أكبر الكبائر 2- السِّحر، الزِّنا، اليمين الغموس، الغلول...
مآب المذنبين
حدّد الدين الإسلامي عدداً من الموبقات وعدّها من أكبر الكبائر، للمفاسد العظيمة الناشئة عن الابتلاء بها وممارستها والقيام بنشرها في المجتمع، ولقد"قمنا في الدَّرس السَّابق باستعراض مجموعة من تلك الكبائر العظيمة، وفي هذا الدَّرس سنكمل استعراض مجموعة أخرى من الكبائر العظيمة.
عدد الزوار: 411أكبر الكبائر 2- السِّحر، الزِّنا، اليمين الغموس، الغلول، شهادة الزُّور وكتمان الشَّهادة، نقض العهد
تمهيد:
حدّد الدين الإسلامي عدداً من الموبقات وعدّها من أكبر الكبائر، للمفاسد العظيمة
الناشئة عن الابتلاء بها وممارستها والقيام بنشرها في المجتمع، ولقد"قمنا في
الدَّرس السَّابق باستعراض مجموعة من تلك الكبائر العظيمة، وفي هذا الدَّرس سنكمل
استعراض مجموعة أخرى من الكبائر العظيمة.
السِّحر:
السِّحر هو: "ما يعمل من كتابةٍ، أو تكلّمٍ، أو دخنةٍ، أو تصويرٍ، أو نفثٍ، أو عقدٍ،
ونحو ذلك، بحيث يؤثّر في بدن المسحور، أو قلبه، أو عقله، فيؤثّر في إحضاره، أو
إنامته، أو إغمائه، أو تحبيبه، أو تبغيضه، ونحو ذلك، ويلحق به الكهانة، والشَّعبذة،
والتَّسخير، والتَّنجيم"1.
وهو من الذُّنوب التي ورد التصريح بأنّها من الكبائر، قال تعالى:
﴿وَاتَّبَعُوا مَا
تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ
الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحر وَمَا أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتَّى
يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا
يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ
أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا
يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ
خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون`﴾2.
وورد عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: "ثلاثةٌ لا يدخلون الجنّة: مدمنُ خمرٍ،
ومؤمنُ سحرٍ، وقاطعُ رحمٍ"3.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من تعلّم شيئاً من السِّحر - قليلاً أو كثيراً
- فقد كفر، وكان آخر عهده بربّه، وحدّهُ أن يُقتل إلا أن يتوب"4.
وأما حدُّ السَّاحر المسلم في الشَّرع فهو القتل، في الحديث عن رسول الله صلى الله
عليه واله وسلم قال: "ساحر المسلمين يقتل، وساحر الكفّار لا يقتل، قيل: يا رسول
الله، ولِم؟ فقال صلى الله عليه واله وسلم: لأنّ الكفر أعظم من السِّحر؛ ولأنّ
السِّحر والشِّرك مقرونان"5، ومعناه أنّه إذا كان الكافر غير الحربي لا يقتل بسبب
كفره، فبطريق أولى أنّه لا يقتل بسبب سحره؛ فالكفر أعظم من السِّحر، وأمّا ساحر
المسلمين فيقتل؛ لأنه اقترب من الشِّرك.
أنواع السِّحر:
1. الكَهانـَةُ:
الكهانة هي الإخبار عن الأمور المستقبلية، والتنبّؤ بها، اعتقاداً بوصولها من بعض
طوائف الجن، أو بمقدمات وأسباب تنبؤّهم بالمستقبل، كأن يكتشف من خلال كلمات، وحالات،
وتصرّفات السائل، بعض الأمور المستقبلية أو الخفيّة.
والكهانة حرام باتّفاق جميع الفقهاء، كما أنّ تعلّم السِّحر، وتعليمه، وعمله،
والذَّهاب للكاهن لأجل التكهّن حرام أيضاً، بل ذكر بعض الفقهاء أنّ الكهانة من
أقسام السِّحر.
رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام: "من تَكهّن أو تُكهّن له، فقد برِئ من دين محمد
صلى الله عليه واله وسلم "6.
2. الشَّعبذة والتَّسخير:
الشَّعبذة "وهي الحركات السريعة التي يترتّب عليها الأفعال العجيبة، بحيث يلتبس على
الحسّ الفرق بين الشيء وشبهه؛ لسرعة الانتقال منه إلى شبهه"7، كما في فرارة النار،
حيث ترى العين دائرةً كاملة من النار؛ نظراً لسرعة حركة الفرارة، في حين أنّ الأمر
ليس كذلك في الواقع، ومثل من يركب السيّارة أو الباخرة، فيرى كأنّه هو الساكن،
والأرض أو البحر هو المتحرّك.
والشعوذة حرام باتّفاق جميع الفقهاء، وهي من أقسام السِّحر، وقد دلّت الروايات على
حرمة هذا الفعل خصوصاً أنه يترافق ولفت الناس عن الله تعالى وعبادته وحرفهم عن
محجّة أوليائه المعصومين عليهم السلام، لأنَّ السَّاحر والمشعبذ يدعو لنفسه، ويشابه
الله في مخاريق لا يقدر على الإتيان بها غيرُه، وكأنَّه ندٌّ لله تعالى في أرضه!
فعن الإمام الصادق عليه السلام أنَّه قال: "لعن الله المغيرة بن سعيد ولعن الله
يهوديَّةً كان يختلفُ إليها يتعلَّم منها السّحر والشّعبذة والمخاريق إنَّ المغيرةَ
كذب على أبي فسلبه الله الإيمان، وإن قوماً كذبوا عليّ، ما لهم؟ أذاقهم الله حرَّ
الحديد"8.
وأمّا التَّسخير، فهو استخدام المَلَك، أو الجنّ، أو أرواح البشر، أو سائر
الحيوانات، وغير ذلك. والتَّسخير حرام، وعُدّ من أقسام السِّحر.
3. التنجيم:
هو الإخبار القطعي الجازم عن حوادث كونية، كالقحط والكثرة، وزيادة الأمطار وقلّتها،
وأمثال ذلك من أنواع الخير والشرّ، والنفع والضرّ، اعتماداً على حركات الأفلاك،
واتصالات الكواكب، اعتقاداً بأنّها مستقلَّةٌ في التَّأثير على عالمنا.
أمّا الإخبار عن هذه الأمور بنحو الاحتمال، ومن دون الاعتقاد باستقلاليَّة الأفلاك
في التَّأثير، بل الاعتقاد بأنّ الله تعالى هو المؤثِّر الحقيقيّ، فمثل ذلك جائزٌ
كالتنبُّؤ بالكسوف والخسوف، وتقارب النُّجوم، وتباعدها عن بعضها، فإنَّه لا مانع من
ذلك، إذ أنَّ مثل هذه الأخبار تُعرف بواسطة الحسابات الدَّقيقة لحركات الأفلاك
والكواكب، ومداراتها وأوضاعها، ولها أصولٌ وقواعدُ مضبوطةٌ.
وبالجملة، فالمحرَّم من التَّنجيم هو الإخبار القاطع الجازم بالحوادث الكونيَّة،
باعتقاد أنَّها من آثار الأفلاك وحركاتها، وهذا القسم من علوم النُّجوم ملحق
بالسِّحر.
الزِّنا وآثاره:
الزِّنا هو وطء المرأة من غير عقدٍ شرعي دائمٍ أو منقطع، ويتحقّق ذلك بإدخال الرجل
ذكَره في فرج امرأة تحرم عليه بالأصالة9.
فالزِّنا من الأمراض الاجتماعية الفتّاكة والخطيرة، والتي تؤدّي إلى تمزّق المجتمع،
وإلى قطع الأنساب، والفتن بين النَّاس، وله مفاسدُ عظيمةٌ إلى الحدّ الذي قرنه الله
تعالى بالشِّرك به، قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ
وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَ بِالْحَقِّ وَلاَ
يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ آثَاماً﴾10.
وروي عن الإمام الرضا عليه السلام قال: "لا يزني الزَّاني حين يزني وهو مؤمن"، فسُئِل عن معنى ذلك، فقال:
"يفارقه روح الإيمان في تلك الحالة حتَّى يتوب"11.
وفي رواية عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة
رجلٌ أقرّ نطفته في رحِمٍ يحرم عليه"12.
وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه واله وسلم قال: "في الزِّنا خمس خصال: يذهب بماء
الوجه، ويورث الفقر، وينقص العمر، ويسخط الرَّحمن، ويخلّد في النار، نعوذ بالله من
النَّار"13، وعنه صلى الله عليه واله وسلم أيضاً قال: "إذا كثر الزِّنا من بعدي،
كَثُرَ موت الفجأة"14.
ومن آثار الزِّنا أيضا أنّه يذهب البركة، ويسبّب خراب الدور، روي عن رسول الله صلى
الله عليه واله وسلم: "أربع لا تدخل بيتاً واحدةٌ منهنّ إلا خرب، ولم يعمر بالبركة:
الخيانة، والسرقة، وشرب الخمر، والزِّنا"15.
مقدمات الزِّنا:
من أهمّ المقدّمات التي تدفع الإنسان إلى الزِّنا: النظر المحرّم، والخلوة
والاختلاط المحرَّمين، الذين يعدّان أرضاً خصبةً جداً للوقوع في فتنة النظر وشهوتها،
والتي هي بدورها سبب رئيس للوقوع لاحقاً في الزِّنا، والعياذ بالله. وفيما يلي نذكر
نبذةً عن هذه المقدمات:
1. الخلوة المحرمة16:
الاختلاط - بشكل عامّ - هو أرضٌ خصبةٌ للوقوع في الكثير من الانحرافات السلوكيّة،
التي قد تستدرج الإنسان ليجد نفسَه في لحظةٍ ما قد فَقَدَ كلّ الدفاعات النفسيّة
التي تقف في وجه وسوسات الشّيطان والنفس الأمّارة بالسوء، وأصبح صريعاً تحت سلطة
إبليس اللعين، بعيداً عن الرّحمة الإلهيّة، من هنا كان للاختلاط خطورته الخاصّة،
التي تُحتِّم معرفة الحدود الشّرعيّة، والتي تمنع الإنسان من الوقوع في شَرَك إبليس
وجنوده، وتؤمّن له الحماية والحصانة الكافيتين؛ ليبقى عزيزاً في هذه الدّنيا، فائزاً
في الآخرة.
2. الاختلاط المحرّم:
حرّمت الشريعة المقدّسة نوعاً من الاختلاط، وهو الاختلاط الذي يصل إلى حدّ الخلوة
بين الرجل والمرأة الأجنبيّين، ضمن شروطٍ يذكرها الإمام الخميني بقوله: "إذا اجتمع
الرجل والمرأة في محلّة خلوة، بحيث لم يوجد أحدٌ هناك، ولا يتمكّن الغير من الدخول،
فإن كانا يخافان الوقوع في الحرام فيجب أن يتركا المكان"17.
ويكفي أن يكون الحرام بمقدار النظرة المحرّمة، فمثل هذه الخلوة محرّمة بنفسها، وفي
الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "لا يخلونّ رجل بامرأة؛ فما من رجلٍ خلا بامرأةٍ
إلّا كان الشَّيطان ثالثهما"18.
ضوابط الاختلاط الحلال:
هناك العديد من الحدود التي يجب أو ينبغي الالتفات إليها واجتنابها عند الاضطرار
إلى الاختلاط، نشير إلى بعضها:
1. ترك الخضوع في القول: بمعنى الميوعة في طريقة الكلام، وقد نهى الله تعالى عن ذلك
في قوله تعالى:
﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ
اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ
وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾19.
2. عدم الإمعان في النظر: يقول تعالى:
﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ
خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ...
﴾20، فعلى المؤمنين والمؤمنات
أن يغضّوا من أبصارهم، ومعنى الغضّ في اللغة: الخفض والنقصان من الطرف، وغضّ البصر
يعني عدم التحديق والإمعان في الشيء.
روي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه واله وسلم: "اشتدّ غضب الله على امرأة ذات بعل
ملأت عينها من غير زوجها، أو غير ذي محرَم منها، فإنّها إن فعلت أحبط الله (عزّ وجلّ)
كلّ عمل عملته..."21، وعن الإمام الصادق عليه السلام: "النظرة سهمٌ من سهام إبليس
مسموم، وكم من نظرة أورثت حسرة طويلة"22، وعنه عليه السلام: "النظرة بعد النظرة
تزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة"23.
3. ترك المزاح والهزل: ينبغي أن يحافظ كلّ من المرأة والرجل على رصانتهما عند
الاختلاط، فلا تطلق المرأة العنان لنفسها لتظهر وكأنّها ذات شخصيّة خفيفة، تميل مع
الأهواء بسهولة، فكثرة المزاح والضحك هو من أكثر الأمور التي تُظهر خفّة المرأة،
وعدم رصانتها في المجتمع المختلط، وكذلك الرَّجل أيضاً، وفي الرواية عن رسول الله
صلى الله عليه واله وسلم: "من فاكه امرأةً لا يملكها حبسه الله بكلّ كلمة في الدنيا
ألف عام"24. فالمزاح يرفع الحواجز النفسيّة، ويمهّد الطريق أمام أيّ انزلاق محتمل.
علاج الزِّنا:
ينقسم العلاج إلى قسمين:
علاج علمي: وذلك من خلال التأمّل والتدبّر بالآثار الوخيمة لهذه الفاحشة العظيمة،
سواء أكان على مستوى الفرد أم على مستوى المجتمع، ومراجعة الروايات الواردة في هذا
الشأن.
العلاج العملي: يكون العلاج ضمن القيام بخطوات من شأنها الوقاية والتحصين من الوقوع
في الزِّنا، وذلك من خلال الابتعاد عن المقدّمات التي قد تكون أسباباً موجبةً للزنا،
سواء أكانت أسباباً قريبةً أم أسباباً بعيدةً، من قبيل:
1-الابتعاد عن أماكن الاختلاط بين النساء والرجال، وإذا فُرِض هكذا نوع من الاختلاط،
فلا بدّ من مراعاة الضوابط الشرعية.
2- الالتفات إلى النظر، وصرفه عن الوقوع في المحرم.
3- الابتعاد عن الخلوة المحرّمة، وهي الخلوة بين الرجل والمرأة، ولها تفاصيل في
الفقه يمكن مراجعتها.
اليمين الغموس:
اليمين الغموس من الكبائر التي نصّت عليها الروايات الشريفة، ولها عدّة أقسام:
- اليمين المؤكِّدة لأمور ماضية أو مستقبلية.
- اليمين اللغو، التي تخرج من غير قصد لحقيقتها.
- اليمين الكاذبة على أمرٍ ماض.
واليمين الغموس تتعلق بالقسم الثالث، ويمكن تعريفها بأنّها: "اليمين الكاذبة،
وصورتها: أن يحلف على أمر ماضٍ كذباً"، وهي من الكبائر، وقد مرّ ذكرها في رواية
السيد عبد العظيم الحسني، وقد عدّها الإمام عليه السلام من الكبائر.
وعرّفها الشهيد الثاني: "الحلف على الماضي كاذباً متعمّداً، بأن يحلف أنّه ما فعل،
وقد كان فعل، أو بالعكس، وإنّها محرمة، وإنّها سمّيت غموساً؛ لأنّها تغمس الحالف في
الذَّنب أو النَّار، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "اليمين الغموس التي توجب
النَّار الرّجل يحلف على حقِّ امرئٍ مسلمٍ على حبس ماله"25، وعنه عليه السلام في
رواية أخرى قال: "من حلف على يمين وهو يعلم أنّه كاذب فقد بارز الله عزّ وجلّ"26. وهي سبب للحرمان من الرّحمة الإلهية، كما جاء في الحديث القدسي، قال الله عزّ وجلّ:
"لا أنيل رحمتي من يعرّضني للأيمان الكاذبة..."27.
الغلول:
يقال: "غَلَّ من المْغَنَم، يَغُل (بالضم) غُلولاً، خان، والإغلال: الخيانة"28،
والغلول أخذ شيء من غنيمة الحرب خفية29.
قال تعالى:
﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا
يُظْلَمُونَ﴾30. "نزلت في حرب بدر، وكان سبب نزولها أنّه كان في الغنيمة التي
أصابوها يوم بدر قطيفة حمراء، ففقِدت، فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه
واله وسلم: ما لنا لا نرى القطيفة؟! ما أظنّ إلا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم
أخذها، فأنزل الله في ذلك
﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُل﴾
إلى قوله:
﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾، فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، فقال:
"إنّ
فلاناً قد غلّ قطيفة، فاحتفرها هنالك، فأمر رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بحفر
ذلك الموضع، فأخرج القطيفة"31.
وروي عن الإمام الصَّادق عليه السلام: "الغلول كلُّ شيء غُلَّ عن الإمام، وأكلُ مال
اليتيم شبهةٌ، والسُّحتُ شبهةٌ"32.
ومن مصاديق الغلول الاستخدام المفرِط للمال العام، والاستخدام الشَّخصي للممتلكات
العامَّة، كالاستخدام الشَّخصي للسيَّارات، والآلات، والعُدَد المملوكة للجهة،
والقرطاسيّة، والهواتف، وأجهزة الحاسوب، وآلات التصوير، والطّباعة، وأيّ استخدام
شخصيٍّ آخر لا يكون لصالح العمل الرسميّ. وبالجملة، يحرُم الأخذ من مال المسلمين (أو
ما يُسمّى بالمال العام) بغير حقٍّ، على أيِّ وجه كان، ويحرم أيُّ كسبٍ يأتي على
حساب الوظيفة العامة استغلالاً، وتحرم المحاباة بإعطاء الامتيازات أو الحقوق لغير
مستحقيها، بناءً على المحسوبية في العطاءات، أو الوظائف، أو المِنح الدراسية، أو في
إعطاء كلِّ من لا يستحق في أيِّ مجالٍ كان، فهي تدخل كلّها في الغلول.
شهادة الزُّور:
شهادة الزُّور تعني أن يشهد الإنسانُ بغير الحقِّ إما بقول ولسانه وإما بأعماله،
وهي سببٌ لزرع الأحقاد والضَّغائن في القلوب؛ لأنّ فيها ضياع حقوق النَّاس، وظلمهم،
وطمس معالم العدل. فَمِنْ شأن شهادة الزُّور أنْ تُعينَ الظَّالم على ظلمه، وتعطي
الحقّ لغير مستحقّه، وتقوِّض أركان الأمن، وتعصف بالمجتمع وتدمّره، يقول الله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّور وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا
كِرَاماً﴾33، ويقول عزّ اسمه في آية أخرى:
﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور﴾
34 ويقول عزّ وجلّ أيضاً:
﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً﴾35.
حكم شهادة الزُّور وكتم الشَّهادة:
دلّت النُّصوص على حرمة كتمان الشَّهادة، وحرمة شهادة الزُّور على حدٍّ سواء، فعن
أبي عبد الله عليه السلام: "لا ينقضي كلام شاهد الزُّور من بين يدي الحاكم حتَّى
يتبوّء مقعده في النَّار، وكذلك من كتم الشَّهادة"36.
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: "من كتم
شهادةً، أو شهد بها؛ ليهدر بها دم امرئ مسلم، أو ليزوي بها مال امرئ مسلم، أتى يوم
القيامة ولوجهه ظلمة مدّ البصر، وفي وجهه كدوح تعرفه الخلائق باسمه ونسبه"37.
وعن النبي صلى الله عليه واله وسلم في حديث المناهي: "إنّه نهى عن شهادة الزُّور،
ونهى عن كتمان الشَّهادة، وقال: من كتمها أطعمه الله لحمه على رؤوس الخلائق، وهو
قول الله عزّ وجلّ:
﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهادة وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ
آَثِمٌ قَلْبُهُ﴾38.
والمستفاد من هذه الأخبار وغيرها أنّ شهادة الزُّور وكتم الشَّهادة من المحرمات
والكبائر39.
آثار شهادة الزُّور:
1. عذاب النار: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "شاهد الزُّور لا تزول قدماه
حتَّى تجب له النار"40، وعن أبي جعفر عليه السلام قال: "ما من رجلٍ يشهد بشهادة زور
على مال رجل مسلم ليقطعه، إلا كتب الله له مكانه صكاً إلى النار"41.
2. العذاب عند قبض الروح: عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث أن النبي صلى الله
عليه واله وسلم قال: "يا علي، إنّ ملك الموت إذا نزل فقبض روح الكافر نزل معه
بسفّود من نار، فينزع روحه، فيصيح جهنّم"، فقال علي عليه السلام: هل يصيب ذلك أحداً
من أمتك؟ قال: "نعم، حاكم جائر، وآكل مال اليتيم ظلماً، وشاهد زور"42.
3. شدّة العذاب يوم القيامة: عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال: "يُبعث
شاهد الزُّور يوم القيامة يدلع لسانه في النّار، كما يدلع الكلب لسانه في
الإناء"43.
4. نودي في الكاذبين: عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "من شهد على مؤمن بما
يَثْلِمُه، أو يَثْلِمُ ماله، أو مُرُوّتَه، سمّاه الله كاذبا"44.
علاج شهادة الزُّور:
الطريق الوحيد لمعالجة هذه الآفة وتجنّب آثارها ونتائجها الوخيمة هو التَّوبة إلى
الله من هذا الفعل القبيح، والعزم على عدم العود إليه مطلقاً، ومن ثمّ العمل على
جبر الآثار والنَّتائج السلبيّة لفعله، من خلال ردّ الأمانات، أو إعادة بذل
الشَّهادة الصَّحيحة قدر الوسع والمستطاع، حتَّى لا يترك باباً إلا وسعى إليه من
أجل ردِّ المظالم إلى أهلها.
سُئِل الإمام الصادق عليه السلام عن شاهد الزُّور: ما توبته؟ قال: "يؤدّي من المال
الذي شهد عليه بقدر ما ذهب من ماله إن كان النّصف، أو الثّلث إن كان شهد هذا وآخر
معه"45.
نقض العهد وعواقبه:
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: "لا تعتمد على مودّة من لا يفي
بعهده"46. إنّ أوّل وأهمّ عنصر يتسبّب في تقوية الروابط والعلاقات الاجتماعية بين
أفراد البشر، هو الوفاء بالعهود والمواثيق، بل يمكن القول: إنّ ميزان نجاح الأشخاص
في حياتهم الدنيوية يرتبط بمدى التزامهم بعهودهم، لذا يقرُّ الإمام عليه السلام
حقيقةً اجتماعية، مفادها: عدم الاعتماد على الأشخاص الذين لا يوفون بعهودهم. فنقضُ
العهد إذاً سوف يؤدّي إلى سلب الثِّقة بين أفراد المجتمع، وبالتَّالي سوف يتلاشى
عنصر الاتّحاد والتَّكاتف فيما بينهم، ولن يستطيعوا التصدِّي لعدوّهم المشترك، عن
رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنّه قال: "وإذا نقضوا العهد سلّط الله عليهم
عدوّهم"47.
فنقض العهد ليس من شيم المؤمنين الصالحين، بل هو من صفات الفاسقين والمنافقين.
والمؤمن عندما يتعهّد، يجب عليه أن يفي بالتزامه الذي قطعه على نفسه، أو الذي قطعه
للآخرين، قال الله تعالى:
﴿وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ
وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِين﴾48. وقد حرّم الله على المؤمنين نقض العهود،
وأوجب عليهم الوفاء بها، فقال:
﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ
مَسْؤُلاً﴾49، وقال تعالى في آية أخرى:
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُود﴾50.
وقد توعّد الله ناقض العهد بالعديد من العواقب منها:
1. الخسران العظيم: قال الله عزّ وجلّ:
﴿الَّذينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ
بَعْدِ ميثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ
فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُون﴾51.
3. أنه يكون شرّ الخلق عند الله: قال الله تعالى:
﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ
اللَّهِ الَّذينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ
يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ في كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُون﴾52.
علاج نقض العهد:
مما تقدّم من بحث "دوافع نقض الغرض وأسبابه" أصبح لدينا المعرفة الكافية بكيفية
تحصيل فضيلة الوفاء بالعهد، بالإضافة إلى طرق الوقاية من ضدّها، وعلاج مرض نقض
العهد.
ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله:
﴿مِنْ دَلائِلِ الإِيمـانِ الْوَفـاءُ
بِالْعَهْد﴾53. ويقول:
﴿مـا أيقن بِاللهِ مَنْ لَمْ يَرْعَ عُهُودَهُ
وَذِمَّتَهُ﴾54.
كما إنّ التفكرَّ والتأمّل في العواقب والآثار السلبيَّة لهذا الفعل القبيح يشكِّل
رادعاً لدى المؤمنين، فيمنعهم من اقتراف هذه الموبقة. فرغم ما يمكن أن يحصِّله
الإنسان من بعض الربح والمنفعة على المدى القصير بنقضه للعهود، إلا أنّه على المدى
الطويل قد يتسبّب ذلك في سقوط شخصيته، ومكانته بين الأصدقاء والأقرباء، وربما في
فضيحته في المجتمع، فيخسر بذلك ثقة الناس فيه، عن الإمام علي عليه السلام قال: "والخُلف
يوجب المقت عند الله وعند الناس"55.
1- تحرير الوسيلة، ج1، مسألة 16، ص498.
2- البقرة، 102.
3 - بحار الأنوار، ج71، ص90.
4 - وسائل الشيعة، ج17، ص148.
5 - وسائل الشيعة، ج17، ص146.
6 - وسائل الشيعة، ج17، ص149.
7 - الحدائق الناضرة، ج18، ص185.
8 - بحار الأنوار، ج64، ص280.
9 - الحرمة بالأصالة: أي هي ليست زوجته أصلاً، ويقابله الحرمة العرضية أو بالعرض،
وهي الحرمة المرتبطة بعنوانٍ جديد وعارض كالحيض، حيث يحرم وطء الحائض في هذه الحالة؛
وذلك للعنوان العارض (أي الحيض) وحكمه الحرمة باتفاق المسلمين.
10 - الفرقان، 68.
11 - بحار الأنوار، ج76، ص28.
12- الكافي، ج5، ص541.
13- الكافي، ص542.
14 - الكافي، ص541.
15 - بحار الأنوار، ج72، ص170.
16 - راجع: مكانة المرأة ودورها، إعداد جمعية المعارف الإسلامية (بتصرف).
17 - توضيح المسائل، مسألة 2445.
18 - جامع أحاديث الشيعة، ج20، ص309.
19- الأحزاب، 32.
20- النور، 29-30.
21 - وسائل الشيعة، ج20، ص232.
22 - وسائل الشيعة، ج20، ص191.
23 - وسائل الشيعة، ج20، ص192.
24 - وسائل الشيعة، ج20، ج14، ص143.
25 - الكافي، ج7، ص436.
26 - الكافي، ج7، ص435.
27 - وسائل الشيعة، ج23، ص208.
28 - اختيار معرفة الرجال، ص11.
29 - كتاب المكاسب، ج2، ص294.
30- آل عمران، 161.
31- بحار الأنوار، ج19، ص268-269.
32 - تفسير العياشي، ج1، ص140.
33- الفرقان، 72.
34 - الحج، 30.
35 - المجادلة، 2.
36 - وسائل الشيعة، ج18، ص237.
37- وسائل الشيعة، ج18، ص227.
38 - بحار الأنوار، ج104، ص310.
39 - راجع: كتاب الشهادات، ص10- 11.
40 - بحار الأنوار، ج101، ص301.
41 - بحار الأنوار، ج101، ص310.
42- وسائل الشيعة، ج27، ص325.
43 -مستدرك الوسائل،ج17ص4140
44- بحار الأنوار، ج101، ص312.
45- وسائل الشيعة، ج27، ص327.
46 - غرر الحكم، ص418.
47 - أصول الكافي، ج2، ص374.
48 - الأعراف، 102.
49 - الإسراء، 34.
50 - المائدة، 1.
51- البقرة، 27.
52 - الأنفال، 55-56.
53 - مستدرك الوسائل، ج16، ص97.
54- مستدرك الوسائل،ج11، ص201.
55 - بحار الأنوار، ج33، ص611.
56 - صحيفة الإمام، ج13 ، ص 360;