجد تزاحم. (لا نقول
الآن 10 و6، موضوعين) فأنا لدي إمكانية إما أن أعمل في هذا الشيء أو ذاك.
سأضرب مثلاً أيضاً شخصي، أنا لدي ألف دولار، هناك عائلة، ولو كنت قادراً على قسم
الألف دولار إلى 500 و500 لا مشكلة، هذه العائلة كي تعالج هذا الأب أو الولد أو ما
شاكل الذي هو في معرض الموت أو في حالة مرض شديدة لا تحتمل التأجيل، بحاجة إلى ألف
دولار. وعائلة أخرى كي تدخل ولدها إلى المدرسة بحاجة إلى ألف دولار. هنا، ما هو
الأهم وما هو المهم؟ العقل ماذا يقول، والدين ماذا يقول؟ أن أعطي العائلة الأولى،
أساعد مريض العائلة الذي سيموت، وليس العائلة التي تريد إدخال ابنها المدرسة فهذا
الولد إذا تأخر قليلاً لن تخرب الدنيا. هذا ما يسمى الأهم والمهم.
أيضاً، في موضوع أمني أو عسكري، أنه أنا لدي مجموعة وقادر على وضعها هنا أو هناك.
هنا يوجد خطر فعلي، وهناك يوجد خطر محتمل مؤجل، فالأفضل أن أضع هنا مكان الخطر
الفعلي الحقيقي. العقل يقول هكذا والشرع أيضاً.
هنا المسألة أيضاً هي مسألة تطبيق، كما تكلمنا عن القدرة، يعني الذي يريد أن يطبّق
بأن هذا أهم من هذا، فمن الممكن للشخص كي يهرب من تحمل المسؤولية -لأن الشغل على
الأهم، شاق ومتعب وفيه تضحيات- يذهب إلى الأقل أهمية ويخطئ أو يتعمّد أن يخطئ في
تشخيص الأهم فالأهم. هنا أيضاً تتأكد الحاجة، في الشأن العام، إلى القيادات
العارفة، الأمينة، المخلصة، الصادقة، الشجاعة، التي لا تتهرب من المسؤولية.
إذا، سأكتفي باتين الضابطتين كي أقول، نحن لن نقول كما يريدون لنا أن نقتنع بأنه لا
مسؤوليات لدينا اتجاه الوضع العام، بل نحن لدينا مسؤوليات اتجاه الوضع العام، في
بلدنا وفي منطقتنا وفي أمتنا وفي أي مكان من العالم، نحن لدينا مسؤوليات متفاوتة
بالمبدأ، الذي يدين أو لا يعجبه فهو حر. نحن هنا في الحقيقة، لسنا أمام تناقضاً
سياسياً بين قوى موجودة مع لبنان وفي المنطقة، هنا يوجد تناقض فكري وثقافي، وروحي
ومعنوي، بل وأيضاً تناقض حضاري، بل وتناقض إنساني. الذي نتكلم عنه هو عقل وفطرة
ودين وهم يتكلمون بشيء آخر في خدمة أسيادهم.
والملفت هنا بين هلالين؛ الذي ينظّر لك بهذه النظريات، سادتهم وكبراؤهم، مثل
الولايات المتحدة الأميركية، هم يحق لهم بالتدخل أينما يريدون، وعمل أي شيء يريدونه
في أي مكان من العالم، من شرق الأرض إلى مغربها، ويرسلون الجيوش ويفرضون الحروب،
ويفرضون الحكام، ويفرضون الحلول، وصيغ حياة وثقافات. هم يحق لهم. لكن أنت أن تأخذ
موقف، تدين، تساعد، أحياناً لا تستطيع أن تقدم سوى الكلام. ممنوع، ممنوع.
مثلاً، في حادثة مِنى، أنت لبناني ما علاقتك: هؤلاء حجاج إيرانيين، باكستان،
مصريين. الآن آخر إحصاء لوكالات أنباء -ربما فرنس برس أو وكالة أخرى- أن العدد أصبح
1600 وكذا من جميع الدول، طبعاً بالسعودية ما زالوا 700. طيب، أنت ما علاقتك، أنت
تستطيع الكلام فقط بالعالم الجليل سماحة السيد حيدر الحسني، هذا لبناني تستطيع
الكلام، أما غير هذا فلا علاقة لك. مِنى عندك في لبنان؟ ليست عندك في لبنان. أحدهم
مات عندك من لبنان؟ لم يمت أحد من لبنان. إذاً، ما علاقتك بالموضوع. لماذا تريد
الكلام بالأساس. نحن وصلنا إلى هذا المستوى.
إذاً، ليس في أنه لا مسؤوليات، ولا أن المسؤوليات مطلقة إلى حد أنه عليك حمل عبء
السموات والأرض هذا غير ممكن، بالنهاية يوجد موضوع القدرة، موضوع التزاحم
والأولويات، والأهم فالأهم.
الخاتمة، من أعلى المصاديق التاريخية، لتحمل المسؤولية العامة، مهما كانت الأخطار
والتضحيات، هو موضوع كربلاء وما فعله الإمام الحسين (عليه السلام). الإمام الحسين
(عليه السلام) ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، (في المدينة) وبقية
النبوّة، وبقيّة أصحاب الكساء، ومحترم في الأمّة، وخير إن شاء الله، وهو قادر على
البقاء في منزله، ويزور يومياً قبر النبي ويصلي، ويتكلم معهم ويسألونه ويجاوبهم،
حسناً، لماذا هذه القصة كلها، لأنه أولاً الحسين (عليه السلام) كمسلم وكإمام
المسلمين، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال (هذا موجود عند السنّة
والشيعة): الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا. كمسلم وكإمام المسلمين، هو لديه
مسؤولية تجاه الإسلام كدين، وتجاه المسلمين كأمّة، وكمسلمين، كبشر، كناس، كعيال
الله، كعباد الله، كخلق الله، لديه هذه المسؤولية. ومن أولى من الحسين (عليه
السلام) أن يتحمل هذه المسؤولية. ثانياً، التشخيص، الأهم فالمهم، ما هو أكبر تهديد
الآن يهدد الإسلام والمسلمين. مع الحسين (عليه السلام) تبين أن الموضوع، لا هو
موضوع فقهي ولا أصولي ولا كلامي ولا نقاش اجتماعي ولا قصة سياسية تفصيلية كي
يعالجها. تبيّن الموضوع عند الحسين (عليه السلام)، أن وجود يزيد بن معاوية بهذه
المواصفات كحاكم للمسلمين وفي هذا الموقع بالذات وجده خطراً على الإسلام كدين وعلى
المسلمين كبشر وكعيال الله وخلق الله وواجبه أن يمشي بالنصيحة لعباد الله وخلق
الله. وبالتالي أصبح الأهم، الأعلى، الأولوية المطلقة هي مواجهة هذا الطاغية، هذا
الحاكم، الذي يهدد الإسلام. انظروا، يوجد حكام ظالمين، لكنه بموضوع الإسلام هو
حيادي، لا يشكل تهديد؛ يريد فقط أن يحكم. يعني قرآن، إسلام موجود، أحاديث النبي،
اجتماعات علمية، حوزات علمية، فكر أصيل، بحث، تحقيق، حرية تعبير عن الرأي، لا
مشكلة. الناس تصلي، أوادم، ناس تتفق مع بعضها، يصلحوا ذات بينهم، يعيشون حياة
إسلامية، لا مشكلة لديه. يذهبون إلى المسجد أو يذهبون إلى الكباريه، لا مشكلة لديه.
هو فقط يريد أن يحكم. هذا الحاكم أقل خطورة من حاكم يتهدّد الإسلام؛ حاكم يريد أن
يسقط (أشهد أن محمداً رسول الله). أمويته وجاهليته لا تتحمل هذا الأذان. الكلام
مختلف. هذه بالتحديد قصة يزيد. لذلك الحسين (عليه السلام) شعر أن هذه هي الأولوية
المطلقة فقام بحركته التي قام بها.
هنا يأتي موضوع القدرة، القدرة لها علاقة بالهدف، بمعنى هل أستطيع تحقيق هذا الهدف
أم لا. ما كان هدف الحسين (عليه السلام) في كربلاء؟ كان هدفه حفظ الإسلام. (كان
هدفه) كان من جملة أهدافه إيقاظ الأمة وكشف حقيقة هذا الحاكم الذي لو حكم المسلمين
لعشرات السنين لكانت كارثة دينية وثقافية وتاريخية وعلى كل الصعد.
حسناً، هذا هو الهدف، أو هذه هي الأهداف، من هذا القيام الحسيني، هل يستطيع الحسين
أن يحققها؟ نعم، بالشهادة، لا تحتاج إلى مئة ألف مقاتل، لا تحتاج إلى مليون متظاهر،
لا تحتاج إلى وسائل إعلام.
الحسين (عليه السلام) شخّص أنه بدمه وبروحه وبإخوانه وأبنائه وأصحابه، وبصوت زينب
-كان يريد وسيلة إعلام واحدة، واحدة فقط- وبصوت زينب، هو يستطيع ويقدر أن يحفظ
الإسلام وأن يصون الإسلام وأن يُسقط يزيد وأن يفضح هذا المشروع الجاهلي الجديد الذي
جاء ليقضي على الإسلام بلباس الإسلام. ولذلك، هنا الأمانة والمعرفة للقدرة وتشخيص
الأولويات.
ونحن اليوم مدعوون أن نمشي في خطى أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) كما في خطى
رسول الله وأنبياء الله العظام (عليهم السلام).
نحن أيها الإخوة والأخوات، في هذه المرحلة كما في كل المراحل السابقة، معنييون
جيداً أن نحدد المسؤوليات وأن نحدد الأولويات، وأن نعرف مقدّراتنا، وأن نتحمّل
مسؤوليتنا على ضوء الأولويات والمقدّرات، في أي ساحة، في أي ميدان، ونمشي فيها
بمعزل عن هذا الصراخ من هنا أو ذاك الصراخ من هناك.
حسبنا في هذه الدنيا، حسبنا في هذا العمر المتاح لنا، أن نؤدي رسالتنا الإنسانية،
ومسؤوليتنا الشرعية، وأن نقف بين يدي الله سبحانه وتعالى بريئي الذمّة وقد أدّينا
حقّ العبودية له حينئذٍ نكون جديرين بأن نحشر مع أنبياء الله وأولياء الله ومع سيد
الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام).
السلام عليك يا سيدي ومولاي يا أبا عبد الله الحسين يا ابن رسول الله وعلى الأرواح
التي حلّت بفنائك عليكم مني جميعاً سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار ولا
جعله الله آخر العهد مني لزيارتكم السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد
الحسين وعلى أصحاب الحسين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
2015-10-22