يتم التحميل...

حبّ الدنيا

التربية الجهادية

وفي الحديث المشهور المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام: "حب الدني رأس كل خطيئة". تبيّن هذه النصوص الشريفة بشكل واضح أن الاكتفاء والرض بالحياة الدني والاطمئنان إليه يمكن أن يكون سبب للكثير من المشاكل

عدد الزوار: 252

المشكلة في حبّ الدنيا: يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ الَّذينَ ل يَرْجُونَ لِقاءَن وَرَضُو بِالْحَياةِ الدُّنْي وَاطْمَأَنُّو بِه وَالَّذينَ هُمْ عَنْ آياتِن غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِم كانُو يَكْسِبُونَ1. وفي الحديث المشهور المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام: "حب الدني رأس كل خطيئة"2. تبيّن هذه النصوص الشريفة بشكل واضح أن الاكتفاء والرض بالحياة الدني والاطمئنان إليه يمكن أن يكون سبب للكثير من المشاكل والتي منه دخول النار والعياذ بالله، لأن الرض بالحياة الدني يكشف عن غفلة الإنسان عن الله والحياة الحقيقيّة في الآخرة. وم العذاب في الآخرة إل بسبب هذه الغفلة. فالآية لم تذمّ الذين يعيشون في الدنيا، يأكلون ويشربون ويتمتّعون، بل الذين تعلّقت قلوبهم بالدني واطمأنّو بها، واختاروه بدل عن رض الله والحياة الآخرة وتشبّثو به حتى نسو الله والدار الآخرة، ﴿الَّذينَ اتَّخَذُو دينَهُمْ لَهْو وَلَعِب وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْي فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَم نَسُو لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذ وَم كانُو بِآياتِن يَجْحَدُونَ3. والمجاهد في سبيل الله هدفه الأول والأخير هو الله سبحانه وتعالى والحياة الخالدة في جنان القرب عند المليك المقتدر، حيث ل تعب ول نصب، بل روح وريحان، سرور ل ينتهي وحبور دائم. لذ فإن كل م يشغل المجاهد عن هدفه الأصلي هو عنده مذموم ول قيمة له، بل و ل يستحق منه أدنى التفاتة وانتباه. من هن كانت الدني عند المجاهد ل تساوي عنده عفطة عنز كم هي عند سيّده ومولاه إمام المجاهدين علي عليه السلام وهو القائل: "والذي فلق الحبة وبر النسمة لول حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر، و م أخذ الله سبحانه على العلماء أن ل يقارّو على كظّة ظالم و ل سغب مظلوم لألقيت حبله على غاربه ولسقيت آخره بكأس أوّله و لألفيتم دنياكم هذه عندي أزهد من عفطة عنز"4. وهو سلام الله عليه القائل أيضاً: "ي دني أبي تعرّضت أم إليّ تشوّقت هيهات هيهات غرّي غيري"5.

حب الدني في الآيات والروايات: لقد استفاضت الآيات والروايات في الحديث عن الدني والتحذير من مغبّة التعلّق به وحبّه والاكتفاء بها، لأن ذلك يحرف الإنسان عن جادّة الحق وصراطه المستقيم، ومن هذه الأدلّة م يلي: قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْكافِرينَ مِنْ عَذابٍ شَديدٍ الَّذينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْي عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَه عِوَج أُولئِكَ في‏ ضَلالٍ بَعيدٍ6. وقوله عزّ اسمه: ﴿أُولئِكَ الَّذينَ اشْتَرَوُ الْحَياةَ الدُّنْي بِالْآخِرَةِ فَل يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَل هُمْ يُنْصَرُون7 وقوله: ﴿فَأَمَّ مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْي فَإِنَّ الْجَحيمَ هِيَ الْمَأْوى﴾،8 وقوله: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْي وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى9. وقوله تعالى: ﴿وَمَ الْحَياةُ الدُّنْي إِل لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذينَ يَتَّقُونَ أَفَل تَعْقِلُونَ10، وقوله تعالى ﴿وَمَ الْحَياةُ الدُّنْي إِل مَتاعُ الْغُرُورِ11. وفي هذ إشارة واضحة إلى أن م ل يتوصّل به من أمور الدني إلى سعادة الآخرة أمور وهمية عديمة النفع وسريعة الزوال، وهي لعبٌ يُتعب الناس به أنفسهم إتعاب الصبيان في الملاعب من غير فائدة، ولهذ فهي لهو يلهون به أنفسهم عمّ يهمّهم، وهذه الحالة ترافق الإنسان في مراحل حياته المختلفة لكنّه كلم ارتقى من مرحلة عمرية إلى أخرى أدرك أن تعلّقه في الدني كان وهم ولعباً. وفي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خبر المعراج قال: "قال الله تبارك وتعالى: ي أحمد لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض ويصوم صيام أهل السماء والأرض ويطوي عن الطعام مثل الملائكة ولبس لباس العابدين ثم أرى في قلبه من حب الدني ذرّة أو سمعته أو رئاسته أو صيته أو زينته ل يجاورني في داري ولأَنزعنّ من قلبه محبتي ولأُظلمنّ قلبه حتّى ينساني ول أذيقه حلاوة محبتي"12. وعن الصّادقِ عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿إِلَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ13 قال: "هو القلب الذي سلِم من حب الدنيا"14. وعن الإمام علي عليه السلام قال: "إن كنتم تحبّون الله فأخرجو من قلوبكم حب الدنيا"15، وعنه عليه السلام أيض أنه قال: "إنك لن تلقى الله سبحانه بعمل أضرّ عليك من حب الدنيا"16. وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "في مناجاة موسى عليه السلام: ي موسى إن الدني دار عقوبة، عاقبتُ فيه آدم عند خطيئته، وجعلته ملعونة، ملعون م فيه إل م كان فيه لي. ي موسى إن عبادي الصالحين زهدو في الدني بقدر علمهم، وسائر الخلق رغبو فيه بقدر جهلهم، وم من أحد عظّمه فقرّت عيناه فيها، ولم يحقّره أحد إل انتفع بها"17.

منش حبّ الدنيا: منش حب الدني والتعلّق به والاستغراق في ملذّاته وشهواته يعود إلى أمرين أساسيّين: الأول: توهّم الإنسان أن كماله وسعادته وراحته في هذه الحياة الدني وشهواته من دون إعطاء أهميّة لرض الله ولقائه. الثاني: جهل الإنسان بحقيقة الحياة الدني الفانية، وبدوره الحقيقيّ والمرحلي في حياة الإنسان، وأنه دار ممرٍّ وامتحان وتكليف، دون أن يخطر في بال هذ المسكين أن الدني فانية وزائلة ل محالة كم أخبر الله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْه فانٍ18، وأنّه لم تدم لغيره حتى تبقى له. فكيف يجد الإنسان سعادته في أمر فان؟! وكيف يعلّق آماله على شيء زائل ووضيع؟! فكلّ من يركن إلى الحياة الدني وينجذب إليه ول يتورّع عن الدخول في حرامه ويسرف في حلاله لن يلبث أن يقع في المعصية التي إن أصرّ عليه أهلكته ل محالة. لذ كان بغض الدني بمعنى عدم الركون إليه والاغترار به هو من أفضل الأعمال كم ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "م من عمل أَفضل عند اللَّه بعد معرفة اللَّه ومعرفة رسوله وأَهل بيته من بغض الدنيا"19.

الدني مزرعة الآخرة: إن الحياة الحقيقيّة والأبديّة للإنسان ميسّرة في عالم الآخرة فقط، أم الحياة الدني فمتاعه قليل وهي فانية وزائلة ﴿قُلْ مَتاعُ الدُّنْي قَليلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى20، ولكنّ هذ ل يعني أن ل قيمة لهذه الحياة الدنيا. فإذ عرف الإنسان حقيقة الحياة الدني ودوره وأدرك أنه مقدّمة للحياة الحقيقيّة الخالدة في عالم الآخرة، والتفت إلى أن اللحظات القصيرة التي جعله الله تعالى له في الدني ستكون مفتاح لكنوزه الأخرويّة الأبديّة، وإذ فهم ماهيّة العلاقة بين الدني والآخرة وتأثير حياته الدنيويّة على حياته الأخرويّة الخالدة، وعرف أنه ل بدّ من الزراعة هن حتى يتمّ الحصاد هناك كم قال عيسى عليه السلام: "بحقٍّ أقول لكم إن الدني خلقت مزرعة يزرع فيه العباد الحلو والمرّ والشر"21، وأنّ أولي النعمة هناك هم الذين أنجزو أعمال هن وسعو وجدّو من أجل تلك الحياة وتحصيل السعادة فيها. عنده سوف يدرك الإنسانُ أنَّ للدني دور وتأثير إيجابي جدّ في ارتقائه وتكامله، فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: "إنّم الدني دار ممرّ والآخرة دار مستقرّ، فخذو من ممرّكم لمستقرّكم"22. والإنسان الذي يتمتّع بهذه المعرفة لن يعادي الحياة الدني لأنه سيدرك هذه الحقيقة، وهي أنّه كلّم استمرّ وجوده في الدني أكثر كان قادر على التكامل أكثر، وإنجاز المزيد من الأعمال الصالحة وبالتالي بلوغ مقامات أخرويّة أسمى. فالروايات والأدعية المرويّة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام والتي تتحدّث عن طلبهم طول العمر من الله قائمة على هذه الرؤية والاستنتاج المذكور. لقد كانو على علم بأن الحياة الدني يمكن أن تكون وسيلة لنيل السعادة الأخرويّة. والتعابير الواردة في الروايات نظير "الدني مزرعة الآخرة"23 تشير إلى هذه الحقيقة وهي أن على الإنسان أن يعمل في الدني لكي ينال السعادة الدائمة في الآخرة. فهذه الحياة مرحلة ل بدّ أن نجتازه ووسيلة ينبغي أن نستخدمه في مجاله وبصورة صحيحة، وأداة يجب الاستفادة منه بدقّة كي ننال سعادتن والحياة اللائقة بن في العالم الخالد. وفي هذه الحالة فقط يرغب الإنسان أن تطول فترة حياته الدنيويّة كي يوفّق للمزيد من الأعمال الصالحة. لذ وحدهم الشهداء يتمنّون الرجوع إلى الدني للقتال والجهاد لم يرونه من ثواب الله وفضله. فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "م من أحد يدخل الجنّة فيتمنّى أن يخرج منه إل الشّهيد فإنّه يتمنّى أن يرجع فَيقتل عشر مرّات ممّ يرى من كرامة الله"‏24. أم تمنّي الموت من قبل أولياء الله وشهدائه كم قال مولى الموحّدين علي بن أبي طالب عليه السلام: "والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه"25 فهو من أجل لقاء محبوبهم بعد الموت حيث فصلتهم الحياة المادّية عنه، وبالموت يرتفع هذ المانع وينالون لقاء محبوبهم. وهذ ل يتنافى مع طلبهم البقاء والدوام في هذ العالم كم ذكرنا، فهم من جهة يطلبون بقاءهم لكي يستعدّو بنحوٍ أفضل للّقاء، ويتمنّون الموت من جهة أخرى شوق للقاء محبوبهم. فالمقصود الأصلي للإنسان هو النعم الأخرويّة والكرامات الإلهية ورض الله تعالى.

الدني الممدوحة والدني المذمومة: في الحديث المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "حب الدني رأس كل خطيئة"26، ولكن ينبغي التنبيه إلى أنه ليس المقصود من حب الدني والتعلّق بها، حبّ الطبيعة من الجبال والأنهار وغيره أو حبّ الناس، بل المراد بحبّ الدني تعلّق القلب بهذه الأمور بحيث تشكّل عائق أمام ارتقاء الإنسان وسفره نحو الآخرة والحق. وبشكل أدقّ إن تعلّق القلب بملذّات الدني وشهواته وأمواله وزينته الى الحدّ الذي يحول دون توجّه عقل الإنسان وقلبه وفكره وعمله إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى الحدّ الذي يدفعه إلى الوقوع في الحرام ومن دون اعتبار للوقفة في المحكمة الإلهية هو الأمر القبيح والمذموم، وهو الذي قالت عنه الروايات الشريفة أنه رأسُ كلّ ذنبٍ وخطيئة، ففي الحديث أنَّه ممّ وَعظ به الله تعالى عيسى عليه السلام: " ي عيسى.. واعلم أَن رأس كل خطيئة وذنب هو حب الدني فل تحبه فإني ل أحبّها"27. وذلك لأن الدني والآخرة ل يجتمعان، وحبه وحب الله في القلب ل يلتقيان كم جاء عن مولى الموحّدين عليه السلام أنه قال: "كم أَن الشمس والليل ل يجتمعان كذلك حب اللَّه وحب الدني ل يجتمعان"28. وإذ أردن أن نختصر الأمر نقول أن الدني في الحقيقة دنياءان: دني ممدوحة ودني مذمومة، كم قال إمامن السجاد عليه السلام: "الدني دنياءان: دني بلاغ، ودني ملعونة"29 وليس طلب مطلق الدني وطيّباته حرام ومذموم ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي‏ أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذينَ آمَنُو فِي الْحَياةِ الدُّنْي خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ30. ذات يوم جاء رجل إلى الإمام الصادق عليه السلام وقال له: "إنّ لنطلب الدني ونحبّ أن نؤتاها، فقال: تحب أن تصنع به ماذا؟ قال: أعود به على نفسي وعيالي، وأصل به وأتصدّق، وأحجّ وأعتمر، فقال أبو عبد الله عليه السلام: ليس هذ طلب الدنيا، هذ طلب الآخرة"31. وورد في نهج البلاغة أن شخص ذمّ الدني في محضر الإمام علي عليه السلام فعارضه الإمام عليه السلام بشدّة قائلاً: "أيه الذامّ للدنيا، المغترّ بغرورها، المخدوع بأباطيلها، أتغترّ بالدني ثم تذمّها؟ - إلى أن قال - إن الدني دار صدق لمن صدّقه ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتّعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلّى ملائكة الله ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله..."32. فالحياة الدني بنفسه غير مذمومة بل إن علاقة الإنسان به وانخداعه واغتراره به وغفلته عن الآخرة وانشغاله بالدني إلى الحدّ الذي ينسى معه الله تعالى ولقاءه هو المذموم. فالذمّ يتوجّه أوّل إلى سلوك الإنسان وعلاقته بالدنيا. هذه العلاقة التي قد تقوده إلى الوقوع في الحرام أو الإسراف في طلب حلال الدني دون حسيب أو رقيب، ودون الرجوع إلى الحدود والضّوابط الشرعيّة والأحكام الإلهية، والله تعالى هو القائل في كتابه الكريم: ﴿وَكُلُو وَاشْرَبُو وَل تُسْرِفُو إِنَّهُ ل يُحِبُّ الْمُسْرِفينَ33، ﴿كُلُو مِنْ طَيِّباتِ م رَزَقْناكُمْ وَل تَطْغَوْ فيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبي‏ وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبي‏ فَقَدْ هَوى34. ‏فإن نقطة الانحراف الأساس والتي تنش منه كلّ العيوب هي الإفراط في اهتمام الإنسان بالدني وتعلّق قلبه به وابتغاؤه بصورة مستقلّة وجعله المنتهى والهدف.

علاج حب الدنيا: يجب على الإنسان المجاهد أن يحرص وبكلّ قواه على نبذ كل تعلّق له بالدنيا، لأنَّ القليل من هذ التعلّق المحرّم ربّم يؤدّي به إلى الحرمان والعذاب الأليم ولعنة الاستبدال، يقول تعالى ﴿يَ أَيُّهَ الَّذِينَ آمَنُو مَ لَكُمْ إِذَ قِيلَ لَكُمُ انفِرُو فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَ مِنَ الآخِرَةِ فَمَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَ فِي الآخِرَةِ إِل قَلِيلٌ * إِل تَنفِرُو يُعَذِّبْكُمْ عَذَابً أَلِيمً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمً غَيْرَكُمْ وَل تَضُرُّوهُ شَيْئً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ35. ولك أنْ تُلاحظ مدى دقّة كلمة ﴿اثَّاقلتم﴾ في الخطاب القرآني، إذ أن التعلّق بالدني دون الحياة الأخرى الأصيلة يثقل كاهل الإنسان ويعمي بصيرته فيرضى بم هو زائل وتافه أمام الدائم الأبدي! ولاحظ أيض أن الخطاب موجّه إلى خصوص المجاهدين، وهو صريح في بيان مراده من تعرية حقيقة الدني أمام المجاهد ليسهل عليه ترك تعلقه المدمر بها. والسبيل إلى ذلك من خلال ثلاثة أمور: الأول: أن يعرف أن الدني ليست هي الهدف ول الغاية، وأن السعادة فيه وضيعة وزائلة وغير باقية أصل ﴿وَم أُوتيتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْي وَزينَتُه وَم عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى‏ أَفَل تَعْقِلُونَ36. روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه رأى جابر بن عبد الله وقد تنفّس الصعداء فقال عليه السلام: "ي جابر على م تنفسك.. أعلى الدنيا؟ فقال جابر: نعم. فقال له الإمام: ي جابر ملاذ الدني سبعة: المأكول والمشروب، والملبوس، والمنكوح، والمركوب، والمشموم، والمسموع. فألذّ المأكولات العسل وهو بصق ذبابة. وأحلى المشروبات الماء وكفى بإباحته وسباحته على وجه الأرض. وأعلى الملبوسات الديباج وهو من لعاب دود. وأعلى المنكوحات النساء، وهو مبال في مبال، وإنم يراد أحسن م في المرأة أقبح م فيها. وأعلى المركوبات الخيل وهو قواتل. وأجلّ المشمومات المسك وهو دم من سرّة دابة37. وأجلّ المسموعات الغناء والترنم وهم إثم. فم هذه صفته لم يتنفّس عليه عاقل!! قال جابر بن عبد الله: فوالله م خطرت الدني بعده على قلبي"38. الثاني: على الإنسان العاقل أن يتذكّر الموت دائماً، ويعتبر منه، ويحدّث نفسه به بالليل والنهار، لأنه أبلغ حقيقة وأقوى برهان على أن الإنسان لم يُخلق لهذه الحياة الدنيا، ول للبقاء فيها. سأل أحدهم الإمام الباقر عليه السلام: "حدّثني بم أَنتفع به فقال: ي أَب عبيدة أَكثر ذكر الموت فإنه لم يكثر إنسان ذكر الموت إل زهد في الدنيا". ثالثاً: على المجاهد أن يصحّح نظرته إلى الدني ويدرك أن حياته ليست محصورة بهذه الحياة، بل هناك حياة أخرى خالدة وراءها. وأن يكتشف العلاقة الواقعيّة بين الدني والآخرة، من خلال المقارنة بينهم ليدرك أن علاقة الدني بالآخرة هي علاقة الطريق بالهدف، أو الوسيلة بالغاية، فالدني "دار ممرّ ل دار مقر"39 كم قال مولى الموحّدين علي بن أبي طالب عليه السلام. أمّ لو نظر إليه نظر إعجاب وافتتان بزينته واتّخذه هدف نهائيّ له، فسوف تكون رؤيته الخاطئة هذه منش للكثير من الأخطاء الفكريّة والسلوكيّة في المستقبل، لأنه اتّخذ الوسيلة هدف والطريق مقصداً. إن حال صاحب هذه الرؤية حال من يوفّر مستلزمات السفر إلى بلد م لأداء عمل م ضروري، وفي أثناء الطريق ينجذب إلى الخُضرة والمشاهد الجميلة حتى ينسى هدفه الأساس من الرحلة. الرابع: الزهد، فالذين يزهدون في الدنيا، ل يتخلّفون أبد عن الجهاد. يقول الإمام علي عليه السلام: "من زهد في الدني أعتق نفسه، وأرضى ربه"40. وحقيقة الزهد يوضحه القرآن الكريم بقوله تعالى ﴿لِكَيْلَ تَأْسَوْ عَلَى مَ فَاتَكُمْ وَلَ تَفْرَحُو بِمَ آتَاكُمْ41. فالمجاهد ل بّد وأن ل يتأثر ول يعير اهتمام لأعراض الدني الفانية، سواء م خسر منه أو م سيحصل عليه. فهو يتعامل مع الدني من موقع القوة، أي من موقع المعرفة بحقيقته والعالِم بحدودها، ولذ فهو ل يمكنه أن يتمسّك ويتعلّق بشيء منه مقابل طاعة الله تعالى. وهذه المعرفة والقوة، هي بوابة الحرية الحقيقية للإنسان المجاهد الذي يأبى الخضوع للاستكبار والظلم والتعدّي، وفي ذات الوقت فإنَّهُ يأبى الخضوع للدني وكلِّ زينته الآنية.

* كتاب التربية الجهادية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- يونس، 7-8. 2- وسائل الشيعة، ج16، ص9. 3- الأعراف،51، 4- غرر الحكم، ص121. 5- بحار الأنوار،ج33،ص274. 6- إبراهيم، 2-3. 7- البقرة، 86. 8- النّازعات، 37-39. 9- الأعلى، 16-17. 10- الأنعام، 32. 11- آل عمران، 185. 12- مستدرك الوسائل، ج12، ص36. 13- الشعراء، 89. 14- مستدرك الوسائل، ج12، ص40. 15- مستدرك الوسائل، ج12، ص40 16- م.ن. 17- الكافي، ج2، ص 317 18- الرحمن، 26. 19- مستدرك الوسائل، ج12، ص36. 20- النساء، 77. 21- بحار الأنوار، ج14،ص 312. 22- غرر الحكم، ص 149. 23- عوالي‏ اللآلي، ج1، ص267. 24- مستدرك الوسائل، ج11، ص13. 25- بحار الأنوار، ج28، ص234. 26- وسائل الشيعة، ج16، ص9. 27- الكافي، ج8، ص131. 28- مستدرك الوسائل، ج12، ص 42 29- الكافي، ج2، ص131. 30- الأعراف، 32. 31- أصول الكافي، ج5،، ص72. 32- بحار الأنوار، ج70، ص 100. 33- الأعراف، 31. 34- طه، 81. 35- التوبة، 38-39. 36- القصص، 60. 37- بحار الأنوار، ج75، ص11. 38- الكافي، ج2، ص131. 39- ميزان الحكمة، ج2، ص919. 40- عيون الحكم والمواعظ، ص462. 41- الحديد، 23.

2015-09-10